الاحصائيات المتقدمة

تقليص

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

على خُطى إبراهِيم د. كفاح أبو هنود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • Font Size
    #1

    على خُطى إبراهِيم د. كفاح أبو هنود




    أبا الأنبياء
    عليك الصلاة عليك السلام





    أبا الأنبياء



    الخطوةُ الأُولى




    " وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ "
    الابتلـــاء .. تلك هي قصّة بناء الكَعبة
    ومنها ابتدأت الحكاية
    فَمِن جُرح إبراهيم .. ومِن مُنتهى الألم .. ومن مسيرة التضحية
    كان التِئامُ حجارة البَيت !

    "وَإِذِ ابْتَلَىٰ"
    تُنَتبِّه الُّلغة هنا إلى عُمق المَعنى
    فالإبتلاء اختبار الله لكٌ ي
    فتح به أبواب سِرّك حتى تَشفّ الحَقائق ، ويَفنى الوَهْم ويَفنى الخَيال

    يبــدأ الإبتلاءُ في عمرك ثمّ تراه يضيقُ عليك .. لماذا ؟
    حتَى يفيض القلبُ بما خبّأتهُ السّنون
    ويخرج الله بالابتلاء الخفايا !
    يشتَـــدّ الابتلاء
    حتى تُحدِّق العين فلا ترى إلا مَلامح ما استكان في خَفايا الرُوح !
    ما أعجبَ الإبتلاء .. إذ جعله الله أول عنوان قصة إبراهيم ..
    لماذا؟ .. لإن هو من يكشفُ ثقوبنا ؛ لكنّه سُرعان ما يخيطُ فتوق الرُوح !
    فالله يبتلي ليهذب ولا يبتلي ليعذب بل يعيد تشكيل القلب والروح والخطى

    ما أعجبُ الإبتلاء ..
    وهو ينقلُ المرء من هامِش المَنافي إلى نصّ التّمكين
    من الغيابِ إلى الحُضور في سِفر الخالدين !
    وقد قالها الإمام أحمد: لا يمكّن للعبد حتى يبتــــــلى !

    يكونُ الفَراغ قبل الإبتلاء
    ثمّ إذْ فاجأكَ.. خطّك الإبتلاءُ سَطْراً أبدَ الدّهر مَذكوراً
    ألا تلمحُ كيف تفيضُ حروف إبراهيم في الآية
    كأنّها كُتبت بريشةٍ لا صَدىً فيها للذّبول
    " وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ "...
    كأنها تقول لك أُمِّيٌ وُجوده ..
    كُلّ مَن لمْ تمرّ به من الله الكَلمات !
    " وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ "...
    تلك الكلماتُ والتضحيات صارَت خيوطاً نسجت له بُردة الإمامة .
    "فَأَتَمَّهُن".. تَرتعشُ الكلمات جَلالاً .. فهذه شهادة اللهُ لإبراهيم !
    أنه لمْ تنفلت عُروة واحدة من قميص الإبتلاءْ ..
    لمْ تنفرط عُقدةٌ من عُهود الثَبات

    يا لله.. ثَمّة خيط خفيّ موصول
    كان يُمسك القلب كلّما تَخطّفَ الإبتلاءُ شعبةً منه !
    .
    "فَأَتَمَّهُن".. تتوهّج جروحه ألماً بتلك التضحيات ؛ فتُصبح لنا نُجوماً نستهدي بها !
    "فَأَتَمَّهُن".. يضيقُ على إبراهيم قميصُ الإبتلاء ؛ فلا يفيضُ إلا ثباتاً !
    وكلما كان القميصُ يضيقُ عليه كانت تتّسع له بُردة الإمامة !
    يُبالغ الإبتلاءُ في عَتمته ..
    يتكدّس في الروح حتى يكاد يُثقلها ..
    فإذا بالصَبر يتنامى من إبراهيم على أطراف الإبتلاء كُلَما أمتدّ !

    هلْ كان إبراهيم حينها مُرهَقاً وهو يُجاهد هذا الألَم ؟!
    أمْ كان لُطف الله يلتقطُ من عُمره أثرَ الجراح ؛ فإذا بالسَكينة وارفةً في الصَدر الجَليل !
    لاشك أن الله كان معه .. وعلى قدر حال قلبه كانت المعونة ..

    يـا لإبراهيم وهو يُتِمّ الكَلمات ..
    يـا لإبراهيم في غُربته ؛ ولا أحدَ يَهُشّ عنه ليلَ الوَحدة في سَفَر الإبتلاء !
    ربما كان وحيداً لأنه ( إذا عَظُم المَطلوب .. قَلّ المُساعد ؛ وقَلّ الرَّفيق ) !

    ترى هل كان إبراهيم يتألم ..
    دوما للإبتلاء حاشِية الوَجع ، و مِلؤه فَيض الدّمع والأَلم
    ومِن مِلح الدمع ؛ كانَ يتَهجّى إبراهيمُ تلك " الكَلمات " تلك التضحيات
    نتساءل مَن أوقَد رُوحك العُلوية حتَى كُلّما مَسّها التعب أطفَأه !

    لقدْ كان عُمر إبراهيم مثل صلاةٍ توضّأ لها بماءِ الإستسلام
    عُمــره كان آية " إنَّ إبراهيمَ كانَ أُمّة "
    عُمــره كان مَعنى "وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ"
    عُمــره كان دليلاً على "وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين"

    كيف ثبتت في ابتلائك ..
    هل كانَ إبراهيمُ يَسمع في خضم الإبتلاء صَوت الكَلمات
    "إنّي جاعِلكُ للنَّاس إمَاما " ..
    ربما .. ويقيناً أن تلك الكلماتُ التي امْتنَحْتَ بها يا إبراهيم
    هي التي بَلغتْ بكلماتك المَدى حتى صار لها أبدَ الدّهر خُلود الصَدى !

    تتكرر الشهادة له من الله .."وإبراهيم الذي وَفّى"
    فيا للإسمِ ..
    إذْ يكتبه القَلم في الّلوح المَحفوظ لم تُسقِطه كَبوة شهادة من الله
    يا للإسـمِ ..
    إذْ تكتبهُ ريشة مَلَك غُمِست في قبَس النُور فلا ينطفئُ أبدا !
    يا للإسأمِ ..
    إذْ ظَلّ يُتلى في كتابٍ لنْ يمحوه التاريخ ظل يتلى في القرآن

    كيفَ بَلغْتَ ذلك يا إبراهيم ؟!
    كانَ إبراهيمُ يُرابط على نِيّاته في كل أدعيته
    ويتَعوّذ برهبة مِن زَللٍ يُباغت الخطوات .. ومِمّا يُخذِل الخطوات
    يتعوَذ من ما يستَتر في الخَفايا !
    ظَلّ قلبُه يُرابط على الغايات ، وظَلّ يَدعو :

    خُذْ بِقَدمي ياالله إلى أرضٍ تَظلّ الآثار بها باقية
    وخُذْ بمَقامي إلى حَيثُ سِدرة المُنتهى
    وخُذْ بِسَعيي إلى حيث تَتوق الملائكة أنْ تبلُغ

    يا ربّ .. وجَهتُ إليك مآربي
    املأ يدايَ بالعَطاء الذي لا ينقطع
    فقدْ أوجعني هذا الفَراغ !

    يا الله .. رُبما يُصبح العُمر زمناً راكِدا ..
    نَجمةً مُنطفئة على حَافّة الوُجود
    لكني أعوذُ بكَ من أن يشدّني العُمر نحو التُراب
    وليس لي فوقَ التُراب مئذَنة تصدحُ بالكَلمات


    فاستجاب له الله " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا "
    "قال ".. بكُلّ أدوات التَأكيد وكانَ ذلك يكفي كيْ يُصبح إبراهيم
    حكاية الأمة وحكاية القَدر !

    الإمامةُ .. إذن هي بُردة سر صاحبها أنِّه :
    من تَهيّأ للمَصاعب ؛ صُبّتْ عليه المَواهب ..
    وكُلّ ما دُونها مِن متاعٍ ؛ فهو " بئسُ الرِّفد المَرفود "

    ما الإمامةُ ..
    إلا ازدحامُ الثَبات في الخطوات ؛ حتى لو بَتروا عنك المَتاع !
    ما الإمامةُ ..
    إلا إتقانُ الكَلمات حتَى لو كان وَزنها الدِّماء !
    ما الإمامةُ ..
    إلا أبجدياتُ التَحدي تشدّ بعضها بعضاً ؛ كُلّما انهمَر الإبتلاءُ وكادَ القلبُ يغرَقْ !
    ما الإمامةُ ..
    بعدَ الإبتلاء إلا معنى المُكاشفةبأنّ الصَاعدين للسَماء
    لا تعرفُ أرواحهم قَبو القُصور الفارغة !
    ما الإمامةُ ..
    إلا بطولة التَفرّد عن الطُرقات المزدحمة بالقطيع !
    ما الإمامةُ ..
    إلا قرار النُور ؛ أنْ لايَنزوي حتَى لو رأى النَعش يُعدُّ له من سدنة العَتمة !
    ما الإمامةُ ..
    إلا السُؤال لمنْ وقف في أول الطريق

    كيـف امتلكَ قَلبك فَزع المَسافات والله يقول لكَ عن مقامه " إنّي قَريب " ؟!
    كيـفَ نسيتَ أنَّ السَير على طريق الوُصول وُصول !

    إيه لقدْ كان إبراهيمُ يشدّ المسافات البَعيدة نحو الإمامة
    بالصَبر على معنى " ولا يَلتفت مِنكم أحَد" حتى لا تَبعُد الشّقة !

    هل تعلمْ ماهي البُطولة ؟
    البطولةُ .. أنْ لا تكونُ شبيه مَن سبَق بلْ تفَرّد لا يلحقُ به أحَد !

    فيا مَولاي .. نعوذُ بك مِن القَنَط في الصَبر على عُلوّ المَهمّات
    وقِلّة الحِيلة في بُلوغ المقَامات ..
    لا تمتحنْ الّلهم قلوبنا بما لا نملكه
    وإن ادّعت الألسُن غير ذلك

    نعوذُ بك من إدبارٍ صَنعته خَطيئة
    إذْ قَلّما أدبرَ شيءٌ يا مولاي ؛ فأقبَل


    الّلهم إنّ هذا القَحط في همّتنا لا يشفيه إلا الدُعاء ..
    هذا القَحط لا يُشفيه إلا الدُعاء ..

    فاجبِر الّلهم ثَلُمة غِيابنا ..
    وارزُقنا في "الكَلمات" مَعنى الفَهم
    فإنّه لا يَثبُت إلا مَن ثَبت عن الله فَهمُه


    بلغَ إبراهيمُ الإمامة ..
    وعلى أطراف المنافي وقَف الذين تلكّؤوا عند زينةِ الحَياة !
    وقد قيل:
    ‏( إنّ الرَجل لا ينتهي حين يُهزَم
    ‏بلْ يَنتهي حينما يَستَسلم )




    الخطوةُ الثانية



    "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا"
    في هذه الآية يبدو الوعد بعد أن ينفض إبراهيم يديه وقد انتهى البناء
    فيفوحُ عطرُ القَبول بين أحجار البيت المعمور !

    ترتفعُ يمينه بالدعاء
    وكُلّ إبراهيم يُمنٌ ويَمان

    يكسو الكعبة ببريق الدَمع
    يقترب من الحجر الأسود ؛ ويمتدّ البكاء !
    ينظر إلى الكعبة فيغطّي قلبه الواجف ضياء الأجوبة
    فقدْ كان في رحلة الابتلاء لا يملكُ إلا الأسئلة !

    الآن فقط
    يظهر البيت شامخاً ويظهر لإبراهيم معنى الرحلة كلّها !
    يؤذن إبراهيم فيستبدّ السّكون في الصحراء
    لا ريح تعبُر هذه الرمال
    لكن ثمّة خَطوٌ كثيف على بساط الغَيب

    يلتفتُ إبراهيم للصَدى
    فيسمع صوت التكبير "من كلِ فجٍ عَميق"

    تلك حكمة الفَلق !
    من جَفاف الرمل يولَد الألقْ

    لمـــن .. للموقنين فقط
    ولمن صبروا على ابتلاء الكلمات
    وهُنا السّر يختزِن ..
    أن كلّ الأماني المستحيلة ستولَد في الوادي السَحيق
    "بوادٍ غير ذيْ زَرع" !
    لمــن رابطوا على اليقين في خضم الألم

    يقفُ إبراهيم ساكناً ..
    إذْ كلما زادت المعرفة ؛ زادت السَكينة !
    يقف وحيداً في الصحراء لكنّه ليس خاليا ً
    فقد كان ببصيرته مُزدحماً وكان يرى الوعد
    تلك الوحدة المتفردة يا إبراهيم
    كانت موضع الماء على النَار ..
    كانت نُضج الإحتراق .. وكانت عتَبة التغيير
    وكانت النار مهد الإمامة ..

    "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا "
    يـــا لله ..
    مثابة .. في مكان تتكلّس فيه الحياة من الجَفاف !
    مثابةٌ.. في مكان تُشرق الشمس فيه على بُؤس الأعرَاب !
    مثابة .. حيثُ ستُصبح الرمال سجِّادةً مَنسوجةً من المَطر والخير
    ويفيضُ الصّحن بِـ (لطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)

    هناك في الفضاء الحُرّ .. حيثُ لا سقف يليق بالمكان
    بيت لا سقف إلا السماء
    بيت يليق بدين طموحه العلياء ..
    هناكُ .. سيصبح الفَجر سخيّ الأحلام !

    "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا"
    يهيءُّ الله للناس فيه فِردوساً صَغيراً تقطفُ فيه الأُمنيات ..
    ففي المَطاف..
    ترى يقَظة المُستحيل حتى كأنّك تقطِف الإجابة شَهيّة !
    يخطُّ السَاجدون بِدُموعهم كلّ الأحلام التي أجهشَت بالأُفول
    ومن هَمهَمة الُّلغات .. تحرُس المَلائكة الدَعوات
    مثل وردّ يُسقى بماءِ القبَول
    تُرفرف أسرابُ الملائكة في المَطاف
    تلتقطُ اليأس مِن أكفّ المُتَوسلين ..

    ثمَّة حرير يغزلُ لهم من الإجابة ثياباً من العَطاء وثيرا !
    "وَأَمْنًا"
    في ذاكرةِ كُل ساجِد زمنٌ من الحزن مكتظٌّ
    إنتهى إلى زمنٍ من الذّكريات القَديمة !

    كلّ الذين تعلَّقوا بأستار البَيت ؛ كان شِتاءُهم بلا حطَب ..
    كان قد أصابَ مراعي العُمر عطَشاً طَويلاً ..
    وكانت الخَرائب تصمِت على الفَراغ !

    ها هُم يَحجّون إليها مثل نَجمةٍ جميلة ..
    يبلُغون البيت في الّليل
    فتتلقاهم الكَعبة وتُلقي عليهم نهاراً طويلاً

    عند الكعبـــة يهَبُ اللهُ الجِراح شِفاءها ..
    وفي المَطاف تولَد لُغاتٌ بعضها الأَنين والتأوّه والحَنين
    تضْطّرب الحروفُ وهي تحكي لله مَخاوفها ..
    يتأوّه داعٍ وهو يقولُ :
    يامَولاي .. كُلّما اجتَزنا حزناً جاءَ حزن !
    يتأوه فتظن أن كُلّ الورى من شدة الألم كأنّهم سَمعوهُ لمّا استَشفعك !
    تُوقِد كلمتهُ دمعتَين ..
    وتَبدو السَماء حينها شاغرةً إلا من الدُعاء !
    يومِض المَكان ..
    وفجــــــأةً يولَد في الحزن الكثير
    الكثير من الأُمنيات !

    يتدثّرون في أستار الكَعبة ..
    ويلحّون على الله ..
    فقدْ أجهضَ اليأسُ أحلامَهم !

    يشتدُّ صَهيلُ الشوق إليه ..
    يفرّون من أعماقهم ؛ ويَجهشون بالبُكاء ..
    الأمنُ يا الله مِن الزّلات !

    هُنا ..
    لا تضيعُ الدّعوات ، ولا تنكسرُ الأرواح ، ولا يضلّ النّبضُ الطَريق !

    "وأَمْنًا" هُنا .. تفرّ الروح من التّيه إلى ملكوت المغفرة !
    "وَأَمْنًا" هُنا .. أمنُ الخائفين ، وأمانُ المضْطَربين
    وقِبلة الذين أحرق الجَفاف حقول انتظارهم !

    هُنا الكعبةُ ..
    مثابة للذين أوجَعهم شغَف الوُصول !
    فتشبث بها و توجه إليها في صلاتك
    فهي قبلتك و أمانك وعندها تستجاب الأمنيات ..
    لذا كان الدعاء في الصلاة خير الدعاء !

    عند الكعــــبة عين تتَشبثُ بأستارها ..
    تُسابق خَطوها ؛ وروحها تحومُ في الهَباء ..
    تأكُلها الحيرة ..
    ثمّة وجه مُفعم بالشَظايا .. مفعمٌ بالآلام !
    تمتدّ اليدُ الضَعيفة نحوَ الأستار .. يتمزّق الصوتُ في نحيبه ..
    وعلى الأستار ؛ تُكتب الحكايات لله بماء الدُموع
    تصيحُ الرُوح في فناء البيت
    ثمّة فتنة تُزهر في عالمي يامَولاي !
    ترتجفُ الشِّفةُ وتحوّل عِفّتها بينَ البَوح وبين الإنهيار !
    لازالت يَدها على الأستار
    مثل مَهزومٍ أخطَأتْهُ الرِّماح !
    تَغمسُ الدُعاء في ريقها المتقطّع .. وتُرسله إلى الله ؛ مُتلعثماً ..
    واللهُ يسمع قلباً قد أرهقَه النَّزيف ..
    قلباً يتأرجَح على حافّة الظنّ بالله ..
    كلماتها مثل وِردٍ كثيف وهي تردّد سُؤلها
    حتى كأنَ اللغة لمْ تلد إلا هذه الدَعوات !

    يتلو حارسُ البيت الآية "وَأَمْنًا "
    كمن يشفق على المُتعلقين بأستارها ..
    ينتابهم فزَع الدهشة وتنساب الأرواح في صَوت الآية ..
    ويَغفلون عن البكاء !

    "وَأَمْنًا " ذلك وعده ..
    فيا لله ؛ كيف تَرسخ الأقدام حينها وتتجذّر الدعوات فَيئا !
    وكيفَ تُصبح احتمالات المَوت ذِكرى ..
    وكيفَ يشتعلُ شاحب القِنديل نوراً .. كيف يتوهّج الأمل ..
    وكيفَ يَحكي لك العاكفون بعد ذلك مشهد النجاة من الوَجع !
    فاعتكف عندها في صلاتك و توجه بالدعاء

    " وَأَمْنًا" .. وكلّ مَن لايرى ذلك محجوبْ
    وكلّ ما يَحجب الروح خَطيئة !

    ها هُم يطوفون بها بكلّ لغاتهم وخفيِّ تَمتماتهم
    وتظلّ الكعبة في وقارها
    كأنّما هي هَيبة الحكاية الجليلة !

    "وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"
    بصيغة الأمر الإلهيّ ؛ يُصبح مقامك يا إبراهيم مُصلّى !

    واللهِ .. كلّ الأعمار هشّةً دون خَطوك يا إبراهيم

    بعضُ الأعمار تمرّ ؛ دون أن تُحَرّك الظلام عن عَرشه ..
    دون أنْ تُعلن النَهار ..
    دون أنْ يَهدر عُمرها برقاً ولا رعداً لله !

    بعضُ الأرواحِ .. رَضعت الزّينة حتى ثقُلت عن الهِجرة لله !
    وبعضُ الأعمار نقطةُ الماء التي أطفَأت الحَريق !

    "وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"
    هُنا مقامٌ .. تُقرأ فيه النَوايا !
    وهُنا قدمٌ .. كانت تتهجّى العبور نحوَ ما يبدو الخَواء !
    هُنا قدمٌ .. هرمت وهي تسيُر على رمل الأوجاع !

    يشتدُّ نورُ الكعبة ؛ فيزدادُ ظلّ المقام عُمقاً
    ويترسَخ إبراهيم في جوار الكعبة !
    حقاً .. لا يخون الدَمعُ الراحلين إلى الله
    ولا يَخون السّبق أقدام المُقبلين !


    هُنا مقام إبراهيم حيثُ يعلّمك المعنى :
    أنّه مقبول مَن جاء بهذا القلب حافياٍ من زَلاته ، وكان في النِّيات خَفيِّا !

    لقدْ كان إبراهيم نبيّاً ليس في عالمه مُتّسعٌ للوَسوسة
    ليس في عالمه متّسعٌ للنّسيان .. كان نَبضه لا يتبعثَر

    لقدْ كان إبراهيم نبيّاً ليس في عالَمه متّسع
    للغياب عن الله !

    فيـــــاربّ.. جِئناكَ شعثَ القُلوب فَهذِّبنا ..
    جِئناكَ شعثَ النَّوايا فأصلِحنا !
    نعلمُ أنّ الحِكمةَ لا تسكُن العَتمة
    فأنِر دَواخلنا .. وعلى خُطى إبراهيم مَكِّنّا
    !


    الخطوةُ الثالثة



    "وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ "
    كلمةٌ واحدة من الله ويُولَد الاصطفاء ..

    هُنا معنى " وَربُّك يَخلقُ مايَشاء ويَختار "
    ويكتب لـ " إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل " القَبول

    " وَعَهِدْنَا "
    هذا اعلان رهيب !
    اعلان ينفضُ الأحزانَ حتى كأنّ الأفراح بِكراً لمْ تمَسّها يدُ الإبتلاء والوَجع ..

    لماذا .. وعهدنا
    لأن علم الله يَنفُذُ إلى النِّيات
    علم الله يَنفُذُ إلى العَزائم
    فيَقضي اللهُ فيها ما يليقُ بها !

    تلكَ السّرائرُ كانَ مافيها هو خَبيئة العَزيمة
    والله لايَصطفي حُبّاً به الوَهن !

    "وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ"
    الآن يعبُر إبراهيمُ من ضفّة الإبتلاء إلى ضفّة الاصطفاء
    فقد أتم الكلمات وصبر وهو يَشمُّ رائحةَ الدّم تكادُ تفوح بين يديْه مِن الذّبيح ..
    الآن ينبلجُ نَهار الذَّبح عارياً إلا مِن إبراهيم يضيء فُؤاده !

    يا لله .. كيف صبر إبراهيم
    يا لله .. مَن يشقّ للحُبِّ رحيلاً بِيَديه ..
    مَن يشقّ للدَمع مَجراه .. مَن يطيقُ ذلك سِواكَ يا إبراهيم !

    صدق الله
    و كانَ السعي سَعي ٌ؛ لا خَيبة فيه ..
    لا مَسبغة فيه .. سَعيٌ لا انحناءَ فيه ..
    إذ لا أوساطَ المواقف مَع تكاليف الإمامةِ حتى لو كان ذَبحُ إسماعيل بعضُ ابتلاء الكَلمات !
    ذاك زمنٌ يؤرِّخه القُرآن ..
    زمنُ احتشاد الثَّبات عندَ السِّكين ..
    زمنٌ كان إبراهيم محروماً فيه أنْ يقولَ للصّغير :

    ( وداعاً يا بُنيّ ..
    وداعاً يا انتظارَ السّنين ) !

    يالله إذ يتلهُ للجَبين ؛ وَقد بلغ َإسماعيل مَوعد الحُبّ ..
    يستلُّ إبراهيمُ السكين ليذبحَ إسماعيل !
    فلا تُسجَل له هَزيمة .. لا يُسجَّل له هلعٌ مَكبوت !

    كانت كلماتُ إسماعيل يتدفقُ فيها حُزنٌ غَريب
    "ستَجدني إنْ شاءَ اللهُ مِن الصَّابرين"
    كأَنّه يُدافع الوَجع المُتناسل في صَدر أبيه ..
    كأنّ بين الشَفتين والصَوت شيءٌ يَحتضر !

    هُنا قمّة الإكتــــــمال ..
    فلا عِريَّ في النّيات ولا ورقٌ يَخصفُ على عريّ الثّبات !
    تلك لحظةٌ تستحقُّ خُلود الأبدية وقد خــلدها الله !

    ثم يكون الفداء ..
    ودوماً يتجلّى غَيب الأقدار في دَهشة المُفاجاءات ..
    في دَهشة العَطاء ..
    لكنّ الله أرادَ أنْ يجعلَ الإبتلاء لُغة المُكاشفة للوَهن الخَفيّ في الأَعماق !

    "وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ "
    تِلك هي المُكافأةُ لِمَن حصدَ المَقامات في رحلة جَدّ
    لمنْ كانَ للهزائم بالمِرصاد !

    "وَعَهِـدْنَا "
    حتَى كأنّ هُناك أمانةً ؛ لايستحقُ حملها إلا مَن ضَمّه الوَجع !
    "وَعَهِـدْنَا "
    كلمةٌ كأنّ فيها ؛ رائحة الوِلادة للمَقامات العَلِيّة !
    "وَعَهِـدْنَا "
    وليسَ أمَرْنا .. فَهُنا الأمرُ فيه مَعنى العُهدةَ المُؤتمَنُ عَليها !
    "وَعَهِـدْنَا "
    إلى مَن جاءَ لله بلَهفةِ الخطوات .. لمَن خَلّص نَفسه بالإخلاص ..
    لمَن عَلَّموا خَطواتهم درسَ الإياب !
    " إِنَّ إِبْرَاهِيم لَحَلِيم أَوَّاه مُنِيب"
    "وَعَهِـدْنَا "
    لمَن جَمع نَفسه على الله فبعدَ كلَّ جَمعٍ فَتْح !
    وقد قِيل :
    ( التَفرّد رافعٌ للرُتَب) ..

    أولئـكَ اشتَهوا عُمراً فكانوه ..
    أولئـكَ مَن يَملكون حَقلاً مِن النِّيات الجَليلة ..
    وسِواهم هُم ؛ سَبايا الغِياب عن الصُفوف الأُولى !

    هل تعلم أن أصل الغياب عن الاصطفاء هو التّهافت على التّوافِه ..
    إنّ التهافتَ على التّوافِه أكَلَنا
    حتَى ما أبقَى للإصْطفاء فينا سَبيلاً
    .
    وقد قيل :
    ( الشَهوةُ والصَفوةُ ؛ لا تَجتمعان ) !
    فقل/
    الّلهم إنَا نعوذُ بك مِن سنّة الإستبدال
    وحينها ؛ لاتَ حينَ مَناص !
    الّلهمَ أَيقِظْ قُلوباً رَمَدتْ مِن تتَبُّع الرُّخَص
    وعَجفت رواحلها مِن كُثرة الخَطايا
    وخمُلت مِن انحسارِ العَزْم .. وانثَنتْ تحتَ مَطارِق الدُنيا وزُخرُفها ..
    فَيا مُحّيي المَوتى أَحيِ مَوتها !


    هل تعلم أنَّ دلالة الاصطفاء ؛ أنْ تَظفَر بنَفسك ..
    فلا يَمضي العُمرَ وأنتَ تَجرّ ثِقلَ ما تَرسّب فيك ..
    أن لا يَكبُرَ فيكَ ما يُثقِلك ..
    أن لايَنتهي العُمُرَ وأنتَ ذابلَ الألوان !
    و قد كان يمكن أن تكون نجمة هادية

    هل تدرك أن في القلبِ تواريخٌ تُعبَّئ بالنبض الخَفيّ
    و ( كُلّما أصغَيتَ للقَلبِ امتَلأتْ ) .

    فيا مَولاي ..
    خُذ بِقَلبي عن صَغائر الأُمور ؛ حتَى تَتّسع الهِمَم في رِضاك ..
    اجْعَل زَحمة السعي والنوايا في رُوحي عُمراً يُشابه عُمْر إبراهيم !


    " أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ "
    هذه مهمّة الأنبياء !
    التَّطْهير ..
    أنْ تَتّسع الأماكنُ للأَرواح ..
    أنْ لايقعَ غبارُ الشِّرك على بِساط البَيت ..
    أن لايقعَ غُبار المَعاصي على مَصاطب البَيت ..
    أن لايقعَ غُبار الرِّجز على عَتبات البَيت ..
    أنْ يظَلّ بيتاً لله دونَ بقيّة الأسماء !

    فَفي طُهر التَخلّي فقط
    يفيضُ على عالَم القُلوب التَجَلّي ..


    تلكَ هي الوَصْيةُ ؛ لو مَرّ على البيتِ سِنينٌ عِجاف ..
    مَهما غَمَرهُ العابِرون بِنَقْشِ الألقاب ؛ سيَظلّ البيتُ لله ..
    إذْ البيتُ ضِفاف بناها إبراهيم لمَن ضَلّوا الطّريق !

    "طَهِّرَا " لماذا !؟؟
    لأنّه مَن اتَّبع كُلّ شَهوةٍ ؛ ضَاعت منه نَفسه
    ولَم يكُن في القَوم إلا ساقَة ..
    ولن تراه يَبلُغ مقَام الإمامة ..
    فهل تفَطّنتَ للمعنى !

    الصُحف المُمتلئة بالنّدوب ؛ لا يليقُ بِصاحبها
    "إنّي جاعِلكَ للنَّاسِ إمَاما"

    كُفَّ القلبَ حتَى تبلُغ المَقامات
    إذْ كُلّما كَفّ القَلبُ الطّرف عَن المَكروه زادَ التَّرَقّي !
    والّهَجْ :
    نَعــوذُ بكَ يا الله مِن استمراء المَكروهات ..
    ومِن قلّة الحِيلة على غَضّ القَلب عَن الشّهوات ..
    نَعــوذُ بكَ مِن هَذر الكَلام .. وهَدر الأَوقات ..وتَشتّت النّيات ..
    مُدَّ لنا في حِبال هُداك ..
    وبَلِّغنا غايةَ الشّوط مِن رِضاك ..
    ولا تَجعل إبتهالنا مَبتورا ..


    ولقَدْ طافَ أحَدُ السّلَف بالكعبة سَبعاً ما يزيدُ عَن الدُّعاء :
    الّلهمَّ أصلِح لي قَلبي !
    هَلْ تَدري ..
    لعلَّ الخَلاصَ الوَحيد ؛ أنْ تَرفع الليلة قلبكَ إلى اللهِ ثُمّ تَقول :
    ( مَن إلهٌ غيرُ اللهِ يأتِيكُم بِضياء ) !


    الخطوةُ الرابعة



    "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ "
    "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ "
    يتَردّد الاسم كرامة في القُرآن مثل تُربةٍ زاخِرة بالأمَل
    تظَلّ تُورق عُلوّاً ما بَقي في المَصاحف مِدادها !

    ولقد صَدق إبراهيمُ ربه في المَجيء
    فاستجَابت له المَسافة .. ولانت له الطرق !
    صَدق في القُدوم فانتَهى اضْطّراب القَدم
    حتى احتَمل جَمر المَسير !

    ثمَّة نور في الصَّدر كانَ يَطوي وَهن السَّير
    ( ومَن أرادَ لانتْ له السُبل )


    كان نبيّا ثَبت على الأَمر وهو في قمّة الفَناء
    فجعلَ اللهُ له أسبابَ البَقاء !
    لكن كيف احتمل إبراهيم ذلك !؟؟
    لقد كانَ إبراهيمُ مُحِبّاً ..
    والمُحبّ لله ؛ عَصِيٌّ على الإمتلاك لغير الله ..
    عصي على الشيطان !
    المُحبّ لله على الأمرِ مُرابِط ..
    المُحبّ لله على لحظة المزيدِ مُرابِط ..
    وقد قَالها أعرابيّ :
    ( كُن سَيلاً حتى تَبلُغ ) ..
    إذْ كُلَّما اتّسع في الرُوح المقام اشتَدّت الهِمَم !
    شَيءٌ ما كان على أستارِ قَلب إبراهيم ..
    شَيءٌ اسمه صادَق الإنبعاث ؛ استَحقّ به أنْ تُسدل بجانب مَقامه أستارُ الكَعبة !
    وقدْ قِيل :
    رائحةُ الأَسرار في البواطن تَفوح على الأَعمال !

    يُبتلى إبراهيمُ ؛ فتُولَد الكَعبة ..
    والمُؤمن حينَ يُبتلى ينزِف فَيفوحُ عِطره !
    نبيٌّ رَأى اللهَ إناءَ قَلبه يستَحقُّ أنْ يُغدَق عليه !
    وفَواتحُ الله تتَجلّى على مَن اتَّسع بالنِّية ..
    على من اتّسع بالهِمَّة ..

    نبي اجتمع على العزم ومِن اكتِظاظ الثَبات ؛ يولَد التّفَرُد ..
    وفي عُمْر إبراهيم ؛ لا نُقطة توَقُّف .. لا لحظَة تَردُّد !

    على خُطى إبراهيم ..
    تَعني ؛ أنْ لاتخلِف مَوعداً عقَدْتّهُ مَع اليَقظة ..
    إذْ لا تَفرُّد لِمَن يبحَثون عن نِصف الخطوة !
    و (مَن عرَف ما يُضْعفه ؛ عَرف ما يُقَويه) ..
    فاستَعلى عليه !

    فـــياربّ .. هَبنا قوّةً تعبُر بنا كلّ هَذا الوَهن !
    حتى نمتلك ذواتنا فنمتلك الخطوات ..


    أمَّتنا اليوم .. جاءتَها الفِتنة فَحسِبتها لجّةً
    وكشَفت عن ساقَيها فابتَلتْ .. أو لعلّها غَرِقت !

    ربما لأن الظَلام يُغوي الخَطوات ..
    ورُبما حينها ؛ يشتعلُ ما استَكنَ مِن الرَماد ..
    وعلى التَكاليف ؛ يبدأُ دوماً تلاعبُ الشَيطان .. ونُضلّ حينها السَير عَن الخُطى ! ..
    حينها تتساقط الأسماء وقلما تخلد في عبورها !

    "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا "
    سَلامٌ على دعاء إبراهيم ..
    على نبيٍّ مُمتلىء بالفِقه ..
    وعلى دُعاءٍ مُثقلٌ بالوَصايا لنا !

    سَلامٌ على من دَعى للأمّة بحُقوقها
    فقال : " بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ "
    فجمعَ ثلاثيةَ الحُقوق التي تُنْجِينا مِن العَدم !

    تَتماسكُ بيوتُ الله في رِسالتها .. تُصبح الصَلاة فيها كامِلة ..
    تَعبُر الصلاةُ بنا إلى خَارطة الفَتح ؛ إذا كانتْ بُيوت الله في بَلد ..
    فما المعنى ؟
    تَحُجّ المعاني إلى الكَلمة ..
    وتُخبركَ ؛ أنّ الإيمانَ يَنكفئُ دونَ بلدٍ يَحميه !
    ذاكَ إيحاء المَعنى ..
    فأَقرِئنا الّلهُمَّ المَعاني

    " بَلَدًا آمِنًا " والأمنُ ثوبٌ واسع ..
    إن ارتَدتهُ الأُمّة ؛ بلغتْ مقامَ الشَهادة على البَشرية !
    أمْنٌ مِن اغتيالِ الأفكار ..
    وأمْنٌ مِن خَطفِ الحُقوق ..
    وأمْنٌ مِن حِصارِ العُقول ..
    وأمْنٌ مِن انطفاءِ الطُموح ..
    وأمْنٌ على الرِّزقِ والعَرض ..
    ذاكَ أمْنٌ ؛ لاتَصنعه إلا الحُرية مِن قُيود الظلُم ..
    وأمّا الخَوفُ
    فلا يصنعُ فينا إلا الأُمنيات العاجِزة ..
    فتنبّـــه ؛ إذْ حرَّم الله العهد على صناع الخوف
    "قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ"

    الإيمانُ لايلتهبُ ؛ إذا كانَ الخوف قيدُ العِباد ..
    وكلّما زادَ الأمْنُ جادَ الإيمانُ
    وصارَ فوق العُمر في الأمة أعمارا وأعمارا !

    "وارزُق أهْلَها مِن الثمَرات "
    لأنَّ السَّعة بدايةُ السَلام في الإنسانية
    ، وماسِوى ذلك ؛ هو انفراطُ العِقد !
    هُو الأسرُ الأبَديّ ..
    هُو انحصارُ الهَمّ في رَغيف ..
    ثلاثيةُ العِمران
    يسكُبها إبراهيم في دُعائه ..
    حيثُ المَسافة بينَ الجاهلية وشريعة إبراهيم
    هي زمنُ الانعتاقِ من الفَقر ..
    هي غيابُ الخَوف ..
    هي بلدٌ يَحمي رسالة البَيت ..
    وما سِوى ذلك فَهو بؤسُ النِّهايات !

    دعاءُ إبراهيم ؛ ليسَ أُمنية ..
    دعاءُ إبراهيم ؛ جوابُ الأسئلة للمُتسائلين :
    كيفَ غَمرَتنا الفَوضى اليوم ، وفَقدنا ملامحَ الطَريق !

    بُيوت الله تَنسج لنا ثوباً من المَطر يَقي خرائطنا التّصحر
    إذا هي وُلدت في ثُلاثية الحُقوق ..
    وما عَدا ذلك ؛ فَهو هَشاشتنا
    وأصواتُ مآذن مَهجورة في زِحام قُوة أجراس الكَنائس !

    دُعاءٌ ..
    يُعيذ الأمّة مِن خَلل الخُطى ..
    مِن خَلل الرُؤى ..
    مِن نُسُكٍ ناقِص المَعنى ..
    مِن زَمن الشّعائر بلا حَقائق الغاية مِن بناءِ بيتٍ لله !
    دُعاءٌ ..
    فيه الزَمن يتمَطّى
    حتَى بلغَ أن سارَت الظّعينة من الشام إلى اليَمن لاتخشَ إلا الذّئب !

    فيا لله ..
    لو تُبصِرُ يا إبراهيم كيفَ أصبحَ الذّئب في زماننا أهوَن الضَرر !

    دُعاءٌ ..
    ظَلّ مَوجةً تتّسع .. حتَى بلَغتْ الزَكاة أنْ تُقدّم ؛ فلا تجدُ لها مُحتاجاً ..
    ويُرشّ القمحُ على رؤوس الجبال في خارطة الإسلام
    حتى لايُكتب أنّ طَيراً مرّ فسَقطَ جائعاً في عوالِمنا !

    يا نبي الله مامَسّنا الضُرّ ولا مَسّنا الخَطأ
    لو فَقهنا أنّك كنت تعلّمنا في الدُعاء ؛ كيف نَحمي البيت َ!

    نحنُ المَواعيد المُلغاة مَع المَجد
    دونَ دُعائك يا إبراهيم ..

    نحنُ صَمتُ البيوت مِن صَهيل الرّسالة ..
    وحُلم الظَالمين هو نخوض في التلاوة بعد أنْ نُمحى مِن الطريق !
    فياربّ ..
    اجعَل سعيَ المُصلحين إجابة دُعاء إبراهيم

    والَّلهُمّ ..
    ( آمينَ لكلّ دُعاءٍ يتَجَلجل في صُدورنا ، وتعجز الكلمات عنه) !
    الَّلهُمّ آمينَ ..
    لكلِّ ما نُواريه مِن الأُمنيات في ضَمائِرنا ، ونَخشى أنْ نَحكيه


    الخطوةُ الخامسة




    " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ"
    هنيئا لك هذا الاصطفاء ياإبراهيم ..

    " وَإِذْ يَرْفَعُ "
    هذا البناءُ وَثيقة سِرٍّ بين نبي وربه
    تَحكي مَعنى النّوايا المَعقودة لله وحده !
    هنا حيث أحجار البيت تَختزنُ صَلوات إبراهيم
    وفي بعض طِينها انسكَب الدَمع !

    " وَإِذْ يَرْفَعُ "
    تصمتُ الحجارة وهي تُصغي لرّفة القلب تتناثَر بين ذِكريات الذَبح وزَمن الرَفع
    ذكرياتٌ انتَفى فيها الجَزعُ وماتَ العَجز .. وبلغ القلب مقام الاستسلام ..
    وفي مُنتهى المَقام ؛ تُطوى الصُحف على كلمة الله
    " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى"

    كان إسماعيلُ قبل قليل مُمدّاً على رَصيف الرَحيل
    واللهُ أعلم بلَوعة الألم !
    وكانت المَسافة الفاصلة بين ضجيج الحزن وبين حكمة الأمر
    استسلامُ إبراهيم وإسماعيل ..

    و( مُطلق التَسليم
    هو مُطلق الحُرية
    )

    لكن كيف استسلم إبراهيم وإسماعيل للذبح
    كيف .. ترى هل تلحَظُ عينُ البَصيرة فواتح المَخبوءِ من العطاء ؛ فتَصبِر !

    هل يبلُغُ اليَقينُ في قلوب الأنبياء رُؤية الغيب ؛ فيسكُن !
    هل تلك تباشيرُ الأنبياء والأولياء ؛ تُزَفّ إليهم في خافية من عين البَشر !

    إيه إن الإختبارات مَهالك ..
    لكن المُضيِّ فيها بالاستسلام واليقين نَجاة !
    ولايقدر على ذلك إلا من بلغ إيمانه نصاباً عالياً
    فهل فهمت المعنى !؟

    "وَإِذْ يَرفعُ "
    يا للكلمة إذْ تَحمل مُراد البيت
    فبيتُ الله لا يليقُ به كلمة " يَبني " بل كلمة "يَرفعُ"

    وبين المُفردتين معنى المَهمّة !
    مهمة رفع المساجد إلى مستوى الرسالة ..
    بيوت الله يبنيها الكثير ولا يرفعها إلا من اصطفاهم الله لوراثة الأنبياء

    "وإذ يَرفعُ إبراهيم"
    يا لله .. إذْ تَقصُر الخطوة فينا عن مَدى اتِّساع النّية لدى إبراهيم !
    فقد استحق الرفع للبيت لعلو في الهمم والنيات !

    " وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم "
    لماذا إبراهيم 2؟؟
    لأنه لا يَرفع البيت إلا يدُ الفِداء ..
    إلا مَن ضحّى بصَمت ..
    إلا الذين لمْ يَمضوا إلى القُعود بحجّة الذّرائع ..
    إلا الذين احتَملوا ضَريبة الاختبار ..
    إلا الذين لمْ تنقلب نيّاتهم نَحو عبورٍ آثِم !

    والحق أنه لا يجوزُ مفازة الاختبار ؛ إلا مُوفَّق .. وسواه هالك
    لايَجوزُ المَفازةَ ؛ إلا مَن كان محلّ نَظرِ الله ..
    لايَجوزُ المَفازةَ إلا قدم تسعى لله !
    ( وكلّ صَعبٍ ؛ فَهو في زمنِ الإقبالِ على الله سَهل )

    "وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم"
    تلك منحةٌ إلهية والمِنَح لا تُعْرَض ..
    المِنَح تُوهَب .. المِنَح بعد المِحنِ تَأتي
    !

    عليكَ سَلامُ الله يا إبراهيم ..
    ( عليكَ سَلامُ الله .
    إِنْ تَكُنْ ‏عَبَرْتَ إلى الأُخرى ؛ فنحنُ لازلنا على الجسْرِ )
    سلام عليك في الابتلاء وفي الاصطفاء ..

    يا لله ..
    إذْ يُصبح عُمْر إبراهيم ؛ نصّاً سابقاً في الأُمّة !
    يا لله ..
    إذْ ينشغلُ إبراهيم بامتداد الصَوت إلى الآفاق !
    ويكون الهم كله لله ..

    فيارب إبراهيم
    املأ عُمرنا بمعالي الأمور .


    "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ "
    يالله حين بلّ الغيثُ إبراهيم بلغ إسماعيل فالصحبة لا تخون !
    "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "

    "وَإِذْ يَرْفَعُ " .. تلك إشارةُ القبول يا إبراهيم ..
    أمَا كانت تكفي فلماذا الدعاء ؟!
    أما سَكن قلبك لهذه الدّلالة .. فلماذا يُؤرقك القَبول
    ومثلكُ لايعرف بُؤرة الذَنب .. ولا غَدر النَزوات ..
    و لا النَوايا التي تُستبطن في الخَفايا وفي واديها يدبُّ الرّياء !
    فلماذا يُؤرقك القَبول ؟!
    لقد كان إبراهيم مختلفا .. وكلما اختلف القلب اختلف النبض
    فثمّة ما يُلامس عُمق إبراهيم
    فلا يتوقّف قلبه عَن الوَجيب ..
    كأنَّه يَخشى مَقام البُعد عن الله ولو كان هنيهة
    بَعد أن ذاقَ لذَة الجَمع على الله !
    ذاكَ امتلاءٌ لا يعرفهُ إلا مُن ذاقه .. وقد قيل :
    ( كُلَما طَهُر القلبُ رقّ ..
    فإذا رقّ راقْ .. وإذا راقَ ذاقْ ..
    وإذا ذاقَ اشتاقْ .. وإذا اشتاقَ اجتَهدْ .. مَن ذاقَ عَرَفْ .. ومن عرفَ اغتَرفْ ) !

    يالله إذ يَكشف الله عن قَلب إبراهيم ؛ فَيجعل المَخبوء منه عَلانية ..
    وتُكتب النبَضات على سُطور المُصحف !
    فيا لشِغاف القلب ؛ إذْ تصبح معانيه آيات الُمصحف ..
    ويالِشغاف القلبِ ؛ إذْ يُصبح نبضه آيِ الكَلم !

    أيّ قلبٍ كُنت تملكُ يا إبراهيم ؟!
    "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا "
    القَبول أرقّ المُخلصين !

    " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا" فلا تَجعل سَعينا أنقاضَا ..
    ولا تجعل الدَمع من الأحداق هَباءً ..
    لاتجعل عُمرنا كفَناً باهتاً . وحَسناتنا يَبابا يَبِساً ..
    هَبنا القَبول ؛ فلا يتَساقط السَعي سَرابا !

    ياربّ ..
    قَسَّنا العُمر بالصَبر .. فلا تَجعله زَبد الغُبار ..
    ولا تَجعل الزَاد في فَجأة الجَزاء خَرابا ..
    وإذا فاحتْ رَوائح الأعمال فلا تَفضَحنا !

    نعوذُ بكَ من خيبة السّنين ..
    من فَراغ المَوازين ..
    من لاشيءَ بعد أنْ كانَ السّعي شَيئاً !


    "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا "
    ما هُو القَبول ؟
    القَبول ..
    أنْ تكونَ صَحو الأُمّة ؛ فلا يُحاصرك الأُفول ..
    أنْ تظَلّ سُنبلة الوَقت ..
    أن تَظلّ كَلماتك أوراداً ؛ كأنّها تَرتيلة لا تَغيب ..
    أنْ يولَد أثَرٌ يقتفي أثَرك ..
    أنْ لا تكون الزَمن الفائت ؛ بل الزَمن الحاضر مابقي الكون وبَقينا !

    أتدري كيف .. ماكان لله يَبقى ..
    وقد قالها الإمامُ مالك :
    ( الجزاءُ مَوثوقُ ؛ ولكن الشُرط عَزيز ) !

    يطوف الحجيج فيشمون للطِّين في البَيت مِسك إبراهيم .. عَرق إبراهيم ..
    إذ أودعَ الله بعض أنفاس إبراهيم في الكَعبة ..
    كان الغيب يصطفّ في عَينه ؛ مثل لحظاتٍ بَيضاء تُشبه ثياب الحُجاج في صلاة الفَجر !
    تَبدو البَشرية في غَفوة الإنتظار .. ويطلُّ هو في يقظة الوَعد ..
    يُصافح الحَجيج ضمّةً وضمّة ويستريح عند البيت المعمور في السماء السابعة !

    يا رِحلة الصَبر ..
    ذاكَ دربٌ كادَ أن يكونَ مَأتماً ..
    فَجعل اللهُ منه مَقام إبراهيم !

    "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا "
    تلك هي خاتمة السَعي
    وهذا أوانُ البَوح !

    "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا "
    رَدِّدها .. حتَى لا يكنْ عمَلُك لله مَدخولا
    فتَقطع عَتمة الحَشر بِخَيطٍ من نورٍ كأنّه عُود ثِقاب !
    إذْ إنَ أصل القَبول صلاحُ السِّر ..
    فما كانَ الإمامُ مالك كما قيل ليس كبير صلاةٍ ولاصيام
    وإنَما كانتْ له سَريرة !

    فالَّلهُمّ ارزُقنا روحاً مُتوَجهة إليكَ ونحنُ في خِضَمِّ الاختبار ..
    ونيةً مُتَوجهة إليكَ ونحنُ في لُجّة الإغراء ..
    وَعَيناً على المَقامات إذا أطَلّت الفِتن .. واستَشرفَت لنا الشَهوات ..
    وقلباً ينبضُ بكَ و لك ولو صَفّقتْ لنا الحُشود !
    يا مُنتهى السَّعي ..
    ومُنتهى الحُبِّ ..
    ومُنتهى الأَمل




    الخطوةُ السادسة



    " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ "
    للمَعنى في الآيات رُوحٌ لو سَرى في ظُلمة الليل لأضاءَه ..
    تأخُذ الآيات الرُوح مِن يأَسها إلى شأنٍ عَلا ..

    يَدعو إبراهيمُ بكفٍّ مباركة
    حفَر البناء بها أخاديدَ تُجذِّر القَبول فيها !
    كف تستحق الإجابة !
    هنا يتوهّج التَوق العالي في الدُعاء ..
    يتوهَّج في نَجوى القُرب ..
    ويُزهر الوعدُ في حَرم البيت مثل نخيلٍ في رَمل البَقيع نَمى
    يحلّق الدعاء في مَدارج صوت إبراهيم
    ويطلبُ من الله " أُمَّــةً مُّــسْلِمَةً "

    يالتفرد إبراهيم ..
    لقد رفعَ عينه عن نفسه ؛ وهَجر ضِفافه ..
    ووقف في مُصلّى اليَقين .. وطلب أمــــة !
    وكان الدُعاء في حدِّه أكبرُ من حُدود المرئيّ !
    رُبما ..
    لأنَّ ( الدُعاء باليقين كاشفٌ لحُجُب الغَيب ) !
    ينثالُ الضّياء في دُعاء إبراهيم مثل المَاء ..
    فذاكَ قلبٌ فاضَ بالسُقيا ..
    ( وقدْ يملأُ القَطرُ الإناءَ فيُفعِمُ ) !

    كان كلّ ما حولَ إبراهيم في الواقع ضَامر الغُصن في صحراء فارغة
    ويَذبل في صَمتٍ مُريع .. لكن إبراهيم يدعو بيقين
    فيَلُوح نخيلٌ كثيف من الروضة الخضراء
    يهَبُ النَسيم .. يبدو النَخيل في طيبةٍ كالمآذن !
    ويستجاب الدعاء ..

    وفي المَدى ..
    تتمدَد حضارة لا تتَبدّدِ ..
    تنهمرُ السَماء بالوحي مثل النَدى .. تتورّد الحياة
    وتقفُ الكَعبةُ كالطَود في الصَحراء ..
    يتوافد الحجيج وعند أستارها .. ويلمُّ الحَجيج شَتات قلوبهم !

    يا لله ..

    كان دعاء إبراهيم حلم
    وكَم من حلُم كانَ أُنسُه يقينُ اليقظة

    لذا قلبٌ ليس فيه طَمأنينة اليقين
    لا يُعَوّل عليه
    ولا يُختارُ للإمامة ( ولنْ يُفتح لكَ بابٌ لست تَطرُقه ) !

    "وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ "
    هنا لا شروخَ في اليقين ..
    يصيغُ إبراهيم من حروف الدعاء غابة بياضٍ أسمُها
    أمّة النُبوة !

    لقد وجَد إبراهيمُ معنى وجوده
    لذا كانَ الدُعاءُ صَدى سعيه .. صَدى ارتحاله .. وصَدى السَجايا !
    وكانت له الإجـابة .. إذ لاحُجبَ تمنع عنه الإجابة ..
    فقد قدَّم كُل الَقرابين !
    وإنَ النَّذر الذي يُقَدّم مِن خُبزِ الجُوع ؛ نَذرٌ مُقدّس ..
    فقد انفردَ في خانة البُطولة وحيداً !
    واللهُ من بعد
    يحفظُ للمُخلصين أُمنياتهم

    يهبهم إياها .. ويَحوطها من أنْ تتدنَى
    من أن يمسّها بريقُ الدنيا ..
    يحفظ نبضها ؛ إذا تاهَ الجَميع !

    يا خَفيّ اللطفِ ..
    أدرِك أُمنياتنا من أنْ تضيعَ في سؤال ما يَفنى
    وقد خلَقْتَنا لِما يَبقى !


    "وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ"
    هل هزّك المعنى ؟
    عد بذاكرتك إلى المشهد ..
    ها هو إبراهيم في ارتماءٍ مُخبت قد جفَّف الوَجل ريقه أمام السكين ..
    فإذ بالله يجعلُ من الذَبيح أُمّة ..
    يجعلُ من الزَهرة حقل خُزامى !
    كان ذاكَ قبضٌ تَبِعَه وافر البَسط .. غَمَره بالُلطف
    ثمَ غَمره بالحُب ؛ فكانَ الأثر !
    فيا لله ..
    كيف تنتهي المَنايا ، ويبتسمُ المُحيّا !
    تستريحُ جراح إبراهيم من مِلحها
    تلك جراحٌ لم يَهزمها الألم ..
    لذا قال العارفون :
    ( لأنَ الجُرح مهدُ الأمل ؛ تَصبّر ) !
    وقالها السَلف في معنى :
    "إنَ في ذلك لآياتٍ لكُل صَبّارٍ شَكور "
    يَنتهي الصَبر شُكراً
    لأنَ الشاكر يَرى المِنن في طيِّ المِحن !

    "وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ "
    لكَ وحدك
    نحن نُصبح أحراراً بالقَدر الذي نتخلَص فيه من ذَواتنا
    يصقِلنا السَعي ؛ إنْ كان الإخلاص يَؤُمّ النَوايا !

    سُئل أحدُ الصالحين :
    مَن المُجتبى ؟
    فقال : مَن وجدَ أحسنَ سَعيه ما كان في السِّر !

    ‏الإخلاص الإخلاص ..
    فـ "خليجٌ صافٍ ؛ أنفعُ من بحرٍ كَدِر " ..
    وحالةُ الصدق بالثبات ؛ خليقة !

    " وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ"
    ذاكَ هو هَمّ إبراهيم !
    سُبحان مَن
    (يُعطي المُنى بخواطرٍ في النَفْس ِلمْ يَنطق بهنّ لِسان)

    يستجيبُ الله لخاطرِ الدُعاء
    قبل أنْ يَخرُجَ همْساً ..
    يجمعُ اللهُ ماتَبعثر ..
    ثمّ يجعله امتداداً غير مُنقطع !

    يرفع القواعد ويسأل الله أمة ممتدة وهو في نهايات عمره
    يا لله ..
    رُبما تنحني الأجسادُ على عكّازة الكِبَر ..
    رُبما يعجز الجسد ..
    رُبما نجرّ الخَطو ..
    لكـــــن هيهاتَ للصَادق أن يكونَ بلا أثر !

    قال ابن رجَب :
    كم سَتَر الصادِقون أحوالهم ورِيح الصِّدق يَنُمّ عليهم !

    قصّة إبراهيم ..
    قصّة التاريخ عبر عُصوره
    وبعضُ القوم مرّوا وما ضَرّوا ..
    وبعضُهم هُم عافية الدُنيا من بلائها !
    وما هذه الخُطى
    إلا كيْ نتعلّم العُروج

    كيْ نتعلّم أنه :
    ( إذا اشتدَّ الكَلَفُ .. هانتِ على المَرء الكُلَفُ ) !
    فلماذا نُخطئ التّتبع للخُطى ؟
    لأنَنا حيثُ نَميل .. فهل إلى الله تميل ؟ ..
    وإنما ( أنتَ حيثُ يميل قَلبك ) ‏!
    فقُل :
    الَلهمّ أَعذ قَلبي مِن هوى طغَى ..
    ومِن لمّة الخَطايا ..
    ومِن جَذبة الطّين !
    فهي سَببُ الفَوت ..

    وكلّ فوتٍ مِن السّبْق ؛ مَوت !
    وبعض أسبابها ؛ صحبةُ الآفلين ..
    حينها ؛ لا نلمحُ مافينا من عَرج ..
    وقدْ قيل :
    إذا تباطأ القَطيعُ ؛ تقدّمتِ العَرجاء !
    فهل أدركت لماذا نُخطئ التَّتبع للخُطى ؟!

    إنّ التَخليط ؛ يَتبعه التّفريط ..
    والتَبسّط في النواهي
    أوَل الشَهوة .. ثمّ يَتبعها انطفاءاتٌ لا تعدّ ولا تُدرى !
    والإصطفاءُ يسبقه الصفاء ..إن الاصطفاء لايولَد في فَوضى الكلام ..
    ولا في فَوضى النّيات ..
    ولافي الصُدور المُنهكة من الوَساوس !
    فإلى اللهِ نَشكو ..
    هَشاشة السّعيِ وقِلّة الحِيلة على المَعالي ..
    وخَيبةً مُخبّأةً في القُلوب ..
    وفَراغاً من يقينِ الأُمنيات ..
    نعوذُ بكَ مِن أنْ نَضِلّ الطَريق ؛ ونحنُ نَظُنّ أنا على وشك الوُصول !



    الخطوةُ السابعة



    "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ
    يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
    "

    " وَابْعَثْ فِيهِمْ "
    كان إبراهيمُ يهدينا الحُبّ غَيباً بالدُعاء
    ويُورثنا مَفاتيح الرُشد ..
    يُلقي دلاءَ الدُعاء وفي رُؤى الروح مَدى !

    كان إبراهيمُ الرائي
    وفي عينيه يرى نبيّا آت من الغيب ..
    يراهُ بعين قلبه .. فالقُلوب الصافيةُ ؛ لاتَحجبها العَتمة !
    " رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"

    يا لله لمّا فاضَ القلبُ بالفهم !
    سَالَ بالوعي الدُعاء ..
    والبصيرةُ ؛ أنْ تخرُج من حَيّز المَكان والزَمان
    وتَرى ما وراء الّلحظة !
    ترى الحل ..


    كان دُعاء إبراهيم ؛ مثل رُواءٍ ونَماء يَختبئُ في نُقطة مطر ..
    وكلّما نضجَ المرءُ تكثَّف كلامه في القليل
    حتَى تسيلَ مِن الكلمة مَعاني الأسرَار !

    هذا دُعاءٌ فيه أسبابُ الإمامة للأُمّة المُسلمة ..
    حيث يرتقي إبراهيم بنا من مقام إلى مقام ..

    من مَرحلة الدعاء بـ "وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ "
    إلى مرحلة صناعة إمامة الأُمّة " وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"

    يُرتّب لنا إبراهيم أولويات البَدء
    فالبيت بدون معلم لا تكتمل غايته !
    وتلك هي بصيرةُ السَابقين ..
    إذْ لا تبلُغ الكعبة غايةَ معناها دونَ مَطلع الوَعي
    دون من يعلمنا الكتاب والحكمة !

    يقفُ إبراهيم وحده في المَشهد
    لكنّ المُبصر هوَ مَن يقف في القرَار الواعي
    وفي الرؤية المبكرة ، وفي السّبق مُنفرداً
    فيخبرنا كيف يكون البدء في التغيير .. يعلمهم !

    فيارَبّ ..
    ألهِمنا فَهم الأنبياء .. وَ وعي الأنبياء


    ترى ..
    هلْ خُطّ في الَلوح ؛ أنّ العلمَ قَدر الإمامة ..
    وأنّه مَعنى الولادة !
    أية ولادة؟
    الولادة الثانية التي تكونُ؛ باختياراتنا
    وبألوانٍ ننتقيها من الأقدار .. وتلك هي حسابنا يوم القيامة !

    "يَعلِّمُهُمُ "
    لأنّ العلم روح مهمة الأنبياء ..
    ولقد رُؤي النَبي ﷺ في المَنام يقول :
    ( إنّي خبّأت تحت مَنبري طِيباً ..
    وأَمَرتُ مالكاً أن يفرقه على النَاس ) ..
    فتأوّل الناس المعنى أنّه العلم ..
    وأنَ الإمامَ مالك بن أنس مَن سَيُنفّذ الوَصية !
    يتنفّس مالك الرُؤيا ؛ ويلبّي ..
    لبّيك الَلهُمَّ علماً وحكمة ..
    لبّيك إجابةً لدُعاء إبراهيم ..
    لبّيك عافيةً من بلاءِ الجَهل !
    لبيك على خطى إبراهيم !

    "يعَلِّمُهُمُ "
    يلتقطُ السلف فقه الدُعاء
    ويُصبحون وَصية إبراهيم
    فتَرى ابن مُزاحم له مكتبٌ فيه ثلاثة آلاف صَبي
    يدورُ عليهم يعلّمهم القرآن والسنة ولا يأخذ على ذلك أجراً !

    "يعَلِّمُهُمُ "
    فكتب التاريخ أنّهم كانوا يجلسون طُوال الليل يقيمونه
    بتذاكُر الفقه حتَى نداء الفَجر !
    وفي الليل كانت تلك صلاةُ السَلف ..
    وكان الدُعاء :
    يا مُعلِّم إبراهيم علِّمنا
    و أخرِجنا من ظُلمات الجَهل والوَهم إلى نُور الفَهم


    ثم نرى ابن عَباس يفسّر معنى "السّائِحون"
    بأنّهم طلبة العلم .. ويؤصّل لمعنىً عَميق ..
    لن يأتي إليكَ مِن البرِّ شيءٌ مالم تَسعى إليه
    وما تبحث عنه سيبحث عنك !

    تلك سياحة لم تعرفها البشرية من قبل !

    ويؤسّس بذلك للرحلة في طلب العلم
    فيبلُغنا أنّه يسيرُ أحدهم لأجل معرفة حديثٍ
    مابين البَصرة والكوفة مئات الأميال
    ويطوف غالبَ العلماء في الأرض بحثاً عن العلم
    حتى قال إبراهيم بن أدهم :
    إنَ الله يدفع البلاءَ عن هذا الأمّة برحلة أهل العلم .

    فمتى ستُشرق أنتَ بالعلم
    وتُصبح للأمّة عافيتها !؟


    يَرى إبن قُتيبة نبيّ الله ﷺ في المَنام يحمل صحيفةً
    فيقولُ له : يارسولَ الله .. مافي هذه الصحيفة ؟
    فيردّ عليه ﷺ : أسامي العُلماء !
    ليسَ في يدِ مُحَمد ﷺ
    إلا أسماءَ مَن كانوا على خُطى الأنبياء !

    يستيقظُ البخاريُّ في الليلةِ الواحدة من نومه
    فيوقد السّراج ، ويكتب الفائدة تمرّ بخاطِره
    ثمّ يطفئ سراجه ، ثمّ يقوم مرة أخرى وأخرى
    حتى يتعدَد منه ذلك قريباً من عشرين مرة ..
    كانت كلّ خاطرةٍ يراها البخاري هِبة ..
    فقد بلَغه ؛ أنّ العلم وهائب ، وإنَ الله إذا أحب عبداً منَحه الوهائب !

    تبلُغ مؤلَفات الطبراني 75 مؤلفاً ، فلمّا سُئل عن ذلك قال :
    كُنت أنام على البواري ـ أى الحُصر ـ ثلاثين سنة ؛ لا هَمّ لي إلا العلم !
    فإنها قربة لله ..

    يالله ..
    لا يسرقُ العُمر شيءٌ ؛ مثل الغَفلة عن المَهمّة ..
    مثل الإنكفاء على الماضي ونسيان المطلوب ..
    مثل المَوت مُبكراً والروح فينا !
    فياربّ ..
    اهدنا الصّراط المُستقيم ..
    فقد تَعِبنا من طُول الطُرُق الفارغة التي تَنأى بنا عَنك !
    تَعِبنا من عبادةٍ لا تبلّغنا ..


    وقد قالها سَهل التّستري :
    ( مَا عُصِيَ اللهُ تعالى بمعصيةٍ أعظمَ مِن الجَهل ِ)
    وكنت قادرا على العلم !

    فتنبّـــه لِما يَسْكُن في داخلك ..
    واسأل نفسك :
    أين أنتَ من ذاتك ؟!
    أين أنتَ من معنى دعاء إبرهيم ؟!
    اغسْل نَفْسك من نَفسِك !
    اغسْل نَفْسك من جهلك !

    وقل أنا لكَ ..
    فلا تَجعلني أرتَدّ إلى الجَهل .. فلا تجعلني في غَيابةِ العماية !


    وتنبه أن ما قبل الإسلام كان جاهلية الجهل !
    يكتُب التاريخ ..
    أنَ أحدهم يُشكَلُ عليه بابٌ من العلم
    فيُنفق ثمانينَ ألف درهم حتى يُتّقنه .
    ذاكَ معنى الشّغفُ ..
    والفؤادُ يطلُب مايُشبهه !

    فالَلهم أصلِح لنا نورَ البصيرة
    حتى لا يدوس العُمر في شَوك الجهل ..
    نعوذُ بكَ من أن نَنتبه للمَهمّة
    وقد قارَب الوقت على الإنتهاء ..
    نعوذُ بك من ثَرثرة العمر ..
    وفَناء الأوقات ..
    وغيابٍ في الهُموم ..
    وانكفاءٍ على الأحزان التي هي من سعي الشيطان ..
    فما لهذا خُلِقْنا !

    ‏إلهي ..
    أغِثنا بالعلم .. فإنّ اللُّطفَ منكَ صلاح !
    ياربّ ..
    مَن استعدَّ ؛ استَمدَّ ..
    فهَيءّ لنا الإستعدادَ ؛ حتى يُفتح لنا باب الإستِمداد !


    يا دَعوة إبراهيم ..
    يامُسلِم اليوم ..
    ( اشتاقتْ إليكَ عِجافٌ أنتَ يُوسُفها ) !
    فلو تَدري يا تائهاً ..
    أنك أنتَ الدَّليلُ لو تَبغي !

    الخطوةُ الثامنة



    " وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا "
    يا لسعة المقام .. ويا لأفق المعنى

    تسرحُ أسرابُ الملائكةِ في الكلماتِ
    ويذوبُ العُمرُ شوقًا لمثلِ هذا المقامِ !

    وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ
    فقد كان إلى الله مهرولا و ملبيا ..

    لبّيكَ اللهمَّ لبيك
    بالعمرِ وبالروحِ وبالولدِ


    تلكَ تلبية إبراهيم
    تلبيةٌ ؛ تشبهُ تَسَلُّقَ السماءِ وهيَ حُبلى بالمطرِ !

    لبيكَ اللهمَّ لبيكَ ..
    فتنمو السنابلُ في صوتِ إبراهيم وتكتظُّ المقاماتُ !

    كان إبراهيم يردد طوال رحلة عمره لبيكَ اللهمَّ لبيكَ ..
    فترتفعُ التلبيةُ في انعتاقٍ تامٍّ من قيود الشيطان !

    لبيكَ اللهمَّ لبيك ..
    يرتفعُ الصوتُ نحوَ العرشِ ؛ ويَظَلُّ في ذاكرةِ الكونِ أبدًا !

    لبيكَ اللهمَّ لبيكَ .. فلا شتاتَ عَنْك !
    كانَ والله ذلكَ استثناء ؛ إذ هزمِ إبراهيم الهزيمةِ
    حتى عجزتِ الفتنةُ أن ترﺩَّ ﺍﻟﺨﻄﻮَ ‏ﻟﻠﻘَﺪَﻡِ ﺍﻟﺘﻲ ﺳﺎﺭﺕ ..
    للقدمِ التي تفردت حتى استحقت جوار البيت !
    فلقد كان ترتيلُه طوال الهجرة ؛ِ لأجلِكَ وحدك يامولاي تُقطَعُ المسافات !

    كان إبراهيمُ استثناءً ..
    فلم يُكتبْ لهُ أنه همَّ بِالنَّظرِ للخَلفِ في الطريقِ إلى الله !
    فكانَ التجلّي عليه بما لاعين رأت من كرمِ الاصطفاءِ !

    في ذاكرةِ الثباتِ أنتَ يا إبراهيم
    وفي ذاكرةِ الفردوسِ
    وفي ذمةِ الخلودِ عليا !

    يشيب إبراهيم ولا يشيب قلبه
    يبني البيت في آخر عمره
    لأنه ماشابَ قلبٌ شيمتُهُ السعي
    ونضرةُ القلبِ في همّتهِ .. نضرةُ القلب في خفيِّ نيته ..
    ولا يحي الروح
    مثل دوامِ الإخلاصِ في غيبةِ الشهود !


    كان إبراهيم .. نبيا فتحَ اللهُ له بجودِهِ أقفالَ الدهرِ ..
    ومن اصطلحَ مع الفتاحِ
    فتح له ما أُغلِقَ من الآمالِ

    ( وكَم في اتّساع النوايا من هدايا ) !
    وذاك سر إبراهيم ..

    "ولقد اصطفيناهُ "
    بصيغةِ الماضي ؛ التي تخبركَ بعلمِ اللهِ فيه .. فاستحق قرب المعية ..
    ومن تحققتْ له سابقةُ العنايةِ عصمهُ اللهُ من دنسِ الجنايةِ ..
    وكلَّ من دَنى استحقَ القُربَ !

    اصطفيناه .. و كان الابتلاءُ فقط
    كي يوقدَ زيتُ النبوةِ ، وتنبتُ المقاماتُ ..
    لذا قيلَ ..
    الاختباراتُ لاتُغيرُنا ؛ بل تكشفُنا ..
    ولايكتملُ الجوهرُ ؛ الا بأداءِ فريضةِ العبودية لله !

    ولقد كان إبراهيم يتوضأُ من جرار الصبر في خضمِ المحنِ
    ويؤمُنا في الثباتِ ..
    ومثلُك يا إبراهيم ؛ يُكتفى به إماماً !

    يا إبراهيم ..
    أنتَ درسُ الطريقِ ..
    وإنما يُمطَرُ الغيمَ ؛ في الأرضِ التي تُحسنُ في اللهِ الظنَّ !

    "ولَقد اصْطَفيناه "
    فكان لله .. (وما الإصطفاء إلا خلوُّ الأيدي من الْإغراءِ ) !
    فانظر إلى قلبك ويدك
    فأنتَ عبدٌ لِما تشتهي ..
    وخيرُ العبادِ الذي مِن عَجزه انعتقا
    ‏وتساقُطُ القيد مرهونٌ بتحريرِ القلب ..
    (وما أبعدَ الغاياتِ ؛ عمّن يغريهِ وسواسُ البريقِ ) !

    لقد كان إبراهيمُ عبدا حرًا ..
    وتلك هي معنى العبودية ؛ِ لو تفطنُ الأمّة !
    معنى أن تكون لله ..

    أنت الحياةُ يا إبراهيم ..
    ولن يدنوَ منك التلفُ ..
    بِصَدركَ ألفُ داليةٍ نحوَ الله تتّجه
    لم يكدّرْكَ جزعٌ ولا خوفٌ ولا فتنةٌ ولا هلعٌ ..
    وفي كل خطوةٍ كان القلبُ يكتمل !

    وقد سُئِلَ أحدُهُم :
    أين أجدُ الكمل ؟
    فرد عليه :
    في الخفياتِ من الأعمالِ الجليلةِ
    فإن الله قد استأثَرَهُم بها !
    فافهمِ المعنى من قوله تعالى :
    "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ "

    " ولقد اصطفيناه " لماذا ؟
    لأن إبراهيم كان استثناء في معنى العبادةِ ..
    فقدْ كانت عِبَادَةُ القَلْبِ فيه
    صَوْنٌ اِلعَهْدِ من أن تسقطَ الراية من فلسطينَ إلى مكةَ !
    يتوقُ مسجدٌ إلى مَسجدٍ ..
    وتظلُّ روحُ إبراهيمَ بينَ المسافاتِ ؛ تنتظرُ منّا زمنَ الفتحِ
    تعانقُ كفُّهُ السكينَ كي نتعلمَ
    أنَّ الانكسارَ يبدأُ حينَ نعجزُ عن الفداءِ !

    كان دعاءُ إبراهيم فكرةُ الغدِ
    كان موعدُ اللقاءِ بمحمد ﷺ في المسجدِ الأقصى
    وكانَ إبراهيمُ ؛ بقيةُ الوصيةِ للأمّةِ في رحلةِ الاسراءِ !
    فيــــاربُّ ..
    ردَّنا بالوعيِ إليك ..
    ردّنا بالحب إليك ..
    ردّنا بالصدق إليك ..
    أنتَ أولى بنا منا ..
    فَرُدَّ علينا زمنَ الوصلِ ..
    فإنَّ زمنَ الوصلِ يمحو زمنَ الانقطاعِ ..
    اعفُ عنا تلكؤِنا ..
    فإن الوصلَ يغيبُ في إثمِ الترددِ
    واجعلْ عبورَنا إليك خفيفاً ..

    ( ومفاوزُ الآمالِ يبعدُ شأوُها
    إن لم تكُن يارب فيها زادي
    ) !

    سلامٌ ..على مَن رُزق كمالَ الدعاءِ في طلبِ الوصلِ
    وسلام على كل من كان على الخطى
    وسلام على كل (من ألحَّ على الله ففلحَ ) ..
    وعلى قدرِ سعةِ القلوبِ يكونُ الامتلاءُ ، ويكونُ الغَدقُ !
    ولقد سُئل أحدُ الصالحين :
    إلى أين يمضي الدعاءُ ؟
    فردَّ :
    ( إلى حيث وقتَّ اللهُ للأمنياتِ أقدارَها ) ..
    وعلى قدرِ الرغبةِ ؛ تولدُ الإجابةُ !

    فتنبّـــه .. فإنّ مافي همّتِّكَ بعضٌ مِن أسبابِ الإجابةِ ..
    فتعَلّمْ دوامَ الطَرقِ !
    ‏اجْعَلْ جَوهركَ على خطى إبراهيم ؛ باحثاً عن الكمالِ لا مُتَقفياً لِلنقائصِ ..
    والعمقُ إن اعوَجَّ ؛ لا يولِد خطّاً مستقيماً فتأمل !
    واعلم أن النّاسُ فِي خداعٍ متصلٍ ..
    الناس في غفلةِ الاعتيادِ ..
    الناس في زورِ الأماني گأنّما والله فرغوا من الحساب !

    واللهُ يصفُ إبراهيم " وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ"
    لأن الخواتيمَ رهنُ البداياتِ
    والحشر ميقات البوح ..
    وقد تذوبُ النفوسُ حينها عند فوتِ المقاماتِ !

    فهرول إلى الله ملبيا
    ومَن عَزَّ عليه دينَه توَرَّعَ ..
    ومَن هانَ عليه دينَه
    تبرّعَّ بحسناتهِ ، و وقته ،ِ وكيسِ عُمُرِهِ ..
    فاسأل الله إقبالاً وقبولاً ..
    أنَّ ( القَبولَ بشيره الإقبالُ ) !
    فاثبت على الخطى ..


    الخطوةُ التاسعة



    "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "
    كم بيننا وبين هذا المقام
    يسأله فيجيب .. بلا تلكؤ و لا تردد
    " أَسْلِمْ "

    أسْلَمَ إبراهيم لله فأسْلَمتْ له الخُطى
    وانتَهت الخَطايا
    لم يجادل ربه في أقداره
    و سلم لأحكامه فانتهت الخطايا ..
    وصار الحُب مِلء المَدى !

    أسلَمَ إبراهيم لله ..
    فلم يكتُب عُمره فيمَن نَضَب !
    ووهبه الله بركة بعد المدى ..
    أسلَمَ ..
    فتَسلّمَ القُرب !
    ترى ما القُرب ؟
    أمْ تلك دَهشة الأفهام حين تنكشفُ الحُجب !

    أسْلمَ ..
    فتَسلّم إبراهيم الخُلود !
    ترى ما الخُلود ؟
    أتراه الإبحارُ في زمنٍ بلا مَرفأ !

    أسلَمَ ..
    فأُبيحت له سِدرة المُنتهى وانتهى زمن الوجع
    وذاقَ لون الجَمال ..
    هناكُ حيثُ تَريقُ الحُور غِنائها في مَسامع الجنّة
    مثل فجرٍ يسيلُ بألوان الشّفَق !
    يشمُّ إبراهيم الأريج في صوت المَلائكة
    وَيرى المَطر في هَمس التّسبيح !
    تُفتحُ أبوابُ الجنّة ؛ فيفوحُ عبَق الشَوق ..
    يلمحُ إبراهيم الحُبّ مَزروعاً في الفِردوس
    حقولا من الأجر على ما مضى
    يشرب الشَهد كَلِماً طَيّباً ..
    وعلى المَنابرِ المَوعد !

    أترانا نَلمسُ الحَقائق
    لو صيغت في كْلمات ؟!
    لا و ربي ..
    فالآخرة غيب يرى إذا انكشفت الحجب لمن اصطفى

    لقدْ هَمّ إبراهيمُ بالسبق
    فبادَر ..
    ومَن أرادَ المفَاخِر لايرضى بالصّف الآخِر !
    كانت قدمه سابقة
    فاستحقت خلودا في جوار البيت



    " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ "
    كأن الآيةَ توحي لكَ بالمُراد
    اعتِقْ ما أحبَبت فإنّ الجزاء على قدر التَخلّي !
    وتعلم فقه الترك لله
    فبه يكون السبق !

    "قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"
    أتيتُك طَوعاً وعُمراً شهيّا فقَرّب إليَّ كُلّ المُنى ..
    وقدْ كانَ
    لأنّ (مَن يقترفُ حسنةً الوَظائف ؛ نَزِد له حُسن الّلطائف ) !
    من يعبد الله بما يحب يوهب ما يحب !
    قَلبٌ رَضي بما تركَ وأفردَ الله ؛ فما اشترك
    وطَوى الفؤادَ على معنى
    ( لن يَسبقني إلى الله أَحد )

    يُسطِّر القُرآن نهاية الرّحلة ..
    فيَجفِل الشَيطان مِن ضفاف الضّوء التي بلغها إبراهيم
    فقد كان النُور أقصى ممّا يُطيق !
    و عجز الشيطان أن ينال من عمرك يا إبراهيم شيئا !
    فقد كان عمرا (ليس للشيطان فيه نصيبا ) !

    كان عمرا أسلمه ..
    وسلمه لله؛ فتسلمه الله مقبولا.


    تم جمع الخطرات ورشيق المقالات بفضل الله
    صفحة الدكتورة الكريمة على الفيس بوكـ
    ‎د. كفاح أبوهنّود‎. 272,113 likes · 10,146 talking about this. ‎كفاح أبوهنّود دكتوراة في التفسير وعلوم القرآن كاتبة تربوية ومشرفة برامج قرائية عديدة‎

    مع صادق الدعاء



    ( ولأني صغيرة وقصيرة
    على أن أصل إلى قفل الغياب
    جلست بجانب الباب
    .)




    إلى كل عضو له عضوية في منتدى
    إلى كل أخ وأخت كانوا يوماً هــنا !
    لمـــــــــــاذا !؟؟
    مهتـ منال محمد ــمة

  • Font Size
    #2
    رد: على خُطى إبراهِيم د. كفاح أبو هنود

    جزاك الله خيرآآآ
    https://www13.0zz0.com/2021/07/24/07/946633894.jpg

    تعليق

    Loading...


    يعمل...
    X