قبل أربع سنوات صدرت للكاتب محمد عيد العريمي رواية عنوانها "مذاق الصبر" تحدث فيها عن تجربته مع الإعاقة بعد إصابته بمرض الشلل الرباعي اثر حادث سير خطير , وخلفت الرواية أثراً طيبا في الوسط الثقافي , ستصدر طبعتها الثانية بعد نفاد طبعتها الأولى , وقيل حينها إنها إعلان لولادة كاتب عماني يمتلك قدرة فذة على الغوص في أعماق الذات الإنسانية بعد تلك الرواية لم نقرا له سوى قصص قصيرة ينشرها في أوقات متباعدة , لكنه فاجأنا برواية جديدة صدرت قبل أيام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت حملت عنوان "حز القيد" .
ومنذ الصفحات الأولى من " حز القيد " يشدك العريمي إليه ولا يدعك تضع الكتاب جانبا إلا بعد الانتهاء منه وهذا دليل على براعته في صنع حبكة روائية بشكل متماسك وفق بناء مدروس للشخصيات وتحريكها في فضاء متخيل
" تثير رواية " حز القيد " جملة من الأسئلة وتتعمد رغم وضوحها الظاهري أن تظل قولا مضمرا يلمح دون أن يصرح ويشي دون أن يوضح ويوحي دون أن يشير تاركا للقارئ حرية اكتشاف الأمكنة والأزمنة والأسماء والإشارات وتأويل الأحداث والتفاصيل" كما يقول الكاتب ناصر صالح الغيلاني في مقدمة الرواية.
بالضرورة أن يكون الحديث مع الروائي محمد عيد العريمي متشعبا , فهذا الرجل يذكرنا ب( سانتياغو ) بطل رواية همنغواي ( الشيخ والبحر ) إذ يمثل على المستوى الإنساني خلاصة تحد للمرض والإعاقة ومن التقاه يرى أمامه إنساناً مرحا محبا للحياة ,لا تفارق الابتسامة وجهه, طيبا ويتفنن في اختيار العبارات المهذبة التي يوجهها لضيفه , وعلى الصعيد الإبداعي فهو قلم رشيق وقدرة عالية على النفاذ إلى جوهر الأشياء منقبا في الغاطس من عوالمنا الذاتية , وعلى المستوى المهني فهو إنسان فاعل لم يقهره الكرسي المتحرك الذي وجد نفسه ملقى بين أحضانه الحديدية و لم يتوقف عن العمل كمهندس في شركة تنمية نفط عمان ومترجم , أي انه يعمل متجاوزا جسده الذي أرهقه الشلل الرباعي , لكن روحه ظلت متقدة تمد جسده المتعب بوهج الحياة , وعندما طلبت منه إن يوقع لي على نسختي من روايته ( حز القيد ) التي صدرت مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت حرك يده بصعوبة وربط بمساعدة يده الثانية جلده على يده اليسرى وفي الجلدة وضع قلما فصار القلم على ظهر يده على شكل صليب , وعندما رأى دهشتي ابتسم ابتسامة عريضة وقال " قصة مو ؟ " وأطلق ضحكة ساخرة
في هذا الحوار حاولنا الدخول إلى عالم العريمي كاتبا وإنسان وحالة روائية تتحرك على الأرض.
دعنا نبدأ الحوار بالسؤال التقليدي: من هو محمد عيد العريمي؟
ومنذ الصفحات الأولى من " حز القيد " يشدك العريمي إليه ولا يدعك تضع الكتاب جانبا إلا بعد الانتهاء منه وهذا دليل على براعته في صنع حبكة روائية بشكل متماسك وفق بناء مدروس للشخصيات وتحريكها في فضاء متخيل
" تثير رواية " حز القيد " جملة من الأسئلة وتتعمد رغم وضوحها الظاهري أن تظل قولا مضمرا يلمح دون أن يصرح ويشي دون أن يوضح ويوحي دون أن يشير تاركا للقارئ حرية اكتشاف الأمكنة والأزمنة والأسماء والإشارات وتأويل الأحداث والتفاصيل" كما يقول الكاتب ناصر صالح الغيلاني في مقدمة الرواية.
بالضرورة أن يكون الحديث مع الروائي محمد عيد العريمي متشعبا , فهذا الرجل يذكرنا ب( سانتياغو ) بطل رواية همنغواي ( الشيخ والبحر ) إذ يمثل على المستوى الإنساني خلاصة تحد للمرض والإعاقة ومن التقاه يرى أمامه إنساناً مرحا محبا للحياة ,لا تفارق الابتسامة وجهه, طيبا ويتفنن في اختيار العبارات المهذبة التي يوجهها لضيفه , وعلى الصعيد الإبداعي فهو قلم رشيق وقدرة عالية على النفاذ إلى جوهر الأشياء منقبا في الغاطس من عوالمنا الذاتية , وعلى المستوى المهني فهو إنسان فاعل لم يقهره الكرسي المتحرك الذي وجد نفسه ملقى بين أحضانه الحديدية و لم يتوقف عن العمل كمهندس في شركة تنمية نفط عمان ومترجم , أي انه يعمل متجاوزا جسده الذي أرهقه الشلل الرباعي , لكن روحه ظلت متقدة تمد جسده المتعب بوهج الحياة , وعندما طلبت منه إن يوقع لي على نسختي من روايته ( حز القيد ) التي صدرت مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت حرك يده بصعوبة وربط بمساعدة يده الثانية جلده على يده اليسرى وفي الجلدة وضع قلما فصار القلم على ظهر يده على شكل صليب , وعندما رأى دهشتي ابتسم ابتسامة عريضة وقال " قصة مو ؟ " وأطلق ضحكة ساخرة
في هذا الحوار حاولنا الدخول إلى عالم العريمي كاتبا وإنسان وحالة روائية تتحرك على الأرض.
دعنا نبدأ الحوار بالسؤال التقليدي: من هو محمد عيد العريمي؟
ـ مليء بالمفارقات والتضاد، ولدت من أب بحار وأم بدوية، فعشت فترة صباي مشتت الانتماء بين الصحراء والماء. بدأت تَعلًُمْ القراءة في الهواء الطلق تحت ظل شجرة، وأنهيت تعليمي الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية من جامعة كان من بين أساتذتها الزائرين "جون جلين" أحد أول ثلاثة رواد فضاء نزلوا على سطح القمر.
أحمل شهادة بكالوريوس علوم في الهندسة الصناعية، وأعمل مترجما لللغتين العربية والإنجليزية.. المادتان اللتان لم أكن على وفاق معهما أثناء دراستي الأساسية.
ثقبت أذني قبل أن أكمل عامي الأول لوضع تعويذة (حلق أذن فضي) تبعد عني الحسد حسب اعتقاد جدتي، والذي حرصتُ على لبسه أثناء دراستي في أمريكا لا تمسكا بمعتقدات البدو وإنما حبا في التميز رغم أنه شكل لي ـ حسب مواقف الناس وتباين الأمكنة ـ إما إحراجا لتشبهي بالفتيات أو ميزة تفردت بها بين زملائي في الجامعة عندما كانت ظاهرة لبس الأقراط بين الشباب الأمريكيين في بدايتها. وبذلك الحلق جمعتُ بين تعويذة جدتي حفيدة محمد بن حمد الملقب بـ"الظفري" ـ أحد شيوخ الرمال الشرقية ـ وآخر مظاهر التمرد بين الشباب الأمريكي!
كيف كانت النشأة وما اثر تلك النشأة على تكوينك الأدبي؟ عشت جزءا من طفولتك في البادية ماذا أعطاك هذا الجزء؟ وهل انعكس هذا على أدبك ؟
ـ ولدت ونشأت في البادية العمانية كما أشرت سابقا، وقد يتبادر للذهن عند ذكر كلمة "البادية" إن البادية لا شيء غير صحراء قاحلة شديدة القسوة، وهي، إذ ذاك، أما أنها سهوب شاسعة جرداء أو كثبان رمال متحركة. فأي أثر أدبي يمكن أن تتركه بيئة لا تكاد ترى فيها للنبات ظلا ولا تسمع للحياة فيها نفسا إلا فيما ندر؟!
لكن لوعدنا التفكير في الأمر، لرأينا أن الذاكرة العربية الخصبة بالشعر والحكايات والأساطير الشعبية هي نتاج الصحراء دون سواها، وان البادية هي مهد اللغة العربية وحاضنتها. وعادة إرسال عرب مدن شمال الجزيرة والهلال الخصيب ـ حتى وقت قريب ـ أبناءهم للإقامة في البادية بين إحدى القبائل العربية الأصيلة لإتقان اللغة والتأدب بآداب البدو خير ما يدل على فضل البدو في ذلك المضمار.
لاشك إن إتقان مهارات العيش في الصحراء يصوغ كيان المرء وقيمه ، فقد تدربت على ركوب الجمال وتصويب البندقية والضغط على الزناد ، وتعلمت غناء التغرود والطارق ، وسهرت على ضوء القمر، ونمت تحت فوانيس النجوم، وخرجت مع رعاة الإبل نجوب الصحراء بحثا عن أجمة حالفها الحظ أكثر من غيرها فارتوت من زخة مطر لم تدم طويلا.. كل ذلك قبل أن أكمل عامي العاشر ! وهي تجربة في مجملها كانت العنصر الأساسي الذي صاغ وجودي وشكل حياتي وأحاسيسي.
البدوي إنسان ولد وعاش على الفطرة في منطقة لا نهاية لحدودها.. ولعل هذا الاتساع هو الذي ولد في نفسي التوق الدائم إلي الانطلاق والاعتماد على النفس وحب المغامرة والقدرة على المقاومة. ولقد تركت المكابدة المستمرة من اجل توفير أسباب الحياة التي كنت أراها في سلوك البدو وأسمعها في كلماتهم في نفسي تقديرا كبيرا لذلك الإنسان ولذلك المكان.. للبدو والبادية والفيافي الشاسعة.
لقد سُكنت بحب ذلك المكان وتاريخه ، وتقاليد أهله وأساطيرهم وأسلوب حياتهم. واعتقد ان حياتي في البادية شكلت لدي الحس الحكائي في أعمالي السردية ، وتجلى ذلك في "الريحان والدخان". وعن ذلك يقول الناقد والكاتب المبدع الأستاذ ناصر صالح الغيلاني في قراءة له لكتاب " مذاق الصبر" نشرت في مجلة " نزوى " محمد عيد العريمي يكشف في عدد من الفصول عن قدرة فنية مدهشة ، وبراعة عالية في السرد.. فهذا السرد الذي يأتي متدفقا وبشكل عفوي وشيق، وكأنه أحد الرواة القدامى الذين يخاطبون جمهورا من المستمعين.. كما أن هذه اللغة الأدبية البسيطة المنسابة كجدول ، والمليئة بروح الحياة، والمعبرة بشاعرية في كثير من الأحيان عن المواقف والشخصيات.. كل ذلك وغيره يجعل من"مذاق الصبر" عملا فنيا جميلا، وقابلا للقراءة دائما وأبدا.
هل هناك أشخاص اثروا في تجربتك؟ من هم؟ ما مدى تأثيراتهم؟
ـ لا بد أن أكثر الناس تأثيرا في المرء خلال سنواته الأولى هم أهله. ورغم انه فارق الحياة قبل أن أولد بأكثر من عشر سنوات تقريبا، إلا أن سيرة حياة جدي ـ الأمي ـ كانت حاضرة في وجدان أهلي وربما في وجدان سكان القرية كافة. كانت مآثره وحضور شخصيته محل إعجاب ناس كثر، وكان أهلي يرون حكايات عنه اقرب إلى الأساطير. ومنذ طفولتي كنت اشعر أن ثمة شيئا يربطني بجدي " محمد بن مبارك مريود " لاسيما أني أحمل أسمه الثلاثي.. ويخيل لي أحيانا أنني ـ بذلك الاسم ـ أحمل وصية متابعة سيرته، وأرث السير على خطاه.
ماذا تعني لك قصة (هلوسة)؟
ـ اعتقد انك تقصد قصة "هلوسة في يوم غائم".
نعم.
ـ لا أفشى سرا ، ولا أخجل من الاعتراف أني دخلت عالم الأدب متأخرا جدا.. ودخلته بالصدفة ومن باب الـ" الهلوسة ". إذ لم أكتب شيئا قبل " مذاق الصبر".. أول قل أعمالا لا تذكر.. ومن بينها "هلوسة في يوم غائم". هذه القصة لم تكن سوى هلوسة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى! فقد اجتاحت المشهد الثقافي حينئذ موجة من النصوص التي يقف الإنسان عاجزا عن فك طلاسمها، وكان يحز في نفسي ـ وأنا الذي كنت اعتبر نفسي مثقفا ـ أن أقف عاجزا عن فهم ما كنت أقرأ. لذلك كتبت "الهلوسة" في محاولة لركب الموجة السائدة ، وإذا بالهلوسة تفوز بالمركز الأول في مسابقة سنوية للقصة القصيرة!
كما رأينا في "مذاق الصبر" فان الحادث احدث انقلابا في حياتك، هل يمكن لك أن تتحدث لنا عن هذا الانقلاب؟
ـ لقد أخلت الإعاقة بحياتي على كافة مستوياتها: الصحية، الاجتماعية، الزوجية، والوظيفية. وكان عليّ تحمل معاناة الذات قبل آلام المرض، والتصالح مع النفس قبل الجسد والاعتراف، بالواقع قبل التشبث بالأمل والرضا بالمكتوب والقدر.. ولم يكن أمامي سبيل سوى التصالح مع الإعاقة والتكيف مع شروطها وأتعايش مع تبعاتها مهما كانت قاسية، وتوظيف هذه الشروط والتبعات لإعادة بناء حياة جديدة على أنقاض أخرى تحطمت، وبناء أحلام أخرى في إطار ما تتيحه الإصابة.
تعليق