حملة ( اقرأ وربّك الأكرم )

ميسون قصاص

Well-known member
حيّاكم الله ...


( اقرأ وربّك الأكرم ) ... حملة بدأناها بآية مباركة من كتاب الله ... آية لو تعمّقنا في معناها لفهمنا أنّ من يقرأ يزدد كرامة ... وفي هذا المعنى يأتي قول رسول الله : ( اقرأ وارتق ) ...
icon_razz.gif


حملتنا واحدة من حملات سبقتها للتّشجيع على القراءة وتوقّفت هنا وفي أماكن أخرى ...


وقد فتحنا سابقاً مكتبات ووضعنا روابط لكتبٍ وأبحاث قيّمة لكن لم نجد لذلك صدى لكثرة الكتب المطروحة ...


وحاولت أن أضع خطّة تجعلنا نقرأ كتاباً على النّت كلّ أسبوعين أو كلّ شهر ( حسب حجم الكتاب ) وذلك من خلال تنزيل الكتاب على أجزاء ... كلّ جزء في مشاركة بحيث يستطيع الزّائر قراءة الجزء خلال 10 د إلى ربع ساعة ...
يعني المسألة كلّها تتطلّب منّا قراءة من 10د إلى ربع ساعة ...في المشاركة الواحدة ... فهل هذا كثير؟؟!!!
marsa138.gif


لنلتزم معاً بحدٍّ يوميٍّ أدنى للقراءة وهو قراءة مشاركة واحدة ... فقد لا يتسنّى لي الوقت للدّخول يوميّاً وكتابة ما لديّ ... فأضطر إلى كتابة عدد من المشاركات وما عليكم سوى أن تلتزموا بقراءة مشاركة واحدة يوميّاً ... ومن أحبًّ أن يزد فلا سَرَف في الخير .


وأوّل من ينتهي من قراءة الكتاب كاملاً يدخل ويسجلّ اسمه ليكون القارئ الذّهبيّ ومن بعده الفضّيّ ومن بعده البرونزيّ ... ومَن بعدَهم يكونون قد كسبوا مع سابقيهم الأجر وقراءة الكتاب ... وأنا أكون قد الأجر معكم بإذن الله وحفظ الكتاب نظراً لكتابته وتدقيقه ممّا قد سيجعلني أحفظه وإن كبرت على الحفظ وبدأت أنسى كثيراً
marsa187.gif


سننتقي لكم من الكتب ما هو مشوّّق ومتنوّع وجديد ... وما يمكننا تقسيمه دون انقطاع في الأفكار ... بعد تدقيق كلِّ جزء لغويّاً وطباعيّاً ...
بإذن الله ...


وسنبدأ بأوّل كتاب :



الأذكِيَاءُ


مِن الفُقَهَاءِ والمُفَسِّرِين وَالرُوَاة والمُحَدِّثِين والشُعَرَاء


وَالمُتَأَدِّبِين وَالكُتَّاب والمُعَلِّمِين والتُجَار والمتسببين


وطوائف تتصل لِلْغفلة بسبب متين

لابن الجوزي


فعلى بركة الله ...

-----------------------------------
فهرس الكتاب الأوّل : الأذكياء

 
التعديل الأخير:
الفصل الأوّل من ذكاء الأنبياء


· قال ابن عباس: لمّا شبّ اسماعيل تزوّج امرأة من قبيلة (جُرهُم) , فجاء إبراهيم فلم يجد إسماعيل , فسأل عنه امرأته فقالت:
خرج يبتغي لنا.
ثم سألها عن عيشهم فقالت:
نحن بشر في ضيق وشدّة, وشكت إليه, فقال:
فإذا جاء زوجك فاقرأي عليه السَّلام وقولي له:
يغيّر عتبة بابه .
فلمَّا جاء أخبرته فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك, الحقي بأهلك .

· ومن المنقول عن سليمان عليه السَّلام :
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال :
خرجت امرأتان ومعهما صبيّان , فعدا الذِّئب على أحدهما , فأخذتا تختصمان في الصَّبيِّ الباقي , فاختصمتا إلى داود عليه السَّلام, فقضى به للكبرى منهما, فمرّتا على سليمان عليه السلام, فقال ما أمركما ؟
فقصّتا القصّة.
فقال: إيتوني بالسِّكِّين أشقُّ الغلام بينكما .
فقالتِ الصُّغرى: أتشقُّه ؟
قال: نعم .
قالت: لا تفعل , حظِّي منه لها .
فقال: هو ابنك. فقضى به لها .

· وعن محمَّدٍ بن كعب القرظيِّ قال :
جاء رجل إلى سليمان النبيِّ عليه السَّلام فقال: يا نبيّ الله ! إنَّ لي جيراناً يسرقون إوَزِّي .
فنادى الصَّلاة جامعة .
ثم خطبهم, فقال في خطبته: واحدكم يسرق إوزَّ جاره, ثم يدخل المسجد والرِّيش على رأسه !
فمسح رجل برأسه, فقال سليمان: خذوه فإنَّه صاحبكم.

· ومن المنقول عن عيسى عليه السَّلام : أنَّ إبليس جاء إليه, فقال له : ألستَ تزعم أنَّه لا يصيبك إلَّا ما كتب الله لك ؟
قال: بلى .
قال: فارم بنفسك من هذه الجبل, فإنَّه إن قدَّر لك السَّلامة تسلم .
فقال له : يا ملعون , إنَّ لله عز وجلَّ أن يختبر عباده , وليس للعبد أن يختبر ربّه عز وجلّ .

· وعن عليٍّ رضي الله عنه قال :
لمَّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وجدنا عندها رجلين : رجلاً من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط . فأمَّا القرشيِّ فأفلت, وأمَّا مولى عقبة فأخذناه, فجعلنا نقول له: كمِ القوم؟ فيقول : هم والله كثير عددهم, شديد بأسهم .
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه, حتى انتهوا به إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلّم, ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم سأله : كم ينحرون من الجزر ؟
فقال: عشراً لكلِّ يوم .
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم : القوم ألف, كلّ جَزُور ( جمل ) لمئة وتبعها .

· وعن أبي هريرة قال:
قال رجل: يا رسول الله, إنّ لي جاراً يؤذيني .
فقال: انطلق وأخرج متاعك إلى الطَّريق .
فانطلق وأخرج متاعه فاجتمع النَّاس عليه, فقالوا ما شأنك ؟
قال: لي جار يؤذيني , فذكرت ذلك للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلّم فقال : " انطلق وأخرج متاعك إلى الطَّريق".
فجعلوا يقولون : اللَّهمَّ العنه, اللَّهمَّ اخزه.
فبلغه فأتاه , فقال : ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك .

· وعن الحسن أنَّ رجلا أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم برجل قد قتل حميماً له, فقال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم :" أتأخذ الدِّية؟ "
قال : لا
قال: أفتعفوا؟
قال: لا.
قال: اذهب فاقتله !
فلمَّا جاوزه الرَّجل قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم : إن قتله فهو مثله .
فلحق الرَّجل رجلاً فقال له : إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم قال كذا, فتركه وهو يجرُّ نسعه في عُنُقه .

قال ابن قتيبة: لم يرد رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم أنَّه مثله في المأثم واستيجاب النَّار إن قتله . وكيف يريد هذه وقد أباح الله عز وجلّ قتله بالقصاص , ولكن كره رسول الله أن يقتصَّ وأحب له العفو, فعرّض تعريضاً أوهمه به أنه إن هو قتله كان مثله في الإثم ليعفو عنه, وكان مراده إن يقتل نفساً كما قتل الأوّل نفساً فهذا قاتل وهذا قاتل , فقد استويا في قاتل وقاتل, إلَّا أنّ الأوّل ظالم والآخر مقتصّ.
· وفي حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم من هذا كثير خصوصاً في المعاريض , فمن ذلك روي عن سعيد بن المسيّب أنَّ عائشة رضي الله عنها سئلت :
· هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يمزح؟
قالت : نعم . كان عندي عجوز, فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم فقالت :" ادع الله أن يجعلني من أهل الجنّة ".
فقال:" إنَّ الجنّة لا تدخلها العجائز."
وسمع النِّداء, فخرج ودخل وهي تبكي , فقال: ما لها؟
قالوا: إنَّك حدّثتها أنَّ الجنَّة لا يدخلها العجائز.
قال:" إنَّ الله يحوّلهنَّ أبكاراً عرباً أتراباً ".

· وحدّثنا القرشيّ قال : دخلتِ امرأة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم فقال : " من زوجك " ؟
فسمّته له, فقال :" الَّذي في عينيه بياض "؟
فرجعت فجعلت تنظر إلى زوجها , فقال : ما لك؟
قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم:" زوجك فلان"؟
قلت: نعم . قال:" الَّذي في عينيه بياض"؟
قال : أوليس البياض في عينيَّ أكثر من السَّواد؟

· حدّثنا أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلّم ليستحمله فقال: " أنا حاملك على ولد ناقة ".
قال: يا رسول الله, وما أصنع بولد ناقة ؟
قال:" وهل تلد الإبل إلا النُّوق؟".
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله الفردوس اخت ميسون على هذه المبادره الطيبه
وخاصة لو ان كل عضو اخبرباسم كتابه المفضل مثلا وقام بكتابة او نقل بعض المواضيع من الكتب المفضله لديه لتنوع المنتدى ولن نجد تقريبا اي تكرار للمواضيع
انا لا احبذ كثيرا نقل مواضيع من منتديات اخرى ...وانما من الافضل والامثل لنا ان نكتب
مواضيعنا من الكتب المنوعه لنقل ما فيها من فوائد ومعلومات وحتى ما يزيد من متعة
المطالعه...وخلينا نقول من مبادئ هالمبادره الراقيه
نعم لنقل المعلومات من المكتبات
لا لنقلها من المنتديات:17:
ان شاء الله مشاركاتي ومواضيعي راح اقوم بنقلها من افضل واحب الكتب عندي
لضمان التنوع وعدم التكرار
مبادره وفكره رائعه وهي بمثابة احياء فريضة وسنة تكاد ان تندثر في
بعض بيوت المسلمين ...وعلينا ان لا ننسى اننا امة اقرأ وهكذا يجب ان نكون



أهلاً بك حبيبتي ... فكرتك طيّبة ... لكن هي تصلح لتكون في موضوع لوحدها ... وهنا يمكن لأول من ينهي قراءة الكتاب أن يختار هو الكتاب وينقله هنا مجزّءًا ومدقّقاً كما أفعل ... لنقرأه كاملاً ... وبغير هذه الشّروط وهي :
اللّغة الفصيحة السَّـليمة والإملاء والضّبط السّليم للنّص لن يتمّ قبول أيّ مشاركة ... لكنّنا حتماً نقبل أن ترشّحوا لنا كتباً بعينها ...

أمّا التّكرار فليس بوارد مطلقاً بإذن الله لأنّنا سنختار الكتب من مجالات متعدّدة ...
حبيبتي ندى لو وجدت لديك القدرة على النّقل والتّدقيق أنت وغيرك ... فالحملة بحاجتك ... وجزاك الله خيراً ....

 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
بارك الله فيك
تقديري
بنت التحدي
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله الفردوس اخت ميسون على هذه المبادره الطيبه
وخاصة لو ان كل عضو اخبرباسم كتابه المفضل مثلا وقام بكتابة او نقل بعض المواضيع من الكتب المفضله لديه لتنوع المنتدى ولن نجد تقريبا اي تكرار للمواضيع
انا لا احبذ كثيرا نقل مواضيع من منتديات اخرى ...وانما من الافضل والامثل لنا ان نكتب
مواضيعنا من الكتب المنوعه لنقل ما فيها من فوائد ومعلومات وحتى ما يزيد من متعة
المطالعه...وخلينا نقول من مبادئ هالمبادره الراقيه
نعم لنقل المعلومات من المكتبات
لا لنقلها من المنتديات:17:
ان شاء الله مشاركاتي ومواضيعي راح اقوم بنقلها من افضل واحب الكتب عندي
لضمان التنوع وعدم التكرار
مبادره وفكره رائعه وهي بمثابة احياء فريضة وسنة تكاد ان تندثر في
بعض بيوت المسلمين ...وعلينا ان لا ننسى اننا امة اقرأ وهكذا يجب ان نكون








أهلاً بك حبيبتي ... فكرتك طيّبة ... لكن هي تصلح لتكون في موضوع لوحدها ... وهنا يمكن لأول من ينهي قراءة الكتاب أن يختار هو الكتاب وينقله هنا مجزّءًا ومدقّقاً كما أفعل ... لنقرأه كاملاً ... وبغير هذه الشّروط وهي :
اللّغة الفصيحة السَّـليمة والإملاء والضّبط السّليم للنّص لن يتمّ قبول أيّ مشاركة ... لكنّنا حتماً نقبل أن ترشّحوا لنا كتباً بعينها ...

أمّا التّكرار فليس بوارد مطلقاً بإذن الله لأنّنا سنختار الكتب من مجالات متعدّدة ...
حبيبتي ندى لو وجدت لديك القدرة على النّقل والتّدقيق أنت وغيرك ... فالحملة بحاجتك ... وجزاك الله خيراً ....
 
الله يجعله في ميزان حسنتك

وإيّاك أخي الكريم ... وبانتظار ترشيحكم لأيّ كتاب تقترحونه ... بعد انتهائنا من تنزيل الكتاب الأول ... وجزاكم الله خيراً ...
 
بارك الله فيك اختي الكريمه وشكرا على الفكره الجميله والمفيده
 
فكرة جداً رائعة جزيت كل الخير أختي (ميسون قصاص) وأن شاء الله رح نتابع الجديد وياريت تكون مجالات الكتب متنوعة

:21:دمتي بسلام:21:
 
بارك الله فيك اختي الكريمه وشكرا على الفكره الجميله والمفيده

أشكرك أخي الكريم لمرورك الطّيّب ... وإن شاء الله نستطيع دائماً تقديم المفيد والجديد .
 
الفصل الثّاني : من ذكاء الصّحابة ...

الفصل الثّاني : من ذكاء الصّحابة ...

* الفصل الثاني من ذكاء الصحابة*



· فمن المنقول عن أبي بكر رضي الله عنه:
لمّا هاجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم يركب, وأبو بكر رديفه. وكان أبو بكر يعرف الطَّريق لاختلافه إلى الشَّام .
فكان يمرّ بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك يا أبا بكر؟
فيقول: هادٍ يهديني.

· وعن الحسن رضي الله عنه قال :
لمَّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر من الغار لم يستقبلهما أحد يعرف أبا بكر الاّ قال له : من هذا معك يا أبا بكر؟ فيقول: دليل يدلّني الطّريق .
وصدق والله أبو بكر.



· وعن الحسن رضي الله عنه قال : لمّّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يصلّي بالنّاس, فقال:" إنّ الله خيّر عبداً بين الدُّنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله عزّ وجلّ ".
قال: فبكى أبو بكر. فعجبنا من بكائه أنّ خبّر رسول الله صلّى الله عن عبد خيّر . فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر, وكان أبو بكر أخبرنا به .

· وعن ابن عمر قال :
بينما عمر رضي الله عنه جالس إذ رأى رجلاً , فقال : قد كنت امرأ ذا فراسة, وليس لي رأي أن لم يكن هذا الرّجل ينظر ويقول في الكهانة شيئاً.. ادعوه لي .
فدعوه فقال: هل كنت تنظر وتقول في الكهانة شيئاً ؟
قال: نعم .

· وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعسّ المدينة باللّيل, فرأى ناراً موقدة في خباء .
فوقف وقال: يا أهل الضّوء .
وكره أن يقول: "يا أهل النّار". وهذا من غاية الذكاء .

· ومن المنقول عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, عن البحتريّ قال :
جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب, فأطراه وكان يبغضه, فقال له:
إنّي ليس كما تقول, وأنا فوق ما في نفسك.

· أخبرنا سمّاك بن حرب, عن خبش بن المعتمر أنّ رجلين أتيا امرأة من قريش , فاستودعاها مائة دينار وقالا : لا تدفعيها إلى واحد منّا دون صاحبه حتى نجتمع .
فلبثا حولاً, فجاء أحدهما إليها, فقال: إنّ صاحبي قد مات, فادفعي إليّ الدنانير, فأبت وقالت: إنّكما قلتما لا تدفعيها إلى واحد منّا دون صاحبه , فلست بدافعتها إليك.
فتثقل عليها بأهلها وجيرانها فلم يزالوا بها حتى دفعتها إليه .
ثم لبثت حولاً فجاء الآخر, فقال: ادفعي إليّ الدَّنانير.
فقالت: إنَّ صاحبك جاءني , فزعم أنَّك متَّ فدفعتها إليه.
فاختصما إلى عمر بن الخطاب , فأراد أن يقضي عليها, فقالت: أنشدك الله أن لا تقضي بيننا , ارفعنا إلى عليّ .
فرفعهما إلى عليّ , فعرف أنّهما قد مكرا بها , فقال للرّجل: أليس قد قلتما: لا تدفعيها إلى واحد منّا دون صاحبه ؟
قال: بلى .
قال: فانّ مالك عندنا , فاذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليهما.

· ومن المنقول عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما:
لمّا جيء بابن ملجم إلى الحسن قال له : أريد أن أسارّك بكلمة
فأبى الحسن وقال: إنّه يريد أن يعض أذني .
فقال ابن ملجم : والله لو مكّنني منها لأخذتها من صماخه.

ومن المنقول عن الحسين رضي الله عنه أنّ رجلاً ادّعى عليه مالاً وقدّمه إلى القاضي, فقال الحسين :
ليحلف على ما ادّعى ويأخذه .
فقال الرّجل: والله الّذي لا إله إلّا هو.
فقال: قل والله والله والله إنّ هذا الّذي تدّعيه لك قبلي .
ففعل الرّجل وقام , فاختلفت رجلاه وسقط ميّتاً .
فقيل للحسين في ذلك فقال :
كرهت أن يمجّد الله فيحلم عنه !

· ومن المنقول عن العبّاس رضي الله عنه أنّه سئل :
أنت أكبر أم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ؟
فقال: هو أكبر منّي, وأنا ولدت قبله .

· وعن مجاهد قال : بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه إذ وجد ريحا ً, فقال: ليقم صاحب هذا الرّيح فليتوضأ, فاستحيا الرجل .
ثم قال: ليقم صاحب هذه الرّيح فليتوضّأ , فان الله لا يستحيي من الحقّ .
فقال العبّاس: ألا نقوم جميعاً ؟
وقد جرى مثل هذه القضيّة عند عمر رضي الله عنه, عن الشعبيّ : أنّ عمر كان في بيت ومعه جرير بن عبد الله, فوجد عمر ريحاً فقال : عزمت على صاحب هذه الرّيح أن قام فتوضّأ.
فقال جرير: يا أمير المؤمنين : أو يتوضّأ القوم جميعاً ؟!.
فقال عمر: رحمك الله, نَعم السّيّد كنت في الجاهلية, ونَعم السّّيّد أنت في الإسلام .



· خرج أبو بكر في تجارة إلى بصرى قبل موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعام, ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة , وكانا قد شهدا بدراً , وكان نعيمان على الزّاد, وكان سويبطاً رجلاً مزّاحاً.
فقال لنعيمان : أطعمني .
قال: حتى يجيء أبو بكر.
قال: أما لأغيظنّك .
فمرّوا بقوم فقال لهم سويبط : أتشترون منّي عبداً لي ؟
قالوا: نعم .
قال: إنّه عبد له كلام , وهو قائل لكم : إنّي حرّ , فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه , فلا تفسدوا عليّ عبدي .
قالوا: لا, بل نشتريه منك .
فاشتروه بعشر قلائص, ثمّ أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً , فقال نعيمان : إنّ هذا يستهزئ بكم , إنّي حرٌّ ولست بعبد .
فقالوا : أخبرنا بخبرك.
فانطلقوا به, فجاء أبو بكر فأخبره بذلك, فاتّبع القوم فردّ عليهم القلائص, وأخذ نعيمان, فلمّا قدموا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبروه, فضحك النبي وأصحابه منه حولاً .

· وبلغنا أنَّ رجلاً جاء إلى حاجب معاوية فقال له: قل له : على الباب أخوك لأبيك وأمّك .
فقال: ما أعرف هذا. ثم قال: ائذن له.
فدخل: فقال: أيّ الأخوة أنت؟
فقال: ابن آدم وحوّاء.
فقال: يا غلام أعطه درهماً .
فقال: تعطي أخاك لأبيك وأمّك درهماً ؟
فقال معاوية: لو أعطيت كلّ أخ لي من آدم وحوّاء ما بلغ إليك هذا!

· وعن زيد بن أسلم, عن أبيه أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين فكرهوه وأبغضوه, فعزل عنهم , فقال دهقانهم : إن فعلتم ما آمركم به لم يردّ علينا .
قالوا: مُرنا بأمرك .
قال: تجمعون مئة ألف درهم حتّى أذهب بها إلى عمر, وأقول : إنّ المغيرة اختار هذا فدفعه إليّ .
فدعا عمر المغيرة فقال : ما يقول هذا ؟
قال: كذب أصلحك الله, إنّما كانت مئتي ألف .
قال: فما حملك على ذلك ؟
قال: العيال والحاجة .
فقال عمر للعلج : ما تقول ؟
قال: لا والله, لأصدقنّك أصلحك الله, والله ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً .
فقال عمر للمغيرة : ما أردت إلى هذا العلج ؟
قال: الخبيث كذب عليّ فأحببت أن أخزيه .

· ولما فتح عمرو بن العاص قيساريّة سار حتى نزل على غزّة, فبعث إليه علجها أن أرسل إليّ رجلاً من أصحابك أكلّمه, ففكّر عمرو وقال: ما لهذا العلج أحد غيري.
فقام حتّى دخل على العلج فكلّمه, فسمع كلاماً لم يسمع مثله قطّ.
فقال له العلج : حدّثني, هل من أصحابك من أحد مثلك ؟
قال لا تسأل عن هواني عندهم إذ بعثوني إليك وعرّضوني لما عرّضوني , فلا يدرون ما تصنع بي .
فأمر له بجائزة وكسوة, وبعث إلى البوّاب : إذا مرّ بك فاضرب عنقه وخذ ما معه .
فمرّ برجل من النَّصارى من غسَّان فعرفه, فقال: يا عمرو, قد أحسنت الدّخول فأحسن الخروج .
فرجع, فقال له الملك: ما ردّك إلينا ؟
قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك ليسع بني عمّي, فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطيّة, فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد.
قال صدقت , اعجل بهم .. وبعث إلى البوّاب أن خلِّ سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت, حتّى إذا أمن قال : لا عدت لمثلها أبداً.
فلمّا صالحه عمرو ودخل عليه العلج فقال له: أنت هو؟ قال: على ما كان من غدرك .

· ومن المنقول عن خزيمة بن ثابت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ابتاع فرساً من أعرابيّ فاستتبعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المشي , وأبطأ الأعرابيّ فطفق رجال يعترضون الأعرابيّ , فيساومون الفرس لا يشعرون أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابتاعه حتى زاد بعضهم للأعرابيّ في السّوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم , فنادى الأعرابيّ النّبيّ فقال:
إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلّا بعته.
فقام النّبيّ فقال: أليس قد ابتعته منك؟
قال : لا.
فطفق النّاس يلوذون بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والأعرابيّ وهما يتراجعان. فطفق الأعرابيّ يقول: هلمّ شهيداً يشهد أنّي قد بايعتك .
فمن جاء من المسلمين قال للأعرابيّ : ويلك, إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يقول الا حقّاً , حتّى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النّبيّ ومراجعة الأعرابيّ . فطفق الأعرابيّ يقول: هلمّ شهيداً يشهد أنّي قد بايعتك .
فقال خزيمة : أنا أشهد أنّك قد بايعته.
فأقبل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على خزيمة فقال : بم تشهد؟
فقال: بتصديقك يا رسول الله .
فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
وفي رواية أخرى أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لخزيمة: لمَ تشهد ولم تكن معنا ؟ قال : يا رسول الله أنا أصدّقك بخبر السّماء, أفلا أصدّقك بما تقول ؟

· ومن المنقول عن نعيم بن مسعود : بينما النّاس على خوفهم يوم الأحزاب أتى نعيم بن مسعود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله, إنّي قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي, مرني أمرك.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّما أنت منّا رجل واحد, فخذّل عنا ما استطعت فإنّما الحرب خدعة .
فانطلق نعيم حتّى أتى بني قريظة فقال لهم : يا معشر قريظة -وكان لهم نديما في الجاهليّة - إنّي لكم نديم وصديق, قد عرفتم ذلك. قالوا صدقت, قال: تعلمون والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة, إنّ البلد لبلدكم , فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم, وإنّ قريشاً وغطفان بلادهم غيرها , وإنّما جاؤوا حتّى نزلوا معكم, فان رأوا فرصة انتهزوها, وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم, وخلّوا بينكم وبين الرّجل فلا طاقة لكم به , فإن هم فعلوا ذلك فلا تقاتلوا معهم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم تستوثقون به, ولا تبرحوا حتّى تناجزوا محمداً .
فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح.
ثم ذهب إلى قريش فأتى أبا سفيان وأشراف قريش, فقال: يا معشر قريش, إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ودينه, وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ .
فقالوا : نفعل , ما أنت عندما بمتّهم .
فقال: تعلمون أنّ بني قريظة من يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد , فبعثوا إليه : ألا يرضيك أن نأخذ لك من القوم رهناً من أشرافهم , فندفعهم إليك, فتضرب أعناقهم ثم نكون معك حتّى نخرجهم من بلادك ؟ فقال: بلى , فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم , فلا تعطوهم رجلاً واحداً فاحذروا .
ثم جاء غطفان فقال : يا معشر غطفان , قد علمتم أنّي رجل منكم .
قالوا: صدقت.
قال لهم كما قال لهذا الحيّ من قريش.
فلمَّا أصبحوا بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش: إنّ أبا سفيان يقول لكم : يا معشر يهود إنّ الكراع والخفّ قد هلكا, إنا لسنا بدار مقام , فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه, فبعثوا إليه أنّ اليوم السّبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً, ولسنا مع ذلك بالّذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم, لا تذهبوا وتدعونا نناجز محمّداً .
فقال أبو سفيان: قد والله حذّرنا نعيم. فبعث إليهم أبو سفيان: إنّا لا نعطيكم رجلاً واحداً , فإن شئتم أن تخرجوا فتقاتلوا وإن شئتم فاقعدوا , فقالت يهود: هذا والله الّذي قال لنا نعيم. والله ما أراد القوم إلّا أن يقاتلوا محمّداً فان أصابوا فرصة انتهزوها وإلّا مضوا بلادهم وخلّوا بيننا وبين الرّجل , فبعثوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً , فأبوا, فبعث الله تعالى الرِّيح على أبي سفيان وأصحابه وغطفان فخذلهم الله عز وجلّ.
 
الفصل الثّالث : من ذكاء الخلفاء والأمراء

الفصل الثّالث : من ذكاء الخلفاء والأمراء

الفصل الثالث من ذكاء الخلفاء والوزراء



· وجَّه عبد الملك بن مروان عامراً الشّعيبي إلى ملك الرّوم في بعض الأمر له, فاستكثر الشّعبي فقال له :
من أهل بيت الملك أنت؟
قال : لا.
فلمّا أراد الرّجوع إلى عبد الملك حمّله رقعة لطيفة وقال: إذا رجعت إلى صاحبك , فأبلغته جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا, فادفع إليه هذه الرّقعة .
فلمّا صار الشّعبي إلى عبد الملك ذكر ما احتاج إلى ذكره ونهض من عنده , فلمّا ذكر الرّقعة, فرجع فقال : يا أمير المؤمنين, إنّه حمّلني إليك رقعة نسيتها حتّى خرجت, وكانت آخر ما حمّلني فدفعها إليه ونهض .
فقرأها عبد الملك فأمر بردّه, فقال: أعلمت ما في هذه الرّقعة ؟
قال : لا .
قال: فإنّه قال فيها :" عجبت من العرب كيف ملّكت غير هذا!". أفتدري لم كتب إليّ بمثل هذا ؟
فقال: لا.
فقال: حسدني عليك, فأراد أن يغريني بقتلك.
فقال الشّعبي : لو كان رآك يا أمير المؤمنين ما استكثرني .
فبلغ ذلك ملك الروم , ففكّر في عبد الملك, فقال : لله أبوه , والله ما أردت إلّا ذلك .


· وبلغنا عن المنصور أنّه جلس في إحدى قباب مدينته , فرأى رجلاً ملهوفاً مهموماً يجول في الطّرقات , فأرسل من أتاه به , فسأله عن حاله , فأخبره الرّجل أنّه خرج في تجارة فأفاده مالاً وأنّه رجع بالمال إلى منزله , فدفعه إلى أهله , فذكرت امرأته أنّ المال سرق من بيتها ولم تر نقباً ولا تسليقاً.
فقال له المنصور: منذ كم تزوّجتها ؟
قال: منذ سنة .
قال: أفبكر هي تزوّجتها؟
قال: لا .
قال: فلها ولد من سواك؟
قال: لا.
قال: فشابّة هي أم مسنّة؟
قال: بل حديثة.
فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتّخذه له حادّ الرائحة, غريب النّوع, فدفعها إليه وقال له: نطيّب من هذا الطّيب, فإنّه يذهب همّك .
فلمّا خرج الرّجل من عند المنصور قال لأربعة من ثقاته : ليقعد على كلّ باب من أبواب المدينة واحد منكم , فمن مرّ بكم فشممتم منه رائحة هذا الطّيب فليأتني به .
وخرج الرّجل بالطّيب, فدفعه إلى امرأته وقال لها : وهبه لي أمير المؤمنين .
فلمّا شمّته بعثت إلى رجل كانت تحبّه , وقد كانت دفعت المال إليه, فقالت له: تطيّب من هذا الطّيب , فإنّ أمير المؤمنين وهبه لزوجي .
فتطيّب منه الرّجل ومرّ مجتازاً ببعض أبواب المدينة , فشمّ الموكّل بالباب رائحة الطّيب منه , فأخذه فأتى به المنصور, فقال له المنصور: من أين استفدت هذا الطّيب فإنّ رائحته غريبة معجبة ؟
قال: اشتريته .
قال: أخبرنا ممّن اشتريته؟!
فتلجلج الرّجل وخلط كلامه .
فدعا المنصور صاحب شرطته, فقال له : خذ هذا الرّجل إليك, فمن أحضر كذا وكذا من الدّنانير فخلّه يذهب حيث شاء , وإن امتنع فاضربه ألف سوط من غير مؤامرة .
فلمّا خرج من عنده دعا صاحب شرطته, فقال: هوّل عليه وجرّده ولا تقدمن بضربه حتّى تؤامرني .
فخرج صاحب شرطته, فلمّا جرّده وسجنه أذعن بردّ الدّنانير وأحضرها بهيئتها, فأعلم المنصور بذلك, فدعا صاحب الدّنانير فقال له :
رأيتك إن رددت عليك الدّنانير بهيئتها أتحكّمني في امرأتك ؟
قال: نعم .
قال: فهذه دنانيرك, وقد طلّقت المرأة عليك.
وخبّره خبرها .


· قعد المهدي قعوداً عامّاً للنّاس, فدخل رجل, وفي يده نعل ملفوفة في منديل, فقال :
يا أمير المؤمنين, هذه نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أهديتها لك .
فقال : هاتها .
فدفعها إليه , فقبّل باطنها ووضعها على عينيه وأمر للرّجل بعشرة آلاف درهم .
فلمّا أخذها وانصرف قال لجلسائه :
أترون أنّي لم أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرها فضلاً عن أن يكون لبسها ؟ ولو كذّبناه قال للنّاس : " أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّها عليّ " وكان من يصدقه أكثر ممّن يدفع خبره , إذ كان من شأن العامّة ميلها إلى أشكالها والنّصرة للضّعيف على القويّ , وإن كان ظالما اشترينا لسانه وقبلنا هديّته وصدّقنا قوله , ورأينا الّذي فعلنا أنجح وأرجح .


· ومن المنقول عن المأمون : قال عمارة بن عقيل : قال لي ابن أبي حفصة الشّاعر : أعلمت أنّ أمير المؤمنين - يعني المأمون - لا يبصر الشّعر؟
فقلت من ذا يكون أفرس منه وإنّا لننشد أوّل البيت فيسبق آخره من غير أن يكون سمعه ؟
قال: فإنّي أنشدته بيتاً أجدت فيه , فلم أره تحرّك له, وهذا البيت فاسمعه :
أضحى إمام الهدى المأمون منشغلاً
بالدّين والنّاس والدّنيا مشاغيـــــــل
فقلت له: ما زدته على أن جعلته عجوزاً في محرابها في يدها مسبحة, فمن يقوم بأمر الدّنيا إذا كان مشغولاً عنها , وهو المطوّق لها . ألا قلت كما قال عمّك جرير لعبد العزيز بن الوليد:
فلا هو في الدّنيا مضيّع نصيبه
ولا عرض الدّنيا عن الدّين شاغله .


· وكان المعتضد بالله يوماً جالساً في بيت يبنى له يشاهد الصنّاع, فرأى في جملتهم غلاماً أسود, منكر الخلقة , يصعد السّلاليم مرقاتين مرقاتين, ويحمل ضعف ما يحملونه, فأنكر أمره فأحضره وسأله عن سبب ذلك , فلجلج , فقال لابن حمدون - وكان حاضراً - : أيّ شيء يقع لك في أمره ؟
فقال: ومن هذا حتّى صرفت فكرك إليه, ولعلّه لا عيال له, فهو خالي القلب.
قال: ويحك قد خمّنت في أمره تخميناً ما أحسبه باطلاً.. إمّا أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها, أن يكون لصّا يتستّر بالعمل في الطّين .
فلاحاه ابن حمدون في ذلك , فقال : عليّ بالأسود .
فأحضر, ونادى بالمقارع فضربه نحو مائة مقرعة وقرّره وحلف أن لم يصدقه ضرب عنقه وأحضر السّيف والنّطع .
فقال الأسود: لي الأمان .
فقال: لك الأمان إلّا ما يجب عليك فيه من حدّ .
فلم يفهم ما قال له , وظنّ أنّه قد أمّنه فقال :
أنا كنت أعمل في أتاتين الآجرّ سنين وكنت منذ شهور هناك جالساً فاجتاز بي رجل في وسطه هميان فتبعته فجاء إلى بعض الأتاتين , فجلس وهو لا يعلم مكاني , فحلّ الهيمان وأخرج منه ديناراً فتأمّلته فاذا كلّه دنانير فثاورته وكتفته وسددت فاه , وأخذت تاهيمان , وحملت الرّجل على كتفي وطرحته في نقرة الأتون وطيّنته , فلمّا كان بعد ذلك أخرجت عظامه , فطرحتها في دجلة والدّنانير معي يقوى بها قلبي .
فأمر المعتضد من أحضر الدّنانير من منزله, وإذا على الهيمان مكتوب لفلان ابن فلان, فنودي في البلدة باسمه, فجاءت امرأته فقالت: هذا زوجي ولي منه هذا الطّفل خرج في وقت كذا ومعه هميان فيه ألف دينار, فغاب إلى الآن .
فسلّم الدّنانير إليها , وأمرها أن تعتدّ , وضرب عنق الأسود وأمر أن تحمل جثّته إلى الأتون .

· قال المحسن: وبلغنا عن المعتضد بالله أنّ خادماً من خدمه جاء يوماً فأخبره أنّه كان قائماً على شاطئ دجلة في دار الخليفة, فرأى صيّاداً وقد طرح شبكته , فثقلت بشيء , فجذبها فأخرجها فإذا فيها جراب, وأنّه قدّره مالاً فأخذه وفتحه , فإذا فيه آجرّ وبين الآجرّ كفًّ مخضوبة بحنّاء . فأحضر الجراب والكفّ والآجرّ .
فهال المعتضد ذلك, وقال: قل للصّياد يعاود طرح الشّبكة فوق الموضع وأسفله وما قاربه . قال : ففعل فخرج جراب آخر فيه رجل .
فطلبوا فلم يخرج شيء آخر, فاغتمّ المعتضد وقال :
معي في البلد من يقتل إنساناً ويقطّع أعضاءه ويفرّقه ولا أعرف به ؟ ما هذا ملك !
وأقام يومه كلّه ما طعم طعاماً , فلمّا كان من الغد أحضر ثقة له, وأعطاه الجراب فارغاً وقال له : صف به على كلّ من يعمل الجرب في بغداد , فإن عرفه منهم رجل , فسله لمن باعه, فإذا دلّك عليه , فسل المشتري من اشتراه منه ولا تقرّ على خبره أحداً .
فغاب الرّجل وجاء بعد ثلاثة أيّام , فزعم أنّه لم يزل يطلب في الدبّاغين وأصحاب الجرب إلى أن عرف صانعه, وسأل عنه فذكر أنّه باعه لعطّار بسوق يحيى , وأنّه مضى إلى العطّار وعرضه عليه , فقال : ويحك, كيف وقع هذا الجراب في يدك؟
فقلت: أو تعرفه ؟
قال: نعم اشترى منّي فلان الهاشميّ منذ ثلاثة أيّام عشرة جرب لا أدري لأيّ شيء أرادها وهذا منها .
فقلت له : ومن فلان الهاشميّ ؟
فقال: رجل من ولد عليّ بن ريطة من ولد المهديّ يقال له : فلان عظيم, إلّا أنّه شرّ النّاس وأظلمهم وأفسدهم لحوم المسلمين وأشدّهم تشوّقاً إلى مكائدهم , وليس في الدّنيا من ينهي خبره إلى المعتضد خوفاً من شرّه ولفرط تمكّنه من الدّولة والمال .
ولم يزل يحدّثني وأنا أسمع أحاديث له قبيحة إلى أن قال :
فحسبك أنّه كان يعشق منذ سنين فلانة المغنّيّة جارة فلانة المغنّيّة, وكانت كالدّينار المنقوش وكالقمر الطّالع في غاية حسن الغناء, فساوم مولاتها فيها , فلم تقاربه , فلمّا كان منذ أيّام بلغه أنّ سيّدتها تريد بيعها لمشتر بذل فيها ألوف الدّنانير, فوجّه إليها : لا أقلّ من أن تنفذيها إليّ لتودّعني , فأنفذتها إليه بعد أن أنفذ إليها جذورها لثلاثة أيّام, فلما انقضت الأيّام الثّلاثة غصبها عليها وغيّبها عنها , فما يعرف لها خبر, وادّعى أنّها هربت من داره . وقالت الجيران : أنّه قتلها , وقال قوم: لا بل هي عنده . وقد أقامت سيّدتها عليها المأتم وجاءت وصاحت على بابه وسوّدت وجهها , فلم ينفعها شيء.
فلمّا سمع المعتضد سجد لله شكراً لله تعالى على انكشاف الأمر له, وبعث في الحال من كبس على الهاشميّ وأحضر المغنّيّة, وأخرج اليد والرّجل إلى الهاشميّ , فلمّا رآهما امتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف , فأمر المعتضد بدفع ثمن الجاريّة إلى مولاتها من بيت المال , وصرفها , ثم حبس الهاشميّ , فيقال : أنّه قتله , ويقال : مات في الحبس .


· روي عن الرّشيد أنّه رأى يوماً في داره حزمة خيزران, فقال لوزيره الفضل بن الرّبيع : ما هذه ؟ فقال : عروق الرّماح يا أمير المؤمنين . ولم يرد أن يقول الخيزران لموافقته اسم أمّ الرّشيد .
وقال الفضل : إيّاكم ومخاطبة الملوك بما يقتضي الجواب, فإنّهم إن أجابوكم شقّ عليهم , وان لم يجيبوكم شقّ عليكم .
قال ثعلب: قلت للحسن بن سهل : وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله : ليس في السّرف خير, فقال : بل ليس في الخير سرف . فردّ اللّفظ واستوفى المعنى .


· ورأى الفتح بن خاقان في لحية المتوكّل شيئاً فلم يمسّه بيده, ولا قال له شيئاً , ولكنّه نادى :
يا غلام مرآة أمير المؤمنين .
فجيء بها حتّى أخذ المتوكّل ذلك الشّيء بيده .


· حدّثنا أبو عليّ بن مقلة قال : كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات أخدم بين يديه , فكنت كذلك معه إلى أن تقلّد الوزارة الأولى, فلمّا وقعت فتنة ابن المعتز أمر بقبض ما في دور المخالفين الّذين بايعوا ابن المعتزّ, وكانت أمتعتهم تقبض وتُحمل إليه فيراها وينفذها إلى خزائن المقتدر .
فجاؤوه يوماً بصندوقين , فقالوا له : هذان وجدناهما في دار ابن المعتزّ .
فقال: أفعلمتم ما فيهما ؟
قالوا: نعم , جرائد من بايعه من النّاس بأسمائهم وأنسابهم.
فقال: لا تفتح .
ثم قال: يا غلمان هاتوا ناراً, فجاء الفرّاشون بفحم, وأمرهم فأجّجوا النّار, وأقبل عليّ وعلى من كان حاضراً, فقال: والله لو رأيت من هذين الصّندوقين ورقة واحدة لظنّ كلّ من له فيها اسم أنّي قد عرفته , فتفسد نيّات العالم كلّهم عليّ وعلى الخليفة, وما هذا رأي, حرّقوهما .
قال: فطرحا بأقفالهما إلى النّار, فلمّا احترقا بحضرته أقبل عليّ فقال: يا أبا عليّ , قد أمّنت كل من جنى وبايع ابن المعتز, وأمرني الخليفة بأمانة, فاكتب للنّاس الأمان منّي, ولا يلتمس منك أحد أماناً - كائناً من كان - إلّا كتبته له وجئتني به لأوقّع فيه, فقد أفردتك لهذا العمل .
ثمّ قال: لمن حضر: أشيعوا ما قلته حتى يأنس المستترون بأبي عليّ ويكاتبوه في طلب الأمان, فشكرناه. ودعت الجماعة له وشاع الخبر وكتبت الأمانات, فكتب في ذلك مائة آلاف أو نحوها .


· وكان أبو عليّ بن مقلة يوماً يأكل, فلمّا رفعت المائدة وغسل يده رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى الّتي كان يأكلها, ففتح الدّواة واستمدّ منها نقطة على الصّفرة حتّى لم يبقى لها أثر, وقال: ذلك أثر شهوة , وهذا أثر صناعتي , ثمّ أنشد :
إنّما الزّعفران عطر العذارى=ومداد الدّواة عطر الرّجال
 
بارك الله فيك أختي الكريمة :16:



مجهود طيب وعمل رائع أمنياتي لك بالتوفيق

وبك غاليتي ... أسأل الله أن يجعل هذا الجهد وغيره في موازين حسنات من يكتب ويقرأ ...
وفقك الله ورزقني وإياك والجميع العافية وتمامها ودوامها والشكر عليها ...
 
الفصل الرّابع : من ذكاء الأمراء والولاة

الفصل الرّابع : من ذكاء الأمراء والولاة

الفصل الرابع من ذكاء الأمراء والولاة

· قال المؤلّف: بلغني أنّّ رجلاً من خراسان قدم إلى بغداد للحجّ , وكان معه عقد من الجواهر يساوي ألف دينار, فاجتهد في بيعه, فلم يوفَّق, فجاء إلى عطّار موصوف بالخير, فأودعه إيّاه, ثم حجَّ وعاد فأتاه بهديّة .
فقال له العطّار: من أنت وما هذا ؟
فقال: أنا صاحب العقد الذي أودعتك.
فما كلّمه حتى رفسه رفسة رماه بها عن دكّانه, وقال: تدّعي عليّ مثل هذه الدعوى؟
فاجتمع بالنّاس وقالوا للحاجّ : ويلك, هذا رجل خير, ما لحقت من تدّعي عليه إلّا هذا ؟
فتحيّر الحاجّ وتردّد إليه, فما زاده إلّا شتماً وضرباً , فقيل له : لو ذهبت إلى عضد الدَّولة, فله في هذه الأشياء فراسة .
فكتب قصّته وجعلها على قصبة ورفعها لعضد الدَّولة , فصاح به, فجاء, فسأله عن حاله , فأخبره بالقصّة , فقال :
اذهب إلى العطَّار غداً , واقعد على دكّانه, فان منعك فاقعد على دكّان تقابله , من الصّبح إلى المغرب, ولا تكلّمه, وافعل هذا ثلاثة أيّام, فإنّي أمرّ عليك في اليوم الرّابع وأقف وأسلّم عليك, فلا تقم لي ولا تزدني على ردّ السّلام وجواب ما أسألك عنه , فإذا انصرفت فأعد عليَّ ذكر العقد , ثمّ أعلمني ما يقول لك, فإن أعطاكه فجىء به إليّ.
فجاء إلى دكّان العطّار ليجلس فمنعه, فجلس بمقابلته ثلاثة أيّام, فلما كان اليوم الرّابع اجتاز عضد الدّولة في موكبه العظيم, فلمّا رأى الخراساني وقف وقال : السّلام عليك.
فقال الخراسانيّ ولم يتحرّك: وعليكم السّلام .
فقال: يا أخي تقدّم فلا تأتي إلينا ولا تعرض حوائجك علينا ؟
فقال كما اتفقّ ولم يشبعه الكلام , وعضد الدّولة يسأله ويستخفي وقد وقف ووقف العسكر كلّه , والعطّار قد أغمي عليه من الخوف .
فلمّا انصرف التفت العطّار إلى الحاجّ فقال : ويحك متى أودعتني هذا العقد ؟ وفي أيّ شيء كان ملفوفاً ؟ ذكّرني لعلّي أذكره .
فقال: من صفته كذا وكذا.
فقام وفتّش, ثم نقض جرّة عنده فوقع العقد , فقال: قد كنت نسيت, ولو لم تذكّرني الحال ما ذكرت .
فأخذ العقد وذهب. ثم قال: وأيّ فائدة لي في أن أعلم عضد الدّولة, ثم قال في نفسه: لعلّه يريد أن يشتريه .
فذهب إليه فأعلمه, فبعث به مع الحاجب إلى دكّان العطّار, فعلّق العقد في عنق العطّار وصلبه بباب الدّكّان ونودي عليه : هذا جزاء من استودع فجحد .

· وذكر محمّد بن عبد الملك الهمدانيّ في تاريخه أنّه بلّغ إلى عضد الدّولة خبر قوم من الأكراد يقطعون الطّريق , ويقيمون في جبال شاهقة, فلا يُقدر عليهم , فاستدعى أحد التّجّار ودفع إليه بغلاً عليه صندوقان فيهما حلوى قد شيبت بالسّمّ , وأكثر طيبها , وأعطاه دنانير, وأمره أن يسير مع القافلة, ويظهر أنّ هذه هديّة لإحدى نساء أمراء الأطراف.
ففعل التّاجر ذلك وسار أمام القافلة, فنزل القوم وأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به مع جماعتهم إلى الجبل, وبقي المسافرون عراة , فلمّا فتح الصّندوق وجد الحلوى يضوع طيبها, ويدهش منظرها ويعجب ريحها, وعلم أنّه لا يمكنه الاستبداد بها , فدعا أصحابه, فرأوا ما لم يروه أبداً قبل ذلك , فأمعنوا في الأكل عقيب مجاعة , فانقلبوا فهلكوا عن آخرهم, فبادر التّجّار إلى أخذ أموالهم وأمتعتهم وسلاحهم , واستردّوا المأخوذ عن آخره .
فلم أسمع بأعجب من هذه المكيدة, محت أثر العاتين وحصدت شوكة المفسدين .

· قدم بعض التّجّار من خراسان ليحجّ , فتأهّب للحجّ وبقي معه ألف دينار لا يحتاج إليها, فقال : إن حملتها خاطرت بها, وان أودعتها خفت جحد المودع .
فمضى إلى الصّحراء, فرأى شجرة خروع , فحفر تحتها ودفنها ولم يره أحد, ثم خرج إلى الحجّ وعاد , فحفر المكان فلم يجد شيئاً , فجعل يبكي ويلطم وجهه , فإذا سئل عن حاله قال : الأرض سرقت مالي .
فلمّا كثر ذلك منه قيل له : لو قصدت عضد الدَّولة فإنّ له فطنة.
فقال: أوَ يعلم الغيب ؟
فقيل له : لا بأس بقصده .
فأخبره بقصّته, فجمع الأطبّاء وقال لهم : هل داويتم في هذه السّنة أحداً بعروق الخروع ؟
فقال أحدهم : أنا داويت فلاناً وهو من خواصّك .
فقال: عليّ به .
فجاء فقال له : هل تداويت هذه السّنة بعروق الخروع ؟
قال: نعم .
قال: من جاءك به ؟
قال: فلان الفرّاش .
قال: عليّ به .
فلمّا جاء قال : من أين أخذت عروق الخروع؟
فقال : من المكان الفلانيّ .
فقال: اذهب بهذا معك فأره المكان الذي أخذت منه.
فذهب معه بصاحب المال إلى تلك الشّجرة , وقال : من هذه الشّجرة أخذت .
فقال الرّجل: ههنا والله تركت مالي , فرجع إلى عضد الدّولة فأخبره , فقال للفرّاش : هلمّ بالمال, فتلكّأ , فأوعده وهدّده فأحضر المال .

· حكى السّلاميّ الشّاعر قال: دخلت على عضد الدّولة, فمدحته فأجزل عطيّتي من الثّياب والدّنانير وبين يديه حسام خروانيّ فرآني ألحظه , فرمى به إليّ وقال: خذه .
فقلت: وكلّ خير عندنا من عنده .
فقال عضد الدّولة: ذاك أبوك!
فبقيت متحيّراً لا أدري ما أراد , فجئت أستاذي فشرحت له الحال, فقال :
ويحك! قد أخطأت عظيمة , لأنّ هذه الكلمة لأبي نوّاس يصف كلباً حيث يقول :
أنعت كلباً أهله في كدّه == قد سعدت جدودهم بجدّه
وكلّ خير عندنا من عنده
قال: فعدت متوشّحاً بكساء فوقفت بين يدي عضد الدّولة فقال : ما بك ؟
فقلت: حممت السّاعة .
فقال: هل تعرف سبب حمّاك؟
قلت: نظرت في ديوان أبي نوّاس .
فقال: لا تخف , لا بأس عليك من هذه الحمّى .
فشكرته وانصرفت .

· وروى أبو الحسن بن هلال بن المحسن الصّابيّ في تاريخه قال: حدّثني بعض التّجّار, قال: كنت في المعسكر, واتّفق أن ركب السّلطان جلال الدولة يوماً إلى الصّيد على عادته, فلقيه سواديّ يبكي , فقال: ما لك ؟
فقال: لقيني ثلاثة غلمان أخذوا حمل بِطيّخ معي وهو بضاعتي.
فقال: امض إلى المعسكر فهناك قبّة حمراء, فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النّهار, فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك .
فلمّا عاد السّلطان , قال لبعض شرّائه : قد اشتهيت بطيّخاً ففتّش العسكر وخيمهم على شيء منه .
ففعل وأحضر البطّيخ, فقال: عند من رأيتموه؟
فقيل: في خيمة فلان الحاجب.
فقال: أحضروه. فقال له: من أين هذا البطّيخ؟
فقال: الغلمان جاؤوا به .
فقال: أريدهم الساعة .
فمضى وقد أحسّ بالشرّ, فهرّب الغلمان خوفاً من أن يقتلوا, وعاد فقال : قد هربوا لمّا علموا بطلب السّلطان لهم .
فقال: أحضروا السّواديّ .
قال: نعم .
قال: فخذه وامض مصاحبا السّلامة.

· نزل أمير بقرية, فاحتاج إلى المزيّن يمسح شعره, فجاء الأمير وحده إليه, وقال :
أنا حاجب هذا الأمير الّذي قد نزل بكم, فامسح شعري, فإن كنت حاذقاً جاء الأمير فمسحتَ شعره .
وإنّما فعل ذلك لئلّا يعلم أنّه الأمير فينزعج ويجرحه .

· روي أنَّ معن بن زائدة دخل على أبي جعفر أمير المؤمنين, فقارب في خطوه , فقال له أبو جعفر: كبرت سنّك يا معن .
فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين.
قال: وإنّك لجلد.
قال: على أعدائك.
قال: وإنّ فيك لبقيّة.
قال: هي لك.

· قال المأمون لعبد الله بن طاهر: أيّهما أطيب مجلسي أم منزلك ؟
قال: ما عدلت به يا أمير المؤمنين.
قال: ليس لي إلى هذا, إنّما ذهبت إلى الموافقة في العيش واللّذة.
قال: منزلي يا أمير المؤمنين.
قال: ولم ذلك ؟
قال: لأنّي فيه مالك وأنا ههنا مملوك.


· ورأى ابن طولون يوماً حمّالاً يحمل صندوقاً وهو يضطرب تحته, فقال : لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنقه وأنا أرى عنقه بارزة , وما هذا إلّا من خوف ما يحمل .
فأمر بحطّ الصّندوق, فوجد فيه جارية قد قتلت وقطّعت, فقال: اصدقني عن حالها.
فقال: أربعة نفر في الدّار الفلانيّة أعطوني هذه الدّنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة .
فضرب الحمّال مئتي ضربة بعصا , وأمر بقتل الأربعة.

· وكان ابن طولون يبكّر ويخرج , فسمع قراءة الأئمّة في المحاريب, فدعا بعض أصحابه يوماً وقال : امض إلى المسجد الفلانيّ , وأعط إمامه هذه الدّنانير.
قال: فمضيت فجلست مع الإمام وباسطته حتّى شكا أنّ زوجته ضربها الطلق, ولم يكن معه ما يصلح به شأنها, وأنّه صلّى فغلط مراراً في القراءة , فعدت إلى ابن طولون فأخبرته .
فقال: لقد صدق, لقد وقفت أمس , فرأيته يغلط كثيراً فعلمت أنّ شيئاً شغل قلبه .

· نظر بعض العمّال في ديوانه إلى رجل يصغي إلى سرّه, فأمر بضربه وحبسه .
فقال كاتب الحبس: كيف أكتب قصّته ؟
قال: اكتب استرق السّمع فأتبعه شهاب ثاقب.

· قال الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقيّ , قال: كان جدّي يتقلّد شرطة بغداد للمكتفي بالله, فعمل اللّصوص في أيّامه عملة عظيمة, فاجتمع التّجّار وتظلّموا إلى المكتفي بالله , فألزمه بإحضار اللّصوص أو غرامة المال , فتحيّر حتّى كان يركب وحده ويطوف باللّيل والنّهار, إلى أن اجتاز يوماً في زقاق خال في بعض أطراف بغداد , فدخله فرأى على بعض أبواب دور الزّقاق شوكة سمكة كبيرة , وعظم الصّلب, وتقدير ذلك أن تكون السمكة فيها مئة وعشرون رطلاً , فقال لواحد من أصحاب المسالخ :
ويحك, ما ترى عظام هذه السّمكة كم تقدّر ثمنها؟
قال: دينار.
فقال: أهل هذا الزّقاق لا تحمل أحوالهم شراء مثل هذه السّمكة لأنّه زقاق إلى جانب الصّحراء لا ينزله من معه شيء يخافه, أو له مال ينفق منه مثل هذه النّفقة , وما هي إلّا بليّة يجب أن يكشف عنها.
فاستبعد الرّجل هذا, وقال: هذا فكر بعيد .
فقال: اطلبوا امرأة من الدّرب أكلّمها.
فدقّ باباً غير الباب الّذي عليه الشّوك واستسقى ماء , فخرجت عجوز ضعيفة, فما زال يطلب شربة بعد شربة وهي تسقيهم, والواثقيّ من خلال ذلك يسأل عن الدّرب وأهله, وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك إلى أن قال لها : فهذه الدّار من يسكنها ؟ وأومأ إلى الّتي عليها عظام السّمك.
فقالت: والله ما ندري على الحقيقة من سكّانها إلا أنّ فيها خمسة شباب أعفار, كأنّهم تجّار قد نزلوا منذ شهر لا نراهم يخرجون نهاراً إلّا كلّ مدّة طويلة, وإنّا نرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعاً , وهم طول النّهار يجتمعون فيأكلون ويشربون ويلعبون بالشّطرنج والنّرد, ولهم صبيٌّ يخدمهم , وإذا كان اللّيل انصرفوا إلى دار لهم في الكرخ , ويدعون الصبيّ في الدّار يحفظها , فإذا كان سحراً بليل جاؤوا ونحن نيام لا نعقل بهم وقت مجيئهم .
قال: فقطع الوالي استسقاء الماء ودخلت العجوز, وقال للرّجل: هذه صفة لصوص أم لا ؟
فقال: توكلّوا بحوالي الدّار ودعوني على بابها .
وأنفذ في الحال واستدعى عشرة من الرّجال, وأدخلهم إلى سطوح الجيران, ودقّ هو الباب, فجاء الصبيّ ففتح فدخل والرّجال معه, فما فاتهم من القوم أحد, وحملهم إلى مجلس الشّرطة وأقرّهم , فكانوا هم أصحاب الخيانة بعينها , ودلّوا على باقي أصحابهم فتبعهم الواثقيّ , وكان يفتخر بهذه القصّة.

· وبلغنا عن بعض ولاة مصر أنّه كان يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبقه الخادم , فبعث الأمير إلى وزيره ليعلم الحال, فكره الوزير أن يكتب إليه أنّك قد سُبقت, ولم يدر كيف يكني عن ذلك, ثمّّ كاتبه فقال: إن رأيت أن تكتب شعراً:
يا أيّها الملك الّذي جدّه == لكلّ جدّ قاهر غالب
طائرك السّابق لكنّه == أتى وفي خدمته حاجب
فاستحسن ذلك وأمر له بجائزة .

· وجيء الى ابن النّسويّ برجلين قد اتّهما بالسّرقة فأقامهما بين يديه, ثم قال: شربة ماء, فجاء بها, فأخذ يشرب ثم ألقاها من يده عمداً فوقعت فانكسرت, فانزعج أحد الرّجلين لانكسارها وثبت الآخر, فقال للمنزعج : اذهب أنت, وقال للآخر: ردّ ما أخذت .
فقيل له: من أين علمت ؟
فقال: اللّص قويّ القلب لا ينزعج, وهذا المنزعج بريء, لأنّه لو تحرّكت في البيت فأرة لأزعجته ومنعته من أن يسرق.

· وذكر أنّ رجلاً من جيران ابن النّسويّ كان يصلّي بالنّاس دخل على ابن النّسويّ في شفاعة, وبين يديه صحن فيه قطائف فقال له: كل , فامتنع, فقال: كأنّني بك وأنت تقول: من أين لابن النّسويّ شيء حلال؟ ولكن كل , فما أكلت قط أحلّ من هذا.
فقال بحكم المداعبة : من أين لك شيء لا يكون فيه شبهة؟
فقال: إن أخبرتك تأكل ؟
قال: نعم.
فقال: كنت منذ ليال في مثل هذا الوقت, فإذا الباب يدقّ, فقالت الجارية: من؟ فقالت: امرأة تستأذن, فأذنت لها, فدخلت, فأكبّت على قدمي تقبّلها, فقلت: ما حاجتك؟ قالت: لي زوج ولي منه ابنتان لواحدة اثنا عشرة سنة والأخرى أربع عشرة سنة, وقد تزوّج عليّ وما يقربني والأولاد يطلبونه, فيضيق صدري لأجلهم, وأريد أن يجعل ليلة لي وليلة لتلك, فقلت لها: ما صناعته؟ فقالت: خبّاز, قلت: وأين دكّانه؟ قالت: بالكرخ. ويعرف بفلان بن فلان. فقلت: وأنت بنت من؟ فقالت: بنت فلانة, قلت: فما اسم بناتك؟ قالت: فلانة وفلانة... قلت: أنا أردّه إليك إن شاء الله تعالى, فقالت: هذه شقّة قد غزلتها أنا وابنتاي, وأنت في حلّ منها. قلت: خذي شقّتك وانصرفي.
فمضت, فبعثت إليه اثنين وقلت: أحضراه ولا تزعجاه. فأحضراه وقد طار عقله, فقلت: لا بأس عليك إنّما استدعيتك لأعطيك كرا طعام وعمالته تقيمه خبزاً للرّحّالة .
فسكن روعه وقال: ما أريد لي عمالة .
قلت: بلى. صديق مخسر عدوٌّ مبين . أنت منّي وإليّ . كيف هي زوجتك فلانة؟ تلك بنت عمّي, وكيف بناتها فلانة وفلانة؟
فقال: بكلّ خير.
قلت: الله الله, لا أحتاج أن أوصيك لا تضيّق صدرها.
فقبّل يدي, فقلت: امض إلى دكّانك وإن كان لك حاجة فالموضوع بحكمك, فانصرف.
فلمّا كان في هذه اللّيلة جاءت المرأة فدخلت وهذا الصّحن معها, وأقسمت عليّ ألا أردّها, وقالت: قد جمعت شملي وشمل أولادي, وهذا والله من ثمن غزلي, فبالله لا ترده, فقبلته. هل هو حلال ؟
فقال: والله ما في الدّنيا أحلّ من هذا.
فقال: كل, فأكل.

· كان بعض العمّال واقفاً على رأس أمير, فأخذه البول. فخرج, فلما جاء قال: أين كنت؟ قال: أصوّب الرأي. يعني أنّه لا رأي لحاقن .

· حدّثني بعض الشّيوخ قال: سرق من رجل خمسمائة دينار, فحُمل المتهمّون إلى الوالي .
فقال الوالي : أنا ما أضرب أحداً منكم. بل عندي خيط ممدود في بيت مظلم, فادخلوا فليمرّ كلّ منكم يده عليه من أوّل الخيط الى آخره ويلفّ يده في كمّه ويخرج , فإنّ الخيط يلفّ على يد الّذي سرق .
وكان قد سوّد الخيط بسخام, فدخلوا, فكلهم جرّ يده على الخيط في الظّلمة إلّا واحداً منهم , فلمّا خرجوا نظر إلى أيديهم مسودّة إلّا واحداً فألزمه بالمال , فأقرّ به .
 
الفصل الخامس : من ذكاء القضاة

الفصل الخامس : من ذكاء القضاة

الفصل الخامس من ذكاء القضاة


·حدثنا الشعبيّ قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقالت: أشكو إليك خير أهل الدّنيا إلّا رجل سبقه بعمل أو عمل مثل عمله : يقوم اللّّيل حتى يصبح , ويصوم النّهار حتّى يمسي .
ثمّ أخذها الحياء فقالت : أقلني يا أمير المؤمنين.
فقال: جزاك الله خيراً فقد أحسنت الثّناء , قد أقلتك .
فلما ولّت قال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين: قد أبلغت إليك في الشّكوى .
فقال: ما اشتكت؟
قال: زوجها.
قال: عليّ بالمرأة وزوجها.
فجيء بهما , فقال لكعب: اقض بينهما.
قال: أأقضي وأنت شاهد ؟
قال: إنّك قد فطنت لما لم أفطن إليه.
قال: فإنّ الله يقول :" انكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع", صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً , وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة .
فقال عمر : لهذا أعجب إليّ من الأوّل, فرحّله بدابّة وبعثه قاضياً لأهل البصرة .

·أخبرنا مجالد بن سعيد قال : قلت للشّعبي : يقال في المثل : إنّ (شريحاً) أدهى من الثّعلب وأحيل, فما هذا؟
فقال لي في ذلك : إنّ شريحاً خرج أيّام الطّاعون إلى النّجف, وكان إذا قام يصلّي يجيء ثعلب فيقف تجاهه , فيحاكيه ويخيّل بين يديه, فيشغله عن صلاته, فلمّا طال ذلك عليه نزع قميصه, فجعله على قصبة, وأخرج كمّيه وجعل قلنسوته وعمامته عليه, فأقبل الثّعلب, فوقف على عادته, فأتى شريحاً من خلفه, فأخذه بغتة, فلذلك يقال : هو أدهى من الثّعلب وأحيل .

·حدّث الشّعبي قال : شهدت شريحاً وقد جاءته امرأة تخاصم رجلاً, فأرسلت عينيها فبكت .
فقلت: يا أبا أميّة, ما أظنّ هذه البائسة إلّا مظلومة.
فقال: يا شعبيّ , إنّ اخوة يوسف " وجاؤوا أباهم عشاء يبكون".

·وقيل إنّ شريحاً خرج من عند زياد وهو مريض, فأرسل إليه مسروق بن الأجدع رسولاً يسأله : كيف وجدت الأمير ؟
قال: تركته يأمر وينهي .
فقيل له: إنّه يعرّض .
فأعاد عليه السّؤال فقال : يأمر بالوصيّة وينهى عن النياحة .

·وأتى عديّ بن أرطأة شريحاً وهو في مجلس القضاء, فقال لشريح: أين أنت ؟
قال: بينك وبين الحائط .
قال: اسمع منّي .
قال: لهذا جلست مجلسي .
قال: إنّي رجل من أهل الشّام .
قال: الحبيب القريب .
قال: وتزوّجت امرأة من قومي .
قال: بارك الله لك, بالرّفاه والبنين .
قال: وشرطت لأهلها أن لا أخرجها .
قال: الشّرط أملك.
قال: وأريد الخروج .
قال: في حفظ الله.
قال: اقض بيننا.
قال : قد فعلت .

·دخل على إياس بن معاوية ثلاثة نسوة, فقال: أمّا واحدة فمرضع, والأخرى بكر, والثّالثة ثيّب.
فقيل: بم علمت ؟
قال: أما المرضع فإنّها لمّا قعدت أمسكت ثديها بيدها, وأمّا البكر فلمّا دخلت لم تلتفت إلى أحد, وأما الثيّب فلمّا دخلت رمقت بعينها يميناً وشمالاً .

·استودع رجل من أمناء إياس مالاً , وكان أميناً لا بأس به, وخرج المستودع إلى مكّة, فلمّا رجع طلبه فجحده , فأتى إياساً فأخبره.
فقال له إياس: أعَلِمَ أنّك أتيتني ؟
قال: لا.
قال: فنازعته عند أحد ؟
قال: لا. لم يعلم أحد بهذا .
قال: فانصرف واكتم أمرك, ثمّ عد إليّ بعد يومين.
فمضى الرّجل, فدعا إياس أمينه على ذلك, فقال : قد حضر مال كثير أريد أن أسلّمه إليك, أفحصين منزلك ؟
قال : نعم .
قال : فأعدّ موضعاً للمال وقوماً يحملونه .
وعاد الرّجل إلى إياس, فقال له : انطلق إلى صاحبك, فاطلب المال, فان أعطاك فذاك , وان جحدك فقل له : إنّي أخبر القاضي .
فأتى الرّجل صاحبه فقال : مالي, وإلّا أتيت القاضي وشكوت إليه , وأخبرته ما جرى, فدفع إليه ماله, فرجع الرّجل إلى إياس فقال: قد أعطاني المال .
وجاء الأمين إلى إياس فزبره وانتهره, وقال: لا تقربني يا خائن .

·وذكر الجاحظ أنّ إياس بن معاوية نظر إلى صدع في أرض فقال : تحت هذا دابّة.
فنظروا فإذا هي حيّة , فقيل له : من أين علمت؟
قال: رأيت ما بين الآجرّتين نديّاً من بين جميع تلك الرّحبة, فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفّس .

·قال الجاحظ : وحجّ إياس فسمع نباح كلب, فقال: هذا كلب مشدود, ثم سمع نباحه, فقال: قد أرسل.
فانتهوا إلى القوم, فسألوهم فكان كما قال, فقيل له: من أين علمت؟
قال: كان نباحه وهو ممسك يسمع من مكان واحد, ثم سمعته يقرب مرّة ويبعد أخرى.

·ومرّ إياس ليلة بماء فقال : أسمع صوت كلب غريب.
فقيل له : كيف عرفته ؟
قال: بخضوع صوته وشدّة نباح الآخرين.
فسألوا, فإذا كلب غريب والكلاب تنبحه.

·تقلّد القضاء في واسط رجل ثقة كثير الحديث, فجاء رجل فاستودع بعض الشّهود كيساً مختوماً ذكر أنّ فيه ألف دينار, فلمّا حصّل الكيس عند الشّاهد وطالت غيبة الرّجل قدّر أنّه قد هلك, فهمّ بإنفاق المال , ثم دبّر وفتق الكيس من أسفله, وأخذ الدّنانير, وجعل مكانها دراهم, وأعاد الخياطة كما كانت.
وقدّر أنّ الرّجل وافى وطالب الشّاهد بوديعته, فأعطاه الكيس بختمه, فلمّا وصل في منزله فضّ ختمه فصادف في الكيس دراهم, فرجع إلى الشّاهد, فقال له: عافاك الله, اردد عليّ مالي فإنّي استودعتك دنانير والّذي وجدت دراهم مكانها .
فأنكره ذلك, فاستدعى عليه القاضي المقدّم ذكره, فأمر بإحضار الشّاهد مع خصمه, فلمّا حضرا سأل الحاكم: منذ كم أودعته هذا الكيس ؟
قال: منذ خمسة عشر سنة.
فأخذ القاضي الدّراهم وقرأ سككها, فإذا هي دراهم منها ما ضرب منذ سنتين وثلاث ونحوها , فأمره أن يدفع الدّنانير إليه, فدفعها إليه وأسقطه وقال له: يا خائن.
ونادى مناديه : ألا إنّ فلان بن فلان القاضي قد أسقط فلان بن فلان الشّاهد, فاعلموا ذلك ولا يغترنّ به أحد بعد اليوم.
فباع الشّاهد أملاكه في واسط وخرج عنها هارباً , فلم يعلم له خبر ولا أحسّ منه أثر .
·استودع رجلٌ رجلاً مالاً, ثمّ طلبه فجحده, فخاصمه إلى إياس بن معاوية, فقال الطّالب: إنّي دفعت المال إليه.
قال: ومن حضر؟
قال: دفعته في مكان كذا وكذا, ولم يحضرنا أحد.
قال: فأيّ شيء في ذلك الموضع؟
قال: شجرة.
قال: فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر الشّجرة, فلعلّ الله تعالى يوضح لك هناك ما يتبيّن به حقّك , لعلّك دفنت مالك عند الشّجرة ونسيت, فتتذكّر إذا رأيت الشّجرة.
فلمّا مضى الرّجل, قال إياس للمطلوب: اجلس حتّى يرجع خصمك, فجلس وإياس يقضي وينظر إليه ساعة, ثمّ قال له : يا هذا, أترى صاحبك بلغ موضع الشّجرة الّتي ذكر؟
قال: لا.
قال: يا عدوّ الله .. إنّك لخائن.
قال: أقلني أقالك الله .
فأمر من يحتفظ به حتّى جاء الرّجل, فقال له إياس: قد أقرّ لك بحقّك فخذه.

·اختصم إلى قاضي القضاة الشاميّ يوماً رجلان وهو بجامع المنصور, فقال أحدهما : إنّي أسلمت إلى هذا عشرة دنانير .
فقال للآخر: ما تقول؟
قال: ما أسلم إليّ شيئاً.
فقال للطّالب: هل لك بيّنة؟
قال: لا.
قال: ولا سلّمتها إليه بعين أحد؟
قال: لا, لم يكن هناك إلّا الله عز وجل.
قال: فأين سلّمتها إليه ؟
قال: بمسجد بالكرخ .
فقال للمطلوب: أتحلف؟
قال: نعم.
قال للطّالب: قم إلى ذلك المسجد الّذي سلّمتها إليه وائتني بورقة من مصحف لأحلّفه بها .
فمضى الرّجل واعتقل القاضي الغريم, فلمّا مضت ساعة التفت القاضي إليه فقال: أتظنّ أنّه بلغ ذلك المسجد؟
فقال: لا ما بلغ إليه.
فكان هذا كالإقرار, فأمره بالذّهب فأقرّ به.

·ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة وسنّه عشرون أو نحوها, فقال له أحدهم : كم سنّ القاضي؟
فعلم أنّه قد استصغره فقال له : أنا أكبر من عتّاب بن أسيد الّذي وجّه به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قاضياً على أهل مكّة يوم الفتح, وأنا أكبر من معاذ بن جبل الّذي وجّه به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قاضياً على أهل اليمن, وأنا أكبر من كعب بن سور الّذي وجّه به عمر بن الخطّاب قاضياً على أهل البصرة.

·كان المطلّب بن محمّد الحنظيّ على قضاء مكّة, وكان عنده امرأة قد مات عندها أربعة أزواج .
فمرض مرض الموت, فجلست عند رأسه تبكي, وقالت: إلى من توصي بي ؟
قال: إلى السّادس الشّقيّ .

·وبلغنا أنّ رجلاً ـ موسوساً ـ جاء إلى أبي حازم فقال له : إنّ الشّيطان يأتيني فيقول : إنّك قد طلّقت زوجتك, فيشكّكني .
فقال له : أوليس قد طلّقتها ؟
قال: لا .
قال: ألم تأتني أمس فطلّقتها عندي؟
فقال: والله ما جئتك إلّا اليوم ولا طلّقتها بوجه من الوجوه .
قال: فاحلف للشّيطان إذا جاءك كما حلفت لي وأنت في عافية.
 
الفصل السّادس : من ذكاء العلماء والفقهاء

الفصل السّادس : من ذكاء العلماء والفقهاء

الفصل السّادس من ذكاء العلماء والفقهاء

·قال الشّعبيّ : دخلت على عبد الملك بن مروان فقال : كم عطاءك ؟
فقلت: ألفي درهم , فجعل يسارّ أهل الشّام ويقول: لَحَن العراقيّ!
ثم قال: كم عطاؤك؟ _ لأردّ قولي , فيغلّظني ـ فقلت: ألفا درهم.
فقال: ألم تقل: ألفي درهم ؟
فقلت: لحنتَ يا أمير المؤمنين فلحنت, لأنّي كرهت أن تكون راجلاً وأكون فارساً .
فقال: صدقت. واستحيا .

·أخبرنا جرير قال : جئنا الأعمش يوماً , فوجدناه قاعداً في ناحية, فجلسنا في ناحية أخرى, وفي الموضع خليج من ماء المطر, فجاء رجل عليه سواد, فلمّا بصر بالأعمش وعليه فروة حقيرة قال : قم عبّرني هذا الخليج.
وجذب بيده, فأقامه وركّبه, وقال: {سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين}.
فمضى به الأعمش حتى توسّط به الخليج ثمّ رمى به وقال:
{ وقل ربّ أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين}.
ثمّ خرج وترك المسوّد يتخبّط في الماء .

·ومن المنقول عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أخبرنا ابن المبارك قال :
رأيت أبا حنيفة في طريق مكّة وشوي لهم فيصل ثمين, فاشتهوا أن يأكلوه بخلٍّ فلم يجدوا شيئاً يصبّون فيه الخلّ, فتحيّروا, فرأيت أبا حنيفة وقد حفر في الرّمل حفرة وبسط عليها السّفرة, وسكب الخلّ على ذلك الموضع, فقالوا له: تحسن كلّ شيء. فقال: عليكم بالشّكر فانّ هذا شيء ألهمته لكم فضلاً من الله عليكم .

·حدّثنا محمّد بن الحسن قال: دخل اللّصوص على رجل, فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطّلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً.
فأصبح الرّجل وهو يرى اللّصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلّم من أجل يمينه, فجاء يشاور أبا حنيفة, فقال له أبو حنيفة :
أحضرني أمام حيّك والمؤذّن والمستورين منهم.
فأحضره إيّاهم فقال لهم أبو حنيفة: هل تحبّون أن يردّ الله على هذا متاعه ؟
قالوا: نعم .
قال: فاجمعوا كلّ متّهم فأدخلوهم في دار أو في مسجد , ثمّ أخرجوهم واحداً واحداً, فقولوا "هذا لصّك ؟", فإن كان ليس بلصّه فإنّه يردّ قائلاً : "لا", وإن كان لصّه فيسكت, فإذا سكت فاقبضوا عليه .
ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة, فردّ الله عليه جميع ما سرق منه .

·حدثنا حسين الأشقر قال: كان بالكوفة رجل من الطّالبين من خيارهم, فمرّ بأبي حنيفة, فقال له: أين تريد؟
قال: أريد ابن أبي ليلى.
قال: فإذا رجعت أحبّ أن أراك, وكانوا يتبرّكون بدعائه.
فمضى إلى ابن أبي ليلى ثلاثة أيّام, وإذ رجع مرّ بأبي حنيفة, فدعاه وسلّم عليه, فقال له أبو حنيفة : ما جاء بك ثلاثة أيّام إلى ابن أبي ليلى ؟
فقال: شيء كتمته النّاس, فأمّلت أن يكون عنده فرج.
فقال أبو حنيفة: قل ما هو؟
قال: إنّي رجل موسر وليس لي من الدّنيا الا ابن, كلّما زوّجته امرأة طلقها, وان اشتريت له جارية أعتقها.
فقال أبو حنيفة: اقعد عندي حتّى أخرجك من ذلك. فقرّب إليه ما حضر عنده فتغذّى عنده, ثم قال له :
ادخل أنت وابنك إلى السوق, فأيّ جارية أعجبته ونالت يدك ثمنها, فاشترها لنفسك لا تشترها له, ثمّ زوّجها منه, فإن طلّقها رجعت إليك, وإن أعتقها لم يجز عتقه , وإن ولدت ثبت نسبه إليك .
قال: وهذا جائز؟
قال: نعم, وهو كما قلت.
فمرّ الرّجل إلى ابن أبي ليلى فأخبره فقال : هو كما قال لك.

·وعن أبي يوسف قال : دعا المنصور أبا حنيفة, فقال الرّبيع حاجب المنصور, وكان يعادي أبا حنيفة:
يا أمير المؤمنين, هذا أبو حنيفة يخالف جدّك. كان عبد الله بن عبّاس يقول:" إذا حلف على اليمين, ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء", وقال أبو حنيفة:" لا يجوز الاستثناء إلّا متّصلاً باليمين".
فقال أبو حنيفة:" يا أمير المؤمنين, إنّ الرّبيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة !
قال: وكيف ؟
قال: يحلفون لك ثمّ يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم .
فضحك المنصور وقال : يا ربيع لا تعرض لأبي حنيفة.

·حدثنا يحيى بن جعفر قال: سمعت أبا حنيفة يقول:
احتجت إلى ماء بالبادية, فجاءني أعرابيّ ومعه قربة من ماء, فأبى أن يبيعنيها إلّا بخمسة دراهم, فدفعت إليه خمسة دراهم وقبضت القربة, ثمّ قلت: يا أعرابيّ , ما رأيك في السّويق ؟
فقال: هات.
فأعطيته سويقاً ملتوتاً بالزّيت, فجعل يأكل حتّى امتلأ ثم عطش, فقال: شربة ؟
قلت: بخمسة دراهم .
فلم أنقصه من خمسة دراهم على شربة ماء, فاسترددت الخمسة وبقي معي الماء.

·وبلغنا أنّ رجلاً جاء إلى أبي حنيفة فشكا له أنّه دفن مالاً في موضع ولا يذكر الموضع, فقال أبو حنيفة :
ليس هذا فقهاً فأحتال لك فيه , ولكن اذهب فصلّ اللّيلة إلى الغداة, فإنّك ستذكره إن شاء الله تعالى .
ففعل الرّجل ذلك, فلم يمض إلّا أقل من ربع اللّيل حتّى ذكر الموضع, فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره فقال :
قد علمت أنّ الشّيطان لا يدعك تصلّي حتّى تذكر, فهلّا أتممت ليلتك شكراً لله عز وجلّ .

·كان عند الرّشيد جارية من جواريه وبحضرته عقد جوهر, فأخذ يقلّبه ففقده فاتّهمها , فسألها عن ذلك, فأنكرت. فحلف بالطّلاق والعتاق والحجّ لتصدقنّه , فأقامت على الإنكار وهو متّهم لها.
وخاف أن يكون قد حنث في يمينه, فاستدعى أبا يوسف وقصّ عليه القصّة, فقال أبو يوسف:
تخليني مع الجارية وخادم معنا حتّى أخرجك من يمينك.
ففعل ذلك. فقال لها أبو يوسف :
إذا سألك أمير المؤمنين عن العقد فأنكريه , فإذا أعاد عليك السّؤال فقولي : "قد أخذته", فإذا أعاد عليك الثّالثة فأنكري, وخرج, وقال للخادم: لا تقل لأمير المؤمنين ما جرى.
ثم قال للرّشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد, فإنّها تصدقك .
فدخل الرّشيد فسألها, فأنكرت أوّل مرّة, وسألها الثانية, فقالت:" نعم قد أخذته", فقال :" أيّ شيء تقولين؟", فقالت: "والله ما أخذته ولكن هكذا ما قال لي أبو يوسف".
فخرج اليه فقال: ما هذا؟
قال: يا أمير المؤمنين, قد خرجت عن يمينك لأنها أخبرتك أنّها قد أخذته, وأخبرتك أنّها لم تأخذه, فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين, وقد خرجت أنت من يمينك.
فسرّ ووصل أبا يوسف, فلمّا كان بعد مدّة وجد العقد.

·وبلغنا أنّ الرّشيد قال لأبي يوسف :
ما تقول في الفالوذج واللوزينج, أيّهما أطيب؟
فقال: يا أمير المؤمنين, لا اقضي بين غائبين.
فأمر بإحضارهما, فجعل أبو يوسف يأكل من هذه لقمة ومن ذاك أخرى حتّى نصّف جاميهما, ثم قال: يا أمير المؤمنين, ما رأيت خصمين أجدل منهما , كلّمّا أردت أن أسجّل لأحدهما أدلى الآخر بحجّة.

·وروي أنّ المتوكّل قال: رأيت الشافعي وقد جاءه رجل يسأله عن مسألة, فقال: من أهل صنعاء أنت؟ قال: نعم. قال: فلعلّك حدّاد؟ قال: نعم.
حدّثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت الشّافعي وقد سأله رجل فقال: حلفت بالطلاق إن أكلت هذه الثّمرة أو رميت بها. قال: تأكل نصفها وترمي نصفها.

·وروي أن المتوكّل قال:
أشتهي أن أنادم أبا العيناء , لولا أنّه ضرير.
فقال أبو العيناء :
إن عفاني أمير المؤمنين من رؤية الهلال ونقش الخواتم, فإنّي أصلح .
وسئل أبو العيناء عن حمّاد بن زيد بن درهم, وعن حمّاد بن سلمة بن دينار فقال: بينهما في القدر ما بين أبوابهما في الصّرف.

·جاء رجل موسوس إلى ابن عقيل فقال: إنّي كلّما أنغمس في النّهر غمستين وثلاثا لا أتيقّن أنّه قد غمسني الماء, ولا أنّي قد تطهّرت فكيف أصنع ؟
فقال له: لا تصلّي .
فقيل له: كيف قلت هذا؟
قال: لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: رفع القلم عن ثلاث: عن الصّبيّ حتى يبلغ, وعن النّائم حتى ينتبه, وعن المجنون حتى يفيق", ومن ينغمس في النّهر مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً ويظنّ أنّه ما اغتسل فهو مجنون .

·ومن المنقول عن بعض الفقهاء, أنّ رجلاً قال له : إذا نزعت ثيابي ودخلت النّهر أغتسل, أتوجّه إلى القبلة أم إلى غيرها ؟
قال: توجّه إلى ثيابك الّتي نزعتها .
 

عودة
أعلى