الاحصائيات المتقدمة

تقليص

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رسالة في آلام الأطفال وتشوهاتهم الخلقية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • Font Size
    #1

    رسالة في آلام الأطفال وتشوهاتهم الخلقية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    هذه رسالة اطلعت عليها في أحد المواقع فأحببت أن أضعها في هذا المنتدى

    رسالة في آلام الأطفال وتشوهاتهم الخلقية
    نظرة إسلامية



    تأليف: د. وسيم فتح الله






    مقدمة:

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛
    فهذه رسالة مختصرة حول ما يصيب بعض الأطفال من أمراض وآلام وتشوهات خلقية، دفعني إلى الكتابة فيها شدة معاناة الأهل وهم يعاينون مصاب أولادهم بهذه الأدواء، وغفلة الكثير منا عن التدبر في هذه الأحوال لاسيما مع الاندفاع المادي الذي يشهده عالم الإنسان اليوم بحيث قلَّ الانضباط بثوابت الشريعة الغراء ناهيك عن الصدور عنها.
    ولقد تحريت في لغة الكتابة قدراً مشتركاً بين فهم عموم الناس وفهم أهل الخبرة والاختصاص، دون الغوص في متاهاتٍ اصطلاحية وبعيداً عن الاستطراد في الأمور التفصيلية، إذ ليست الغاية هنا الخوض في كل شاردة وواردة، وإنما الغرض تقرير إطار عام نتحرك من خلاله للتعامل مع هذه الأحوال.
    ولقد اشتملت الرسالة على تمهيد وخمسة فصول والخاتمة. فأما الفصلين الأولين فتناولت فيهما صورة المسألة المعروضة وتحرير كون الأطفال محلاً للابتلاء، ثم جاء الفصل الثالث باستعراض لأبرز الحكم الإلهية في مشاهد آلام الأطفال وابتلاءاتهم، ثم فصل عن موت الأطفال وآخر عن مرض الموت وسكراته ولقد اعتنيت في هذا الأخير بعرض بعض الأمور المشكلة التي تطرأ على الأهل في سياق اتخاذ القرارات العلاجية لأطفالهم في حالات المرض المزمن والمستعصي، وقد عرضتها بصيغة سؤال وجواب لتكون أيسر للمطالعة وأسرع للحصول على جواب مسألة السائل، وهي مسائل استوحيتها من واقع مشاهداتي في مجال عملي كطبيب متخصص في أمراض الأعصاب عند الأطفال، ولا أدعي استيعابها كل ما يطرأ، ولكنها بداية على الطريق إن شاء الله، وأنبه هاهنا إلى أن بعضاً من هذه المسائل تدور في فلك الاجتهاد ألا إني اقتصرت على ذكر ما ظهر راجحاً معتمداً على الدليل الشرعي مبتعداً عن التسويغ العقلي ، فأسأل الله التوفيق في ذلك.
    وإني لأرجو الله تعالى أن يكون هذا العمل المتواضع لبنةً في بناء صرحٍ علمي إسلامي يناسب خيرية هذه الأمة ويناسب حجم التحديات الحضارية التي تواجه كيانها العقدي والفكري والعلمي بل كيانها الكلي وجوداً وعدماً.



    تمهيد:

    فلقد خلق الله تعالى الإنسان لعبادته، وابتلاه بالخير والشر لفتنته، حيث قال تعالى:"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"[1]،وقال تعالى:" ونبلوكم بالشر والخير فتنة"[2]. وإن من الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية أن محل التكليف عند العبد هو العقل، وأن الثواب والعقاب والعبادة والاحتساب لا بد من أن تقوم على أساس التكليف، بحيث قد يستشكل البعض منا ما يقع لغير المكلفين أحياناً من آلام أو ابتلاءات ظاهرها الشر، إذ أن غير المكلف لا يكون محلاً للاحتساب فيؤجر، ولا يكون محلاً للتذمر والتبرم فيزجر ويؤزر، وقد يجد إبليس وجنده في هذا مدخلاً يدخل به على العبد فيثير فيه الهواجس والشكوك متسائلاً عن ذنب هؤلاء حتى يُبتلوا، وعن وجه تقصيرهم حتى يُحرموا، وغير ذلك من الوساوس والأوهام التي يعكّر بها إبليس على العبد صفاء عقيدته وسكون قلبه.

    ولما كان محل الرأفة والرحمة والشفقة في قلب الأبوين أرضاً خصبة لبذور إبليس ووساوسه هذه، ولما اقتضت حكمة الله تعالى أن يُصاب بعض الأطفال بشيء من الآلام والأمراض والتشوهات الخلقية، ولشدة الأمر على كثير من الآباء والأمهات حين يبذلون قصارى جهدهم ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل التخفيف عن أطفالهم مع تباينٍ وتفاوتٍ في مدى فهم وقبول هذا الأمر والابتلاء حسبما عاينت ورأيت من خلال مهنتي كطبيب أتعامل مع الأطفال، بل مع فئة خاصة من الأطفال المصابين بأمراض عصبية وخلقية كثيراً ما تكون وخيمة الأثر على صحة الطفل وتطوره الروحي الحركي، وجدت لزاماً عليَّ أن أساهم في تخفيف وطأة الأمر على الأبوين من جهة، والتنبيه على مَواطن الخير والاحتساب أو مواضع الزلل التي قد يغفلان عنها أحياناً في خضم سعيهما إلى تطبيب طفلهما وتدبير أمره. كما أنبه من شاء الله تعالى أن يَسلم أولاده من داءٍ أو مرض إلى عظيم فضل الله تعالى ونعمته عليه من جهة، وإلى أنه مبتلى من وجه آخر ومن جهة أخرى هي جهة السلامة والابتلاء بالخير، وعقدت العزم متوكلاً على الله تعالى على تصوير المسألة وتقعيدها من المنظور الإسلامي على قدر استطاعتي راجياً من الله تعالى التوفيق والسداد، فما كان في هذه الرسالة من صواب فمن الله، وما كان غير ذلك فمني، وأرجو ألا يضن عليَّ أحد بتصويبه أو توجيهه.



    فصل: تصوير المسألة:

    إن صورة المسألة من المنظور الإسلامي تنطلق من جملةٍ من النصوص التي تجعل العقل مناط التكليف وتجعل الابتلاء بالشر وسيلة عقاب أو رفع درجة أو حط خطيئة عن المكلف؛ فأما دليل الأصل الأول فقوله صلى الله عليه وسلم:" رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتىيحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"[3]، وأما دليل الأصل الثاني فقوله تعالى:" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"[4]، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"[5]. فإذا كان الأمر كذلك – وهو كذلك – فما وجه تنزُّل الآلام والأمراض والتشوهات بالأطفال وهم لم يجرِ عليهم القلم ولم يكتمل عندهم نصاب العقل الذي هو محل التكليف؟ إن كونهم غير مكلفين يخرج بهم عن ترتب آثار الابتلاءات عليهم؛ فلا ذنب عليهم يُكفره الابتلاء ، ولا معصية عندهم يعاقَبون عليها بالمصيبة، وليسوا أهل عملٍ ليرفع لهم الألم درجة أو منزلة، وعند هذا المشهد يفترق الخلق إلى فريقين؛ فريق الضلالة وفريق الهدى. فأما فريق الضلالة فلا يكلف نفسه عناء رفع غشاوة الجهل وخرق حجب الشبهات عن قلبه، وأما فريق الهدى فلا يعدم في أي مشهدٍ يشهده رؤية أثرٍ من آثار الله عز وجل وأسمائه وصفاته القدسية، إما على سبيل الإجمال إن تعذر عليه الفهم، وإما على سبيل التفصيل إذا وفقه الله تعالى لإدراك حكمة المشهد، فتأمل.
    ولما كان خطابي في هذه الرسالة المختصرة موجهاً إلى أهل القبلة ممن رسخت لا إله إلا الله محمد رسول الله في قلوبهم وتجذرت عقيدة التوحيد وحب الخالق فيها، فإني لن ألوث روعة المشهد بشبهات الضالين، وإنما أحاول أن أتدرج في مشهد أهل الهدى عسى أن نكون ممن قال فيهم سبحانه وتعالى:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"[6]

    [1] سورة الذاريات – آية 56


    [2] سورة الأنبياء – آية 35

    [3] رواه أبو داود والنسائي، واللفظ لأبي داود، وصححهما الألباني

    [4] سورة الشورى – آية 30

    [5] صحيح البخاري – كتاب المرضى

    [6] سورة البقرة – آية 213
    التعديل الأخير تم بواسطة صمت الغروب; الساعة 05-06-2007, 10:55 PM.


    يا حي يا قيوم
    برحمتك أستغيث
    أصلح لي شأني كله
    ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
    اللهم آمين
    ربِّ اشرح لي صدري
    ويسر لي أمري
    واحلل عقدة من لساني
    يفقهوا قولي
    اللهم آمين

    اللهم اروي قلبي بالإيمان
    من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
    http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

  • Font Size
    #2
    فصل: تحرير القول في كون الأطفال محل ابتلاء:
    مما تقدم نستطيع أن نقول إن الأطفال ليسوا محل ابتلاء من حيث كونهم مكلفين، في حين أن الواقع الذي نراه يثبت نزول المصائب والآلام والأمراض بالأطفال، وهذا يدفعنا إلى تقرير كون الأطفال محلاً لنزول البلاء ولكن باعتبارٍ آخر؛ ذلك أن الأطفال - فضلاً عن كونهم من جنس المكلفين – يمثلون مادةً من مواد ابتلاء أفراد المكلفين الذين تعيَّن توجُّه خطاب الشرع إليهم، بمعنى أن الأطفال في مرحلة ما قبل التكليف ليسوا إلا وسيلة من وسائل ابتلاء الله عز وجل للأبوين المكلَّفين ومادة من مواد الاختبار، وهم أحد أنواع الزينة التي ابتلى الله تعالى بها المكلفين كما جاء صريحاً في قوله تعالى :" المال والبنون زينة الحياة الدنيا"[1]، وقد تجنح هذه الزينة بالعبد جنوحاً يلهيه عن الآخرة وحرثها كما قال تعالى منبهاً:"اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراًُ ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"[2]، كما قد تكون وسيلة حرثٍ طيبٍ للآخرة كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم ‏قال:"‏إذا ماتالإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدصالح يدعو له"[3]
    فإذا تبين كون الأولاد وسيلة حرثٍ أخروي طيب أو خبيث، تقرر أن الأولاد مادة من مواد اختبار المكلف ووسيلة من وسائل ابتلائه وفتنته وتمحيصه، وقد تقرر في النصوص الشرعية الثابتة أن الابتلاء يكون بالشر كما يكون بالخير، حيث قال سبحانه وتعالى:" ونبلوكم بالشر والخير فتنةً"[4]، فإذا تبين ذلك كان تحرير القول في مسألة كون الأطفال محلاً للابتلاء هو تقرير ذلك الأمر لا باعتبارهم مكلَّفين بل باعتبارهم أدوات امتحان ووسائل تمحيص للمكلّف المعيَّن الذي توجه إليه الخطاب الشرعي. فتارةً يكون ابتلاء المكلف بالخير فيرزقه الله تعالى الولد سليم الخلق معافى البدن لا ألم يصيبه ولا أذى يناله، فتقرُّ عين الوالد والوالدة بعد طول تربصٍ وتضرعٍ إلى الله تعالى:" هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرَّت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين"[5]، وتكون غاية الابتلاء هاهنا استخراج عبودية الشكر لله عند الوالدين، وتارةً يكون ابتلاء المكلف بعدم تمام الحمل أصلاً فيسقط الحمل بتقدير الله تعالى وحكمته:" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار"[6]، وتارةً أخرى يكون ابتلاء الله تعالى عبده بالمصيبة فيولد الطفل ناقصاً أو معلولاً أو مشوهاً وذلك لحكمةٍ يريدها الله تعالى – كما سنبين إن شاء الله – وحسبك أن تعلم أن الله تعالى قد شاء أن يبتلي بعض صفوة خلقه - وهم الأنبياء – بشيء من هذا حيث سجل القرآن الكريم تلك الحادثة في قوله تعالى حكايةً عن سليمان عليه السلام :" ولقد فتنَّا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب"[7] كما نبين لاحقاً إن شاء الله.
    وبهذا يتحرر لدينا كون الأطفال محلاً للآلام والمصائب وتتحرر لدينا ألوان الفتن التي قد تعرض للمكلف في أولاده، ويبقى علينا أن نتجول في بستان أسماء الله تعالى وصفاته لننتقي بعض الأزهار والثمار الدالة على آثار هذه الأسماء والصفات العلية القدسية لتتحقق عبوديتنا لله تعالى على أفضل وجه ممكن لنا، والله المستعان.





    [1] سورة الكهف – آية 46

    [2] سورة الحديد – آية 20

    [3] صحيح مسلم

    [4] سورة الأنبياء – آية 35

    [5] سورة الأعراف – آية 189

    [6] سورة الرعد – آية 8

    [7] سورة ص – آية 34
    التعديل الأخير تم بواسطة صمت الغروب; الساعة 05-06-2007, 03:04 PM.


    يا حي يا قيوم
    برحمتك أستغيث
    أصلح لي شأني كله
    ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
    اللهم آمين
    ربِّ اشرح لي صدري
    ويسر لي أمري
    واحلل عقدة من لساني
    يفقهوا قولي
    اللهم آمين

    اللهم اروي قلبي بالإيمان
    من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
    http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

    تعليق


    • Font Size
      #3
      فصل: الحكم والعبر المستفادة من شهود آلام الاطفال ومصائبهم :

      تتنوع مصائب الأطفال الصحية وأمراضهم تنوعاً واسعاً، ولسوف أستعرض صنفين من الأمراض يتميز كل منهما بطبيعة مرضية تُبرز حكماً وعبراً قد لا تُلاحظ في الأخرى، وتندرج تحت كل من الصنفين العديد من الأمراض التي قد أشير لبعضها كنموذج أو لإبراز فائدة أو التنبيه على لطيفة دقيقة.

      المطلب الأول : التشوهات والاعتلالات الخلقية:

      تضم هذه المجموعة شتى أنواع الاعتلالات الخلقية التي تتناول بالدرجة الأولى شكل الطفل ومظهره الخارجي، وهي اعتلالات غالباً ما تكون ملفتةً للنظر بحيث تثير قلق الوالدين على الطفل كما تثير فضول العامة لما عليه الطفل من تشوه أو عيب خلقي مما قد يسبب حرجاً أو ضيقاً اجتماعياً للوالدين أو للطفل حينما يكبر. ومن أمثلة هذه الاعتلالات الخلقية العَلَم ( انشقاق الشفة الخلقي)، ومتلازمة داون (المنغولية)، نقص تشكل الأطراف، القيلة السحائية، وغيرها. كما أن بعض هذه الاعتلالات قد لا يكون ظاهراً للعيان ولكنها تتسبب في تأخر التطور السلوكي الحركي للطفل كما هو الحال في تشوهات الدماغ الخلقية ( كالدماغ الاملس أو استسقاء الدماغ الخلقي ) أو تتسبب في تأخر النمو الجسدي وفي اضطرابات صحية متكررة كما هو الحال في أمراض القلب الخلقية ( كالفتحة بين البطينين، ورباعي فالو وغيرها). وقد لا يظهر أثر هذه التشوهات والاعتلالات على الطفل مباشرة مما يجعل تصور المشاكل الصحية التي يتوقع أن يتعرض لها الطفل في المستقبل صعباً على الأهل.
      ولا شك أن ابتلاء الله تعالى الأبوين بطفل مصاب بشيء من هذه الاعتلالات مصابٌ شديد وابتلاء عظيم، وقد يذهل الأبوان أو أحدهما عن شهود الحكم والعبر المتعلقة بهذا الابتلاء في سياق انشغالهما بالنواحي الطبية والعلاجية فيفوِّتان على أنفسهما فرصة الاحتساب وطلب الأجر من جهة، وفرصة التقرب إلى الله تعالى بعبادات هذا المشهد من جهة أخرى.
      وهذا يدفعني إلى تنبيه نفسي وغيري إلى أن الاستعداد للتعامل مع هذه الابتلاءات لا بد من أن يكون حاضراً في ذهن المكلَّف، لأن ساعة معاينة المصيبة ووقوع الابتلاء قد تكون ساعة ذهول تنأى بالفرد عن التعامل الصحيح معها، فليتنبه.
      والآن، ما هي الحكم والعبر المستفادة من شهود الاعتلالات والتشوهات الخلقية عند الأطفال؟

      أولاً: مشاهدة تمام تصرف الله تعالى في مملكته والتدبر في لوازم ذلك:

      إن الله تعالى حيث خلق الكون جعله يجري وفق سنن كونية تحفظ ثباته وتصون نظامه، وقد يدفع هذا الانتظام الثابت المستقر بعض الناس إلى توهم حتمية هذا النظام وقهريته، بل إن البعض قد يغفل عن شهود الصانع المتصرف في خلقه نتيجة هذا الثبات الذي لا يكاد يختل البتة. فكان من تمام حكمة الله تعالى أن تحدث الحوادث الكونية الخارقة لسنن الكون المعتادة لتدل على أن حوادث الكون المعتادة مخلوقة مصنوعة لبارئها المتصرف في مملكته تمام التصرف بدليل حدوث غير المعتاد وغير المألوف. ولقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله كلاماً نفيساً في هذا المعنى حيث قال:" ..ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة، إذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فتنوع أفعاله ومفعولاته من أعظم الأدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه، ولهذا سبحانه خلق النوع الإنساني أربعة أقسام: أحدها لا من ذكر ولا أنثى وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم، والثاني خلقه من ذكر بلا أنثى كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى أو يشتمل عليها بطن، والثالث خلقه من أنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى بن مريم صلى الله على نبينا وعليه، والرابع خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأن الأمر ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال"[1] قلت: فعبَّاد الطبيعة يزعمون أن الأمر أُنف، وأن المسألة مسألة أرحامٍ تضع وأرض تبلع بحكم الطبيعة، تماماً كما أنهم يعزون بداية الخلق الإنساني بجهلهم وكفرهم إلى تطور الأنواع ونشوء الإنسان من سلالات حقيرة ترقت بزعمهم، فكان لا بد من ظهور آثار الصانع جل وعلا لتدكَّ معاقل كفرهم وتزجَّ بأوهام باطلهم في دركات جهنم، حيث قال تعالى:" يأيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم. الذي خلقك فسوَّاك فعدلك"[2]، فمن لم يكن في تسوية الخلق دليل كافٍ له على شهود الصانع أردفه الله تعالى بدليل :" في أي صورة ما شاء ركَّبك "[3]؛ نعم، إن الذي خلق الطفل سليم المظهر والشكل قد فعل ذلك بمشيئته وقدرته لا بحكم الطبيعة كما يزعم الجهلة، وهو عز وجل حين يشاء يخلق ذلك الطفل بإصبع زائدة أو قدمٍ ناقصة أو مظهرة مختلفٍ عما ألفه الناس ، وما ذلك إلا تنبيهاً للغافلين وتثبيتاً للموقنين بأنه:" هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبِّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم" [4]

      ثانياً: مشاهدة تمام مشيئة الله تعالى في أفعاله:

      وإنني أقرر في هذا المقام أننا في عصر العلم والتقدم التقني الطبي والتشخيصي والعلاجي أحوج ما نكون إلى استحضار هذه الناحية أعني مشيئة الله تعالى النافذة في كل خلقه، لا سيما وأن العلم من مظانِ طغيان العبد وتجاوزه حده، قال تعالى :" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"[5]، فالإنسان اليوم في عصر العلم - كما يدّعي - كثيراً ما يجنح إلى الطغيان، ويغفل عن الضراعة إلى الله عز وجل مكتفياً بالركون إلى أسباب العلم المادية، فكان لا بد من تذكير مثل هذا الإنسان وتنبيهه إلى أنه مهما استغنى بسببٍ فهو أبداً مفتقرٌ إلى خالقه وخالق ذلك السبب. ولعل من المفارقات العجيبة في هذا الباب مثلاً ما حصل من تطور وتقدم علمي في مجال العقم؛ ففي حين كان الملجأ الوحيد – ولا يزال في حقيقة الأمر – للزوجين المحرومين من الإنجاب والذرية هو التضرع إلى الله تعالى والدعاء واللجوء إليه سبحانه، نجد خفوت وتضاؤل داعي التضرع والتذلل هذا اليوم مع وجود بعض التقدم العلمي التقني الذي يمكن أن يتجاوز بعض أسباب العقم ، واستغنى الإنسان بها بغفلته وزعمه فطغى وتجاوز الحد ولم يعد يلتفت إلى الدعاء التفاته السابق لاكتشاف هذه الأسباب، فكان لا بد من أن يكون التنبيه أشد والتذكرة أعنف، وإنك لترى أن نسبة حدوث الاعتلالات والتشوهات الخلقية عند أطفال ما يسمى " أطفال الأنابيب" وغيرها من وسائل تدبير ومعالجة العقم أكبر منها عند غيرهم من الأطفال، ولا أقصد التثريب على من تحرى طرق التداوي فهذا في حد ذاته مشروع وإنما التنبيه من الغفلة والركون إليها عن كمال الاستسلام والانقياد والخضوع لمشيئة الله عز وجل.
      هذا وإن الأصل في شهود تمام مشيئة الله تعالى في خلقه للطفل هو قوله تعالى :" هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [6]، فتمام مشيئة الله تعالى تقتضي أنه ما شاء عز وجل كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن لما كان تكرار الحوادث المنتظمة الثابتة مظنة الغفلة عن تعلُّق مشيئته تعالى بكل حدثٍ منها كان من تمام حكمة الله تعالى ودواعي حمده أن جعل من هذه الحوادث ما لا يسير على نظام السنن الكونية المألوفة ليذكر من تذكر بأن هناك رباً خالقاً صانعاً مريداً مختاراً كما وصف نفسه عز وجل :" وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخِيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون"[7].
      وهكذا فإن الذي يشاهد طفله الذي رزقه الله تعالى إياه مصاباً بتشوه خلقي في الدماغ أو الجمجمة أو القلب يدرك ويوقن بأن مشيئة الله تعالى فقط هي التي أذنت بأن يكون طفله الأول – أو طفل غيره من الناس – سليم الخلق طبيعي الدماغ أو الجمجمة أو القلب. وبكلامٍ آخر نقول إن ولادة طفلٍ سليم ليست إلا أثراً من آثار نفوذ مشيئة الله تعالى التامة تماماً كما أن ولادة طفل مشوه الخلقة ليست إلا كذلك. وإن تحقيق هذا المشهد في نفس العبد ضرورة وركن من أركان الإيمان – أي الإيمان بالقدر – حيث إن الإيمان بالقدر يشتمل على الإيمان بمشيئة الله النافذة في كل شيء. فاعلم رعاك الله أن هذا المشهد فرصة ثمينة لزيادة إيمانك بالله عز وجل فلا تفوتنَّك هذه المرتبة الاختيارية وأنت تعاين هذا الابتلاء القهري.


      [1] طريق الهجرتين وباب السعادتين – 125-126

      [2] سورة الإنفطار – آية 6-7

      [3] سورة الإنفطار – آية 8

      [4] سورة الحشر – آية 24

      [5] سورة العلق- آية6-7

      [6] سورة آل عمران – آية 6

      [7] سورة القصص – آية 68


      يا حي يا قيوم
      برحمتك أستغيث
      أصلح لي شأني كله
      ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
      اللهم آمين
      ربِّ اشرح لي صدري
      ويسر لي أمري
      واحلل عقدة من لساني
      يفقهوا قولي
      اللهم آمين

      اللهم اروي قلبي بالإيمان
      من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
      http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

      تعليق


      • Font Size
        #4
        ثالثاً: تحقيق عبادة الإنابة إلى الله تعالى:

        والإنابة هي الرجوع، وهي من أنواع الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا بد من أن تكون الإنابة إلى الله تعالى بعد نوع بعدٍ عنه سبحانه إما بغفلة أو معصية أو تقصير في أداء الشكر ونحو ذلك، فلا جرم أن الإنابة والرجوع إلى الله تعالى من أعظم أنواع الخير الذي يكتبه الله تعالى للعبد ويوفقه إليه، بحيث إنه لو فُرض أن سبب الإنابة إلى الله تعالى كان ظاهره الشر لم يبق لهذا الشر أثر في مقابل الخير العظيم والنفع العميم المترتب على إنابة العبد إلى ربه وسيده.
        وإذا أردت أن تدرك عِظَم هذه النعمة فانظر إلى مكانة من أنعم الله تعالى عليه بها، وإذا أردت أن تعلم صلة هذا الأمر بموضوع التشوهات الخلقية عند الأطفال فتدبر معي هذا المشهد القرآني العظيم؛ قال تعالى:" ولقد فتنَّا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب. قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب"[1]، فعن عبد الله بن هرمز قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال سليمان بن داود عليه السلام : لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين ، كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل : إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أحمعون" [2]
        فهذه الآية صريحة في ابتلاء نبيٍ من أنبياء الله تعالى – وهم أشد الناس بلاءً – بولادة طفل مشوه الخلقة حيث جاء نصف إنسان لا يستطيع حراكاً كما وصفته الآية " وألقينا على كرسيه جسداً"[3] ؛ فهو نصف إنسان ملقى على الكرسي لا حركة له ولا فائدة منه لا سيما من حيث أراد أبوه وهو أن يكون فارساً يجاهد في سبيل الله .[4] وإنما كان سبب هذا الابتلاء – والله تعالى أعلم – كما يبدو من سياق حديث أبي هريرة أن سليمان عليه السلام لم يستثنِ بالمشيئة، وقد كان ذلك منه غفلةً ونسياناً لا جحوداً كما بينته روايةٌ أخرى عن أبي هريرة :" فقال له الملَك: قل إن شاء الله, فلم يقل ونسي"، إذ لا يصح أن يُنسب جحود الاستثناء بالمشيئة إلى نبيٍ من أنبياء الله تعالى حاشاهم عن ذلك، ولكن الغفلة عن مثل هذا من نبي من أنبياء الله تعالى يعتبر أمراً يستحق التنبيه والمؤاخذة[5]، فكان الابتلاء العظيم لا بعدم تحصيل الولد – رغم شرف الغاية المبتغاة منه – وإنما بتحصيل جزءٍ من الولد وهو أعظم حسرةً في قلب الوالد وأدعى للتبنيه من الغفلة والتذكير بالله عز وجل. وبمثل هذا التنبيه وعند وقوعه في المحل القابل – وهو قلب المؤمن – يتم استخراج عبودبة عظيمة هي عبودية الإنابة إلى الله تعالى، وانظر إلى التلاؤم ما بين هذه العبادة الجليلة المترتبة على الابتلاء بالمنع وبين اسم الله تعالى "الوهاب" الذي أعطى به عبده المنيب إليه – سليمان عليه السلام – ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده تعويضاً عن النقص المتقدم، ناهيك عن غفران زلته، وذلك بعد أن أناب إلى الله تعالى بعد معاينة البلاء "قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب"[6]
        وبناءً على هذا المشهد القرآني العظيم نستطيع أن نقول إن إحدى حكم الله تعالى الجليلة في ابتلاء العبد بالطفل مشوه الخلقة هي التنبيه على ذنبٍ متقدم أو غفلةٍ سابقة أو تقصيرٍ سابق من العبد، ومن المعلوم أن الله تعالى إذ يريد خيراً بعبده يبتليه في هذه المواقف بما يدفع العبد إلى الرجوع والهجرة إلى الله، ولا يخفى ما في هذا من النفع والخير الذي يضمحل عند شاطئه كل شرأو مشقة عابرة ملازمة للابتلاء.
        إن هذه الحكمة الجليلة تدفع بنا إلى القول بضرورة أن يقف الأبوان موقف مراجعة النفس عند معاينة مشهد الابتلاء بالطفل مشوه الخلقة ليسأل كل منهما نفسه: هل قصرت في جنب الله أو عصيته أو غفلت عن أمره بما يستوجب هذه التذكرة؟ فليتدارك الأمر إذاً وليحاسب قبل الحساب وليندم قبل أن لات ندم، وليحسن الظن بالله إذ أحسن الله تعالى إليه ولم يتركه لنفسه، فإن الله تعالى إنما يذكر عباده المؤمنين المتقين كما قال تعالى:" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"[7]، أما أتباع الشيطان فيدعهم متبوعهم ماضين في سبل الهلاك دون أن يشد حبلهم أو لجامهم عن معصية الله:"وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون"[8]، ولا شك أن موقف اتباع الشيطان في هذا المشهد هو موقف التذمر والتبرم والنفور من أمر الله نسأل الله العافية.
        وأنبه هاهنا إلى أننا لا نتهم كل من أصابه الله تعالى بهذا الابتلاء – أو بغيره – بالمعصية وليس لنا أن ننظر إليه بعين الريبة إذ أن الابتلاء قد يكون لما تقدم كما قد يكون لتمحيص إيمان العبد وزيادة درجته ورفعة مكانته كما ابتلي خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما أردت التنبيه على هذه الناحية حتى لا يغفل عنها المبتلى فيما بينه وبين الله عز وجل.

        رابعاً: تحقيق مقام الافتقار إلى الله والمداومة على التذلل إليه:

        من المعلوم طبياً أن بعض الأجنَّة تتخلق بصورة طبيعية في بداية الحمل ثم تعرض لها بعض الحوادث والعوارض داخل الرحم في مرحلة لاحقة من الحمل فتؤدي إلى اعتلال وتشوه شكلي أو وظيفي ينتج معه ولادة طفل غير طبيعي رغم سلامة الجنين في بداية الحمل. ومن أمثلة هذه الحوادث بعض الإنتانات التي تصيب الجنين داخل الرحم أو حالات انسداد شرايين المشيمة أو الجنين أو بعض الالتصاقات التي تصيب الأغشية المحيطة بالجنين، وقد تحدث بعض هذه الحوادث في المراحل المتأخرة من الحمل بعد أن يكون الأبوان قد اطمأنا إلى سلامة الحمل من خلال بعض الفحوص المتوفرة اليوم كتصوير الجنين بأمواج ما فوق الصوت ونحوه، فيفتر الأبوان عن الدعاء إلى الله طلباً لسلامة الحمل لأن الجنين سليمٌ في ظنهما. والشاهد هنا أن الأبوين في بداية الحمل كثيراً ما يستشعران افتقارهما إلى الله تعالى لأجل سلامة خلق الجنين ويستسلمان إلى الله تعالى في ذلٍ وضراعةٍ راجين صحة الجنين وعافيته، فإذا ما تبين لهما سلامة الجنين قرب منتصف الحمل – وهي الفترة التي يجرى فيها عادة هذا التصوير بالأمواج فوق الصدى – فترت همة الدعاء وخفا صوت المناجاة وخبا داعي الافتقار إلى الله تعالى كدأب الإنسان مع ربه حين يصل شاطئ السلامة، قال تعالى:" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه"[9]، فكان في شهود هذا النوع من التشوهات الخلقية الناجمة عن إصابة الجنين في مراحل الحمل المتأخرة رادعاً عن ذلك وداعياً إلى مداومة النظر في حال فقر العبد لخالقه وملازمة عتبة الضراعة إلى الله واللجوء إلى جنابه.وإن من تأمل في قوله تعالى:” يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تُصرفون"[10] أدرك أن سلامة الخلق في مرحلة من مراحل حياة الجنين لا تحول دون وقوع الابتلاء في الخلق في مرحلة تالية ولم يقع فريسة وهمِ السلامة من الابتلاء ولم يركن إلى صورة طبيعية أو اختبار سليم أو غيرهما من الأسباب المادية وإنما نظر إلى السلامة المرحلية للجنين بعين الشكر من جانب وبعين التذلل والرجاء والخضوع والابتهال إلى الله تعالى أن يجعل تمام الحمل كبدايته من جانبٍ آخر، ولولا مشاهدة أنواع التشوهات الخلقية المتأخرة هذه لفات على كثير من الناس القيام في مشهد العبودية هذا، فتأمل.

        خامساً: شهود تمام نعمة الله في سقوط الحمل المشوَّه:

        وأعني بطبيعة الحال السقوط العفوي للجنين، إذ من المعلوم أن بعض الحوامل يسقط ما في أرحامهنَّ في مراحل مبكرة جداً من حياة الجنين، وإن الفحص التشريحي المرضي الدقيق لهذا السِقط كثيراً ما يشير إلى وجود اعتلالات خلقية وراثية وشكلية في هذا السِقط، فيكون من نعمة الله تعالى على الأبوين عدم تمام هذا الحمل بتقديره عز وجل وحكمته، ولولا أن بعض الأحمال تصل إلى تمامها بولادة أطفال مشوهي الخلقة لما أدركنا تمام نعمة الله علينا بإسقاط الحمل المشوه وإتمام الحمل السليم، يقول تعالى:" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار.عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال"[11]؛ فما تغيض – أي تنقص – الأرحام هو السِقط[12]، والسِقط يكون نتيجة تشوهاتٍ خلقية أحياناً وتكون هذه التشوهات مستورةً عنا في علم الغيب ولولا ظهور بعضها لنا في علم الشهود لما أدركنا تمام نعمة الله علينا حين تقضي مشيئته سبحانه بسقوط الحمل الذي قُدِّر له التشوه وإتمام الحمل الذي قُدِّر له سلامة الخلقة.
        وعلى سبيل المثال فإن الكثير من التشوهات الخلقية عند الأطفال تكون ناجمةً عن اعتلالات في الصبغيات[13]، وإن الكثير من حالات الإسقاط العفوي المبكر تكون بسبب اعتلالات أشد اضطراباً في هذه الصبغيات، فلا يدرك تمام المنة في إسقاط هذه الأجنة من لم يعاين مصاب الأجنة ذات الاعتلال الأخف. فكم من أم تكرر سقوط حملها وانتابها الضيق والألم لما تستشعره من بلاء بفوات الحمل، حتى إذا حملت ووقع ما تشتهيه من تمام الحمل قدَّر الله تعالى أن يكون وليدها ذاك مبتلى بتشوه أو آفة خلقية تهون مع معاينتها ما كان يضيق منه الأبوان سابقاً من عدم تمام الحمل، فإذا بالصورة تكاد تنعكس ويدرك الأبوان أن ما كانت الأم تكرهه من سقوط الحمل قد كان في الواقع خيراً لها، وأن ما كانت تحبه من تمام الحمل قد ظهر أنه شرٌ لها من هذه الوجه، وصدق الله العظيم :" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"[14]
        ولا نقصد بهذا الكلام الإنكار على تمني وطلب تمام الحمل بل إن هذا مشروع جائز ما لم يكن تسخُّطاً على قدر الله بتأخير الإنجاب أو نحوه، وإنما قصدت إبراز حكمة الله تعالى في سقوط الحمل عند بعض النسوة بسبب هذه الاعتلالات الوراثية والمرضية ليكون في ذلك سلوى لمن تأخر عنها الإنجاب بسبب سقط الحمل المتكرر وليكون ما ذكرناه أدعى للقبول بقضاء الله تعالى وقدره، فتأمل هذا فإنه دقيق.

        سادساً: شهود تمام نعمة الله تعالى على العبد بعدم الإنجاب:

        ولا شك أن هذا بلاء شديد في نفسه، إلا أن ما قلناه في الحكمة السابقة ينسحب وينطبق على هذا الوضع بحيث إن مشاهدة ما يبتلي به الله تعالى بعض الأهالي بالأطفال المصابين بالتشوهات الخلقية أدعى لقناعة هؤلاء الأهالي المحرومين بما قسمه الله تعالى لهم من عدم الإنجاب ، ولا حاجة للتفصيل هاهنا لأنه متمم لما تم ذكره في الفقرة السابقة، فما يدري هذين الأبوين أن لو كتب الله لهما الإنجاب لكان الطفل سليماً أم مشوهاً، صحيحاً أم مريضاً؟

        سابعاً: الوقاية من البلاء:
        وهذه حكمة متعدية إلى الغير في الواقع، إذ أن مشاهدة أنواع الابتلاءات والتشوهات الخلقية لا بد من أن يدفع صاحب القلب المؤمن إلى الالتفات إلى خالق هذه الابتلاءات مقرَّاً بفضل الله تعالى عليه بعدم ابتلائه بها ومتضرعاً إليه سبحانه أن يصرفها عنه وعن ذريته، وفي هذا من ألوان العبودية والتضرع والافتقار إلى الله تعالى ما فيه من خير ونفعٍ عظيم. ولقد تكفلت النصوص الشرعية ببيان أثر ونتيجة هذا الدعاء والتضرع لمن حقق هذا الدعاء واستوفى مقدماته وأسباب قبوله، وتأمل معي الحديثين التاليين:
        عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش"[15]
        وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاء"[16]
        فأنت ترى أن أثر هذا الدعاء – بالإضافة إلى ما تقدم من تحقيق مرتبة التضرع والتبرؤ من الحول والقوة – يتضمن أيضاً الوقاية من نفس البلاء المشاهد . وهنا نكتةٌ دقيقةٌ أرجو أن أوفَّق إلى بيانها وهي أن التشوهات الخلقية التي تصيب الأطفال تكون ناجمة عن خلل أو اضطراب في التصوير والتطور الجنيني بما لا يُتصور حصوله بشكل كسبي عند من وُلِد سليماً معافى من هذه التشوهات، فهو ليس محلاً لحصول هذه التشوهات فيه بعد أن تم خلقه وتصويره، فما وجه الأثر المترتب على هذا الدعاء عنده وقد قلنا إن من فوائد هذا الدعاء عدم إصابة المكلف بهذا الابتلاء؟ وصورة المسألة أن المكلف سليم الخلق قد يتوهم أنه غير محتاج إلى أثر هذا الدعاء في الوقاية من الابتلاء بالتشوهات الخلقية لفوات محل حصول ذلك التشوه فيستغني – واهماً – عن هذا الدعاء، فكيف نزيل هذه الشبهة وندحض هذا الوهم؟
        والجواب عن هذا بسيط وله وجهان؛ أحدهما تحقيق النظر في محل الابتلاء على النحو الذي قدمناه في فصلٍ سابق[17]، فهذا التشوه الخلقي قد لا يصيب نفس المكلف ولكنه قد يصيبه في ولده وذريته التي قد يرزقه الله تعالى بها، بحيث يكون أثر الدعاء متحققاً في المعافاة من ابتلاء ذريته بمثل هذا التشوه الذي يشاهده في ذرية أناسٍ آخرين، وبالتالي يتحقق أثر الدعاء عند هذا المكلف وإن لم يكن هو نفسه محلاً لوقوع البلاء في جسده، فتنبه.
        أما الوجه الثاني فيعود إلى تحقيق الإيمان بتمام قدرة الله عز وجل على خرق أي ناموسٍ كوني، فلا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يبتلي من يتكبر على الخضوع لهذا المشهد التعبدي بمسخٍ أو نقصٍ كسبيٍ في خلقته يكون شبيهاً بهذا الابتلاء الذي توهم أنه ناجٍ منه وأنه غير مفتقرٍ إلى الله تعالى في مداومة التنعم بالسلامة منه، ولقد دلت النصوص صراحةً على وقوع مثل هذا المسخ كما قال تعالى:" قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاعوت أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواء السبيل"[18] ، وقوله تعالى :" فلما عتوا عما نُهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين"[19] ، وقوله تعالى:" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين"[20]، وأنت ترى أن القاسم المشترك بين من عوقب بهذا المسخ هو العتو والاستكبار عن الانقياد لأمر الله تعالى، وشبيه به – والله أعلم – الاستكبار عن الخضوع له تعالى بعبادة الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لتوهم عدم الحاجة إليه والاستكبار عن التبرؤ من الحول والقوة في دوام النعمة والافتقار في ذلك إلى الله تعالى وحده، وإليك هذه الآية الجامعة في تقرير مشيئة وقدرة الله تعالى المطلقة على مسخ من يشاء من خلقه، قال تعالى:" ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون. ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون. ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون"[21]، والمشاهد المذكورة في هذه الآية وإن كان منها ما هو في الآخرة إلا أنها عامة في تقرير مشيئة الله تعالى وقدرته على هذا الطمس والمسخ، أما التنكيس في الخلق فصريحٌ ومشاهدٌ في الدنيا في كل يوم فيمن يذهب بصره وسمعه وعافيته وعقله مع تقدم عمره نسأل الله العافية، فكيف يركن بعد هذا أحدٌ إلى سلامة خلقته فيما مضى ويأمن مكر الله تعالى فيما هو آت، ألا فلا يركنن أحدٌ إلى سلامة خلقته ولا يستكبرنّ أحد عن مداومة النظر والافتقار إلى الله تعالى للوقاية من ابتلاء شبيه بما يراه عند الأطفال مشوهي الخلقة وإن قصر عقله عن تصور كيفية إنزال الله تعالى هذا البلاء به.


        [1] سورة ص – آية 34-35

        [2] صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب من طلب الولد للجهاد

        [3] سورة ص – آية 34

        [4] وفي هذا تنبيه على ضرورة سمو الهدف وشرف الغاية عند من يبتغي الإنجاب وكثرة الولد فلا يكون ذلك مفاخرةً ولا تكثُّراً وإنما يجعله في سبيل الله سواء أكان للجهاد أم العلم أم غير ذلك من أبواب الخير التي يُبتغى لأجلها الولد طلباً لمرضاة الله تعالى.

        [5] وقد حصل جنس الابتلاء للغفلة عن الاستثناء بالمشيئة من حبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم حين سأله اليهود عن أهل الكهف فوعدهم بالجواب ولم يستثنِ صلى الله عليه وسلم فأبطأ عليه الوحي حتى همه ذلك، ونزل قوله تعالى:" ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً"

        [6] سورة ص – آية 35

        [7] سورة الأعراف – آية 201

        [8] سورة الاعراف – آية 202

        [9] سورة الإسراء – آية 83

        [10] سورة الزمر – آية 6

        [11] سورة الرعد- آية 8-9

        [12] السِقط اسم يُطلق على ما تسقطه الحامل قبل تمام الحمل سواء أكان الإسقاط عفوياً أم محرضاً

        [13] الصبغيات هي ما يُعرف بالأجنبية بـ "الكروموسومات" ، وهي المادة الوراثية المحتواة في نواة كل خلية في جسم الإنسان، وعدد الصبغيات الطبيعي هو 46 يأتي نصفها من الأم ونصفها الآخر من الأب.

        [14] سورة البقرة – آية 216

        [15] رواه الترمذي ، وقال : حديث غريب

        [16] رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه

        [17] راجع فصل " تحرير القول في كون الأطفال محل ابتلاء"

        [18] سورة المائدة – آية 60

        [19] سورة الأعراف – آية 166

        [20] سورة البقرة – آية 65

        [21] سورة يس – آية 66-68


        يا حي يا قيوم
        برحمتك أستغيث
        أصلح لي شأني كله
        ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
        اللهم آمين
        ربِّ اشرح لي صدري
        ويسر لي أمري
        واحلل عقدة من لساني
        يفقهوا قولي
        اللهم آمين

        اللهم اروي قلبي بالإيمان
        من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
        http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

        تعليق


        • Font Size
          #5
          ثامناً: استخراج عبادة الصبر عند الأبوين:

          إذ لاشك في أن الابتلاء بمثل هذه التشوهات والآفات يشكل صدمةً شديدة للأبوين في لحظةٍ هي أرجى ما تكون فرحاً بقدوم الطفل السليم الصحيح المنتظر فإذا بالمولود على غير ما هو متوقع، أو بالطبيب يخبر الأهل بما لم يخطر على بالهما وهما يريان طفلاً سليماً في الظاهر فإذا به مصابٌ بمرض خلقي خفي خطير، والحقيقة أن مواجهة هذه اللحظة بالصبر والجلَد والقبول لقضاء الله تعالى وقدره لا يمكن أن يتحقق تمام التحقيق وأن يمارس حق الممارسة إلا باستعدادٍ سابق وعلى قاعدة إيمانية راسخة، إذ من السهل على الإنسان أن يصبر على بلاءٍ ما بعد مرور سنين طوال ويتعود الأمر ويقبله، وهذا المشهد يشترك فيه الكثير من الناس، ولكن الصبر المميز للثلة القليلة هو صبر الصدمة الأولى الذي ينأى بالمرء عن مظاهر التذمر والتبرم والتضجر ويقيه من معصية السخط على قضاء الله تعالى والعواقب الوخيمة لذلك. وتأمل معي هذا الحديث الشريف لتدرك ما نقول، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبيٍ لها فقال لها: اتقي الله واصبري. فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ [1] فلما ذهب قيل لها :إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذها مثل الموت[2]، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله !لم أعرفك. فقال:" إنما الصبر عند أول صدمة" أو قال:" عند أول الصدمة" [3]
          فهذا الحديث عظيمٌ في هذا الباب وهو يؤصل لنا ما ذكرنا من أن الصبر الذي يتميز به المؤمن هو صبر الساعة الأولى والصدمة الأولى، أما الصبر الذي يأتي بعد طول البلاء نتيجة تعوُّد وتقبُّل متأخر فهذا لا شك أن درجته دون درجة صبر الصدمة الأولى، ويشترك في هذا الصبر كثير من الناس بل قد يشترك فيه غير المؤمن مع المؤمن!
          وهنا مسألة لطيفة وهي : أيهما أفضل من رُزق بولدٍ سليم معافى فشكر أم من رُزق بولد مبتلى مشوه الخلقة فصبر؟ وهذه المسألة نظير مسألة الغني الشاكر والفقير الصابر، والتحقيق في هذه المسألة – وكل المسائل النظيرة لها – أن نذعن لقوله تعالى:" هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"[4]؛ فالعبد قد يُصلحه الابتلاء بالخير على وجه لا يحققه ابتلاؤه بالشر، وغيره قد يصلحه الابتلاء بالشر على وجهٍ لا يتحقق لديه بابتلائه بالخير، فكم من غنيٍ غافل لو أصابته العالة والفقر لثاب إلى الله، وكم من فقيرٍ صابرٍ قانع لو أصابه غنى لطغا وفجر ونسي الله، وكم من غني شاكر لو أصبته عالة لضجر وتبرم وسخط على قدر الله، وكم من فقير متذمر لو كان غنياً لكان قوَّاماً أواباً إلى الله تعالى، وهكذا .. فالتحقيق أن نذعن لحكمة الله تعالى فيما يختاره لنا من الابتلاء ونذعن لعلمه بنا الذي يفوق علمنا بأنفسنا، وأن الله تعالى أعلم بما هو أصلح لنفوسنا، فمن كان محلاً قابلاً ومتجهاً إلى الله تعالى وعلم الله أن الابتلاء بالخير أرجى لتحقيق إيمانه ورفع درجاته ابتلاه بالخير، ولو علم أن الابتلاء بالشر هو أرجى لتحقيق إيمانه ورفع درجاته لابتلاه بالشر، وهكذا. وتحقيق الأمر في مسألتنا أن نقول لمن رُزق بالطفل المشوَّه أن يصبر ولا يسخط ولا يحدِّث نفسه ويسيء الأدب مع ربه قائلاً: لو أن الله رزقني طفلاً سليماً لكنت أريته سبحانه كيف أشكره، و أن نقول لمن رُزق طفلاً سليماً أن يشكر الله ولا يسيء الأدب مع ربه قائلاً: لا يهمني لو أن الله ابتلاني بطفلٍ مشوَّه فإني أصبر على ذاك كما أشكر على هذا، إذ أن هذا كله من قبيل إحسان الظن بالنفس وهو مذموم قطعاً، بل يقبل الإنسان ما ابتلاه الله تعالى به محسناً الظن بالله أنه سبحانه ما قدر له إلا ما هو خير له وأصلح في دينه ودنياه، كيف لا وهو الرؤوف بعباده الرحيم، فتأمل هذا فإنه عظيمٌ جداً.

          تاسعاً: الإقرار بكمال الخلق الإلهي للإنسان وبلوغ ذروة الإبداع في ذلك:

          وهذه نعمة مغبون بها كثير من الناس لكثرة مشاهدة النعمة وأُلفها حتى يكاد ينعدم شهودها واستشعار منِّ الله بها فإذا بشكرها يضمحل شيئاً فشيئاً، بل قد يصل الطغيان والغرور بالإنسان إلى محاولة تبديل خلق الله تعالى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيتبع خطوات الشيطان فيما نبه الله تعالى به من مكائده:"ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله "[5]، وها أنت ترى مظاهر فسق الإنسان وانحرافه في تغيير خلق الله يتعدى المظاهر الشكلية من وسمٍ ووشم ووصل وتفليج وتبتيك آذان[6] وثقب أجسام – كما هو مشاهد بكثرة عند الغرب الكافر- فإذا به يتعدى ذلك إلى مجال آخر هو الإقدام على التلاعب بالمادة الوراثية التي منَّ الله تعالى على الإنسان باكتشافها لا بغية علاج مرض – فهذا مشروع بضوابطه إن شاء الله - وإنما بغية تغيير لون عينين أو "تفصيل" جنين حسب الطلب لأبوين متطاولين على حدود الله تعالى غير قانعين بهبة الله عز وجل، يظن أولئك السفهة أن بعض العلم الذي لديهم يغنيهم عن الله تعالى، وصدق الله العظيم إذ قال:" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"[7]. والشاهد هنا أن ما نشاهده من التشوهات الخلقية أو الأمراض الخلقية الشديدة المنفرة قد اكتشف أنها ناجمة – من الناحية السببية – عن خلل أو اضطراب يصيب بضعة خلايا أو بضعة جزئيات أو أحياناً حمضاً أمينياً واحداً في سلسلة تتجاوز المئات من الحموض الأمينية التي تشكل المادة الوراثية المسؤولة عن هذا الاضطراب الخلقي،فكيف يضمن من يتلاعب بهذه المادة الوراثية ألا يصيبه الله تعالى باعتلالات أشد تنفيراً وأكثر سوءً، فما بال الإنسان إذاً يتلاعب بهذه المادة الوراثية بدون مسوغٍ اللهم سوى التطاول على خلق الله ومد يد العبث والتغيير اتباعاً لأمر الشيطان؟!
          ألا فليثب إلى الله هؤلاء وليقنعوا بقوله تعالى:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"[8] ، وقوله تعالى:"يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم. الذي خلقك فسوَّاك فعدلك"[9]، وليضبط ما يمنُّ به الله علينا من علم واكتشاف ويوجهه وجهةً علاجيةً مشروعةً محمودة، وليكفَّ عن مد يد التغيير والطغيان إلى خلق الله تعالى فإن ذلك غير محمود العاقبة البتة.
          فحكمة الله تعالى في هذا المشهد تتجلى في الردع والزجر الذي تمثله مشاهدة هذه التشوهات الخلقية الحادثة بعلم الله وإرادته عبر تغيير بسيط في جزيء أو عنصر من عناصر المادة الوراثية فيكف الإنسان عن التلاعب بجهله وبغروره بما لا يعرفه ولا يدرك عواقبه ولهدفٍ غير مشروعٍ أصلاً، فنقول بإيمان ويقين:"فتبارك الله أحسن الخالقين"[10]، ونقول لمن لا يرتدع ولا ينزجر :"ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً. يعِدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً"[11] فهاتان الآيتان تثربان على من اتبع سبيل الشيطان والعياذ بالله.
          والخلاصة هاهنا أن ندرك ونوقن أن خلق الله تعالى للإنسان يمثل ذروة الإبداع وأحسن التصوير، وليس أدل على ذلك من النفرة الشديدة الملاحظة من بعض التشوهات الخلقية التي نعاينها بين الحين والآخر لتنبهنا إلى شتى أنواع الاحتمالات والأشكال المتنوعة للخلق وكيف أن الله تعالى قد اختار لنا أحسنها وأكملها؛ إن الله قادر أن يخلقنا مطموسي الأعين أو مشقوقي الآذان أو بلا أطراف أو غير ذلك ولكنه الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى قد صور أبانا آدم وخلقه بيديه وشرفه وسواه وأقامه منتصباً ليسموا على باقي المخلوقات، فمسكين من لم يتأمل ويتدبر هذا المشهد وأخذ يتلفت يمنةً ويسرة وهو يبحث عن أوكار الشياطين ليغير لون جلده أو تصل شعرها أو يهندس شكل مولوده القادم، مسكين ذلك التائه عن شهود كمال خلق الله.

          عاشراً: تحقيق القناعة بجنس المولود:

          لطالما كان جنس المولود محط اهتمام الأهل؛ يفرحون بولادة الذكر ويستبشرون ، ويتشاءمون بولادة الأنثى ويحزنون، ولئن كانت لحظة الفرح والحزن هذه رهينة ساعة الولادة في السابق، فإننا نجد اليوم تهافتاً من الأبوين وغيرهما على تحديد جنس الجنين أثناء الحمل بالتصوير بأمواج ما فوق الصوت ونحوه مما يتوفر من وسائل طبية، فإذا بالأم تقضي فترة حملها المتبقية مكتئبةً لكون الجنين من هذا الجنس أو ذاك، وربما تحيَّرت في كتمان الخبر عن زوجها، وهكذا دواليك، قلق واضطراب وفي حقيقة الأمر كفران نعمة وتطاول على الله تعالى وجحود لمشيئته، قال تعالى:" لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليمٌ قدير"[12]. فمن حكمة الله تعالى في حدوث بعض التشوهات الخلقية المخلَّة بسلامة المولود أن يدرك الناس تمام نعمة الله عليهم حين يرزقهم مولوداً سليماً ويرتدعوا عن التبرم والتضجر والتسخط لكون هذا الطفل السليم ذكراً أم أثنى، بل إن بعض التشوهات أو الاعتلالات الخلقية قد تصيب الأعضاء التناسلية للمولود فلا يتميز كونه ذكراً أم أنثى أصلاً – وهو ما يعرف بالخنثى – فيكون في شهود هذه الأنواع من الاعتلالات الخلقية ترسيخ للقناعة بالمولود السليم بغض النظر عن موافقة جنسه لرغبة الوالدين وهواهما.

          إن الذي يرى ما يُبتلى به بعض الناس من أطفال مصابين بتشوهات أو أدواء خلقية حري به أن يحمد الله تعالى ويشكره ويقبل ما قسمه له من ذكور أو إناث طالما كانت الصحة سليمة والخلقة تامة غير مشوهة ولا معلولة، ولو أن أحدهم خُيِّر بين ذكرٍ مشوّه أو أنثى سليمة – أو العكس – لآثر السليم منهما بلا تردد، فما لنا نكفر نعمة الله تعالى ولا نؤدي حق شكرها، ألا فلنتذكر قوله تعالى:" وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون"[13] ، إي والله، ساء ما يحكمون.


          [1] ولم تكن قد عرفت أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض الروايات قالت: إليك عني..

          [2] أي فزعت لأنها أدركت أنها أساءت الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم

          [3] صحيح مسلم

          [4] سورة النجم – آية 32

          [5] سورة النساء - 119

          [6] الوسم : إحداث علامة دائمة في جسد بهيمة أو إنسان كما يكون بأداة حديدية محماة ، والوشم: حقن مادة تحدث نزيفاً تحت الجلد بشكل رسوم وأشكال دائمة، والوصل: من وصلت شعرها بشعر آخر كما هو معروف بالباروكة، والتفليج : توسيع المسافة بين الأسنان بالمبرد طلباً للجمال وإيهاماً بصغر السن، وتبتيك الآذان : إحداث شق في أذن البهيمة. وهي كلها ممنوعة شرعاً (باستثناء بعص أشكال الوسم في غير الوجه)

          [7] سورة العلق – آية 6-7

          [8] سورة التين – آية 4

          [9] سورة الإنفطار – آية 6-7

          [10] سورة المؤمنون – آية 14

          [11] سورة النساء – آية 119- 120

          [12] سورة الشورى - آية 49-50

          [13] سورة النحل – آية 58-59


          يا حي يا قيوم
          برحمتك أستغيث
          أصلح لي شأني كله
          ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
          اللهم آمين
          ربِّ اشرح لي صدري
          ويسر لي أمري
          واحلل عقدة من لساني
          يفقهوا قولي
          اللهم آمين

          اللهم اروي قلبي بالإيمان
          من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
          http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

          تعليق


          • Font Size
            #6
            حادي عشر: الزجر والردع عن اقتراف المعاصي :

            فلقد بينت الاستقصاءات الطبية أن نسبةً من الأمراض والتشوهات الخلقية التي تصيب الجنين تكون ناجمةً عن إصابة الحامل ببعض الإنتانات أو الأمراض الجرثومية أو الحُموية[1]، وإن بعضاً من هذه الأمراض يكون منتقلاً عن طريق ممارسة الجنس ويكون انتشاره وسرايته ناجماً عن العلاقات الجنسية المحرمة، وأضرب مثالين اثنين في هذا المقام:

            أولاً: الزُهري أو الإفرنجي (السفلس ):
            فهذا المرض الجرثومي البشع من أكثر الأمراض المنتقلة عبر الجنس، وإن إصابة الحامل به تُعرض الجنين إلى الإصابة بمختلف الاعتلالات الخلقية نتيجة إصابة الجنين بجرثومة الزهري أثناء الحمل مما يؤثر على سلامة الجهاز العصبي والدموي والعظمي مما يسبب اضطرابات صحية شديدة للوليد وللطفل من ثمَّ ، وقد لا تستجيب كل هذه الأعراض للعلاج.

            ثانيا: مرض نقص المناعة المكتسب المعروف بـ "الأيدز" :
            وهذا الوباء المستشري اليوم ما هو إلا عقاب من الله تعالى لقومٍ تنكست فطرتهم وأوغلوا في ما دون البهيمية متخذون من الشذوذ الجنسي منهجاً لحياتهم تترفع عنه أحطُّ البهائم قدراً، ولقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع من العقوبة فعن عبد الله بن عمر قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"[2] ، ولقد أصبح هذا الوباء من أخطر الأمراض انتشاراً في العالم ، وإن الحامل المصابة بهذا المرض تنقله إلى جنينها مما يؤدي إلى إصابته الخلقية بهذا المرض مما يؤدي – إضافةً إلى خلل الجهاز المناعي للجنين وللطفل من ثمَّ – إلى التأثير على نضج وسلامة أعضاء الجسم كالجهاز العصبي وغيره.
            وهكذا فمن حكمة الله تعالى في شهود هذين المرضين وغيرهما عند الوليد ارتداع الناس عن اقتراف جريمة الزنا والشذوذ الجنسي التي تترافق بانتشار هذه الأوبئة والأمراض الخبيثة عافانا الله وإياكم منها.
            ومن جهةٍ أخرى، فإن بعض الأمراض والتشوهات الخلقية تحدث عند الجنين نتيجة التعرض للسموم والقاذورات عن طريق تعاطي الحامل لها، كالمخدرات والخمور ونحوها، ولكم كنا نشاهد في الولايات المتحدة الأمريكية من إصابات الولدان الخلقية نتيجة تعاطي الأمهات للكوكائين والخمر وغيرها من السموم [3]، ولقد وصفت المراجع الطبية في السنوات الأخيرة حالة تسمى " متلازمة الطفل الكحولي" حيث تُصاب أجنة الحوامل اللواتي يرتكبن جريمة شرب الخمر بنقصٍ في نمو الدماغ والرأس والجسم وإصابة القلب والهيكل العظمي باعتلالات خلقية مختلفة مع نقص ذكاء هؤلاء الأطفال المصابين بهذه المتلازمة التي ما هي إلا جريمة نكراء ترتكبها الحامل في حق ربها ونفسها وطفلها ومجتمعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فمن حكمة الله تعالى أن يشاهد الناس هذه الأمراض والاضطرابات الخلقية الناجمة في الحقيقة عن مخالفة أمر الله وتعدي حدوده، بل قد تكون الإصابة بهذه الأمراض الخلقية عند الجنين مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى بهذه الحامل العاصية لله إذا ما أفضت مشاهدتها وتدبرها في مصابها بطفلها إلى توبةٍ نصوح تجبُّ ما قبلها فيكون هذا الابتلاء في الدنيا خير لها من أن تطعم طينة الخبال [4] التي توعد الله تعالى بها من عاقر الخمر في الدنيا؛ ورب معصيةٍ أورثت بالتوبة ذلاً وانكساراً خير من طاعةٍ أورثت عُجباً وافتخاراً، فحكمة الله تعالى في استخراج توبة عبده بما يورثه ذنبه من ابتلاء وذل وخضوع لله تعالى من أعظم حكمه سبحانه وتعالى في هذا المشهد.
            ولا يفوتني هاهنا التنبيه على سمٍ آخر يُعرض كثير من الآباء والأمهات أجنَّتهم وأطفالهم له ألا وهو التبغ أو الدخان حيث إن تعاطي الحامل – أو من حولها – لهذا المحرَّم يؤذي جنينها ويؤدي إلى نقص نمو الجنين ويؤثر على سلامته بما يحدثه من تأثيرات على الأوعية الدموية المشيمية المسؤولة عن تغذية الجنين ووظائفه الحياتية المختلفة.
            ولكأن الحال في مشاهدة هذه الأمراض الخلقية الناجمة عن معصية الله تعالى أن الله تعالى ينبهنا إلى عواقب هذه المعاصي في الدنيا حيث الضنك والابتلاء بالمكروه، فما بالنا بعقوبة الآخرة وعذابها؟ لا جرم أن هذه العقوبات الدنيوية ليست بشيء أمام عقوبة الآخرة، قال تعالى :" كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون"[5]، بل انظر إلى نكتة لطيفة هنا وهي كون هذه الأمراض الخلقية الناجمة عن المعصية أمراض وآفات دائمة وكأنها إشارة إلى الوعيد بعذابٍ دائمٍ في الآخرة، فتنبه لهذا فإنه دقيق جداً.


            [1] نسبةً إلى الحمات الراشحة ، أو ما يعرف بالأجنبية بـ "الفيروسات"

            [2] سنن ابن ماجه – حسنه الشيخ الألباني

            [3] وإن هؤلاء القوم لا يهنأ لهم بال حتى ينفثوا سمومهم هذه في مجتمعاتنا وبين ظهرانينا لتنتشر الفاحشة فينا كما انتشرت فيهم وتنتشر الأمراض الخبيثة فينا كما انتشرت فيهم ويأخذنا الله بعذاب كما يوشك أن يأخذهم، فتنبه!

            [4] طينة الخبال عصارة أهل النار توعد الله شارب الخمر أن يسقيه إياها والعياذ بالله

            [5] سورة القلم – آية 33


            يا حي يا قيوم
            برحمتك أستغيث
            أصلح لي شأني كله
            ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
            اللهم آمين
            ربِّ اشرح لي صدري
            ويسر لي أمري
            واحلل عقدة من لساني
            يفقهوا قولي
            اللهم آمين

            اللهم اروي قلبي بالإيمان
            من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
            http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

            تعليق


            • Font Size
              #7
              المطلب الثاني: الأمراض الكسبية أو التنكسية:

              بعد ولاد الطفل سليم الخلق بريئاً من الآفات والاعتلالات الخلقية فإنه يبقى عرضةً لزمرةٍ أخرى من الأمراض هي الأمراض الكسبية. وتنقسم هذه الأمراض الكسبية إلى أمراض مكتسبة عابرة تتظاهر بآلام وأعراض داءٍ معين ثم لا تلبث أن تزول بإذن الله بعد أن يبرأ الداء فيعود الطفل إلى حالته الطبيعية، وأمراض مكتسبة مترقية تؤدي إلى تنكس وتدهور وتراجع متدرج ومستمر في صحة الطفل وتطوره الروحي الحركي وقد تفضي إلى تراجعٍ شديد في صحة الطفل تتعطل معه معظم الوظائف والأنشطة الطبيعية للطفل، بل قد تنتهي بالوفاة في سن صغيرة نسبياً.
              فما هي الحكم والعبر المستفادة من شهود آلام الأطفال الكسبية سواء أكانت عابرةً أم مترقية بعد أن تم خلقهم سليماً وقرَّت بذلك عينا والديهم؟

              أولاً: استخراج عبادة الدعاء عند الوالدين:

              إن سلامة الطفل وصحته كثيراً ما تؤدي بالأهل إلى الغفلة عن شكر الله والتضرع إليه سبحانه بإدامة هذه النعمة، فكان من فضل الله تعالى وحكمته أن جعل بعض الابتلاءات العابرة منبهةً للغافلين لتستخرج منهم عبادة الدعاء والتذلل والخضوع لله سبحانه، وانظر على سبيل المثال ما رواه الإمام البخارري في صحيحه تحت باب "من ذهب بالصبي المريض ليُدعى له" حيث روى عن الجُعيد قال: سمعت السائب يقول: ذهبَت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :" يا رسول الله إن ابن أختي وَجِع" . فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ، ثم توضأ فشربت من وضوئه ، وقمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة.[1]
              فتأمل هذا الحديث العظيم وانظر إلى تلك المآلات الحسنة التي ترتبت على وقوع المرض والألم بهذا الصبي من استخراج عبادة الدعاء عند خالته القائمة على شأنه والتوسل بدعاء الصالحين الأحياء [2] والتعرض بالصبي إلى مجالس الصالحين وما يترتب على ذلك من بركة وخير عظيم.
              والحاصل هنا أن المرض والألم تذكرة لتلك النعمة المغبون بها الأهل ألا وهي نعمة الصحة والعافية في أولادهم، ومن فاته تدبر هذا الأمر فاته خيرٌ عظيم، ونفع عميم فليتنبه.

              ثانياً: ترقيق قلوب العباد واستخراج الرحمة الكامنة فيها:

              وليس أحد قد رأى طفلاً مريضاً متألماً إلا وهو يدرك هذه الحكمة إن كان سليم الفطرة يقظ الحس والشعور، ومن منا لا تتفطر كبده لمشاهدة ألم طفلٍ صغير أو معاينة بلائه؟ وكم من أناسٍ قد قست قلوبهم وتحجرت لا تكاد ترى منهم أي مظهر من مظاهر الشفقة أو الرحمة يقصرون تعاملهم مع الغير على الغلظة والشدة، حتى إذا أصيب ولده ببلاء أو صرخ صرخة ألم وجدته قد خارت قواه وانهار كبرياؤه وأخذ يتلفت يمنةً ويسرة باذلاً الغالي والنفيس لمن عساه يخفف من ألم ولده شيئاً. هذا فيمن عادته الغلظة والقسوة، فما بالك بالمؤمن مرهف الحس رقيق القلب، وما بالك بالصالحين والفضلاء وهم يعاينون هذا المشهد؟ وإنني أدعو نفسي وإياكم إلى تأمل هذا المشهد النبوي بما فيه من أسوة حسنة خيِّرة حيث روى أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها – أو ابناً لها – في الموت. فقال للرسول:" ارجع إليها فأخبرها : إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى ،فمُرها فلتصبر ولتحتسب". فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها. قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم، فرُفع إليه الصبي ونفسُتقعقع كأنها في شنَّة[3]، ففاضت عيناه . فقال سعد: ما هذا؟[4] يا رسول الله. قال: "هذه رحمة جعلها في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"[5]
              فأنت ترى في هذا الحديث اختلاف تأثر النبي صلى الله عليه وسلم – وهو أرأف وأرحم الناس بأمته – فلم تفض عيناه لسماع الخبر كما فاضت لمعاينة الصبي وهو يعاني ألم الموت، فلله تعالى حكمته في استخراج هذه الرحمة من قلوب العباد والتظاهر بما لا يُغضب الله عز وجل من مظاهر الشفقة، ولولا أمثال هذه الابتلاءات لظلت هذه الخصلة الطيبة كامنةً ساكنةً في قلوب العباد لا يُرى لها أثر في تعاملهم مع الغير، فتأمل هذه الحكمة فإنها جليلةٌ جداً.

              ثالثاً: تجريد استعاذة العبد بالله والتجائه إليه:
              فالمرض من الأمور التي لا يستطيع المرء دفعها ولا يستطيع الخلاص منها إلا بالتجاء تام إلى الله تعالى واستعاذة به تعالى من وقوعها ومن شرها بعد وقوعها. ولئن كان حال المرء كذلك مع نفسه، فإن هذا اللجوء إلى الله تعالى يكون أشد حاجةً عند العبد الذي يخشى على ولده أثر مرضٍ أو داءٍ أو مصيبة، فإذا بمشاهدة هذه الابتلاءات التي تصيب الأطفال تدفع بالعبد إلى مزيد تضرع والتجاء إلى الله تعالى حمايةً لولده ووقايةً له من هذه المصائب، وانظر إلى حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامَّة ومن كل عينٍ لامَّة، ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوِّذ إسحاق وإسماعيل عليهم السلام.[6]، قلت: فإن شهود هذه الابتلاءات التي قد تصيب الطفل في أي وقت وساعة حريٌ بأن يدفع العبد إلى مداومة الاستعاذة بالله تعالى منها، ويالها من عبودية رائعة نسأل الله تعالى أن يبلغنا أعلى مراتبها.


              رابعاً: عدم الركون إلى حال القوة والشباب:

              لقد جرت سنة الله الكونية في خلق الإنسان أن يسير عبر مراحل متدرجة من الضعف فالقوة فالهرم كما بينت ذلك بتفصيل دقيق الآية الكريمة من سورة الحج:" يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغةٍ مخلَّقة وغير مخلَّقة لنبيِّن لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يُتوفَّى ومنكم من يُردُّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً"[7]؛ فهذه المراحل المتدرجة تمثل سنة الله تعالى الكونية التي تعوَّدها الناس، وقد تستقر مشاهدة هذه العادة الجارية في أذهان الناس إلى حدٍ يوهم بحتميتها، ويتطلع الناس إلى سن الطفولة على أنها سن ازديادٍ في القوة والنماء والصحة، تليها سن الشباب واكتمال الأشُد والجسد في نماءٍ والقوة في ازدياد، وينسى – أو يتناسى – هؤلاء ما يلي ذلك من موتٍ مبكر أو طول عمر وتنكيسٍ في الخلق يعود فيه الإنسان إلى مظاهر ضعفه كما قال تعالى :" الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير"[8] ، والحاصل أن الناس قد يركنون إلى طور القوة وبلوغ الأشد بل قد يركنون إلى طور الطفولة باعتباره طور ترقٍ نحو الأفضل، فكان لا بد من تنبيه الغافلين وزجرهم عن الركون والطمأنينة إلى سببٍ دنيوي زائلٍ عارض والانتباه إلى أن عوارض الموت والانتكاس وإن جرت العادة بتأخرها إلى سن الهرم كما قال تعالى:" ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون"[9] إلا أن هذه العوارض قد تتلبس بالأطفال واليافعين لتتحقق – بحكمة الله – الغاية من تنكيس الخلق وهي "أفلا تعقلون"؛ قال الحافظ ابن كثير في معناها:"أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خُلقوا لدارٍ أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها وهي الدار الآخرة"[10]. قلت: فإذا ما غفل الناس عن التدبر في هذا كان من حكمة الله تعالى أن يصاب بعض الأطفال وصغار السن بأمراض تؤدي إلى تنكس خلقهم وعودتهم إلى حالة الضعف والوهن بعد أن يكونوا قد تسلقوا درجاتٍ عديدة في سلم التطور الروحي الحركي، فإذا بالطفل بعد أن زحف وقام ومشى ونطق وركن الأهل إلى سلامة الجسد ويفعان الشباب إذا بمشهدٍ غير متوقع وعوارض ليس الطفل محلاً لها في العادة وفي عرف الناس ومشاهداتهم لتقول بلسان الحال: إن وراء هذا الخلق وهذه الأطوار وهذه القوة بعد الضعف والضعف بعد القوة خالقاً متصرفاً يشاء فيكون ولا يكون إلا ما يشاء. ولكأني بمشهد التنكس والضعف المبكر هذا بعد اطمئنان المرء إلى ظهور بوادر الصحة والسلامة واشتداد قوى الطفل واليافع شبيه بهذا المشهد القرآني العجيب:" إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس كذلك نفصل الآيات لقومٍ يتفكرون"[11]، وليس المقصود هنا أن هذه الأمراض تمثل عقوبةً إلهية في كل حال ولكل أحد، وإنما المقصود هو ما وجَّهت إليه الاية الكريمة؛ التفكُّر والتدبر:"كذلك نفصل الآيات لقومٍ يتفكرون"..
              ثم انظر إلى العبودية التي تُستخرج بمعاينة هذا المشهد وتدبُّر هذه الفكرة، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو :" أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات"[12]، وإن هذا الدعاء ممن عاين هذه الابتلاءات ورأى أثرها في الناس ليس كدعاء من لم يعاينها. وانظر إلى أشد غرابةً مما تقدم وهو أن بعض الأمراض النادرة جداً تصيب الأطفال بحالة من الشيخوخة المبكرة، فترى الطفل وهو في سنوات عمره الأولى لم يتجاوز أربع أو خمس سنين وقد ظهرت كل معالم الشيخوخة والهرم عليه سواءٌ أفي مظهره الخارجي أم في أعضائه الداخلية - كالقلب والشرايين ونحوها – حتى تكاد تجزم أن من أمامك شيخٌ طاعنٌ في السن لا طفلٌ صغير، ولقد شاهد كاتب هذه الأسطر بعضاً من هذه الحالات ، فسبحان الله تعالى ما أعظم قدرته وأكمل حكمته، ولكأني بلسان حال هؤلاء الأطفال يخاطب الناس: يأيها الغافلون الراكنون إلى صغر سنهم وصحة أجسادهم وبُعدهم عن الهرم وعن الشيخوخة وعن أرذل العمر انظروا إلى حالنا؛ ها نحن أطفال وقد تلبست بنا الشيخوخة وتنكست أجسادنا ولم يشفع لنا صغر سننا، فإلام تركنون وأي شيء تنتظرون من هذه الدنيا الفانية، أي شيء؟



              [1] صحيح البخاري – باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له

              [2] يجوز التوسل بدعاء الصالحين من الأحياء أما الأموات فلا يصح التوسل بهم، أما سؤال الأموات فشرك نعوذ بالله منه

              [3] كناية عن حشرجة الموت

              [4] استشكل على سعد أن دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاناً أنه من البكاء الممنوع شرعاً ، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مشروع وما هو ممنوع

              [5] صحيح مسلم

              [6] أخرجه الترمذي

              [7] سورة الحج – آية 5

              [8] سورة الروم – آية 54

              [9] سورة يس – آية 68

              [10] تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – تفسير سورة يس

              [11] سورة يونس – آية 24

              [12] صحيح البخاري ومسلم


              يا حي يا قيوم
              برحمتك أستغيث
              أصلح لي شأني كله
              ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
              اللهم آمين
              ربِّ اشرح لي صدري
              ويسر لي أمري
              واحلل عقدة من لساني
              يفقهوا قولي
              اللهم آمين

              اللهم اروي قلبي بالإيمان
              من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
              http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

              تعليق


              • Font Size
                #8
                فصل: موت الأطفال:

                عمد الغربيون بسفاهتهم إلى تصنيف حالةٍ مرضية مزعومة تحت مسمى " متلازمة موت الأطفال المفاجئ"، وكأن الموت عند غير الأطفال يكون عن سابق موعد أو وفق تحضير يتناسب مع برنامج المتوفَى ومواعيده الخاصة، وعزف أولئك السفهة عن قول الله تعالى:" وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت"[1]، والحقيقة أنهم يفرون من الموت في الصغر كما يفرون منه في الكبر، ولكن أين المفر؟! إلا أنه رغم بدهية حقيقة الموت لكل نفسٍ منفوسة كبيرةً كانت أم صغيرة، صحيحةً أم سقيمة، فإن موت طفل لا يزال يشكل صدمةً أشد تأثيراً في النفوس من موت كهل أو شيخٍ كبير، وكأن هذا التأثير هو عين الحكمة المرادة من موته. ويبقى من الأهمية بمكان أن يستحضر المرء هذا الاحتمال ويتهيأ له ليكون أقدر على مواجهته بنفسٍ مطمئنةٍ صابرة، فالصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى كما تبين لنا سابقاً.
                ولعل من حكمة الله تعالى فيما يبتلي به الآباء والأمهات من إصابة بعض الأطفال باعتلالات وأمراض قد تفضي – بعد تدهورٍ تدريجي – إلى الموت أن يستحضر الأبوان هذا الأمر بحيث يتهيآن لاستقباله إذا ما قضت إرادة الله تعالى به، ولعل ما يتهيأ للأبوين من تحضير نفسي ومعنوي لاحتمال موت ولدهم نتيجة مرضٍ مترقٍ أدعى لتلقي صدمة الموت مما لو لم يتهيأ مثل هذا التنبيه، وأعود فأقول إن الله تعالى أدرى بنا وبمن يصلح له هذا التنبيه المتدرج ممن لا يصلح له، فلنسلم هذا الأمر لله تعالى ونوقن أن ما اختاره الله تعالى لنا هو الأصلح لأنفسنا وديننا، فرب أم لو مات لها ولد دون مقدماتٍ من مرض ونحوه لم تطق هول الصدمة، ولو أن موت ولدها تقدمه مرضٌ متدرج لكانت أحسن حالاً ومآلاً لها فتكون إصابة ولدها بمثل هذه الأمراض نعمةً كبيرة، وهكذا.
                وعلى أية حال فإن موضوع موت الأطفال المصابين بأمراض معضلة تنكسية ومترقية يتناوله أمران أتوجه بأحدهما إلى الأهل وبالآخر إلى الأطباء المشرفين على علاج ومتابعة هؤلاء الأطفال فأقول وبالله التوفيق:
                أما رسالتي إلى الأطباء فهي التخلص من نزعة تحديد "العمر المتبقي" للطفل أو الفترة المتبقية من حياته، فتارةً يُقال للأهل إن طفلكم لن يعيش أكثر من ستة أشهر ، أو يقال إنه لن يعيش أكثر من سنة أو أنه سيموت خلال سنتين أو نحو ذلك من التخرُّص والقول على الله بغير علم؛ نعم إن بعض المعلومات الإحصائية قد تشير إلى حدوث الوفاة في إطارٍ زمني معين منذ بداية مرضَ ما، ولكن هذه معلومات إحصائية عامة مبينة على أحداثٍ ماضية وعلى معلومات مرضى سابقين قضوا بهذ المرض، ولا يمكن تطبيق هذه الإحصائيات على الأفراد بدقة كما لا يمكن التنبؤ بالغيب المتعلق بمدة حياة طفل بعينه بناءً على هذه المعلومات أو غيرها.وأنا أتحدى أن يحدد لنا أي طبيب في العالم ساعة وفاة طفلٍ بل أي شخص مهما كان علمنا بطبيعة مرضه وأحوال المرضى المصابين بهذا المرض. وأقول لكل طبيب وطبيبة إن تشخيص طفل بمرضٍ عضال أو حالة مرضية مستعصية أو عالية الخطورة لا يلزم منه البتة حتمية الموت في خلال فترةٍ محددة، كما أن هذه النسب والإحصاءات الطبية عن زيادة نسبة الوفاة بالمرض الفلاني أو غيره هي معلومات قائمة على ما مضى لا على ما يُستقبَل، وهي معلومات يُنظر إلى مجموعها لمتابعة حالة المجتمع ككل ومدى استجابة بعض الأمراض والأوبئة لمداخلات أو خطط علاجية معينة لتستنير بها مسيرة العمل الطبي، ولا يصح أن نستخدم هذه المعلومات العامة لنطبقها على الأفراد ونقتحم واهمين عالم الغيب لنقول على الله ما لا نعلم ولنتكلم بما لا نفهم. وليكن شغل الطبيب الشاغل الاجتهاد في تقديم علاجٍ إن عُرِف أو تطمين الأهل إلى استفراغ الوسع في مساعدة الطفل والأخذ بالأسباب ليرفع بذلك الحرج والملام والشعور بالتقصير الذي قد يعتري الأهل أحياناً حيث يطاردهم هاجس عدم تقديم "كل ما يمكن" للطفل، ويا ليتنا نقتدي في هذا بحديث المعصوم صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"[2] فأي خير في أن تقول لأم إن ابنك سيموت بعد شهرين،وأي خير في تحطيم أمل أب قد يموت قبل ابنه وهو متعلقٌ برجائه بالله سبحانه ودعائه لهذا الولد،أي خير؟
                ولا يعني هذا أن نمني الأهل بأماني كاذبة، وإنما أشير إلى ضرورة التوقف عن تحديد مدى زمني محدد للموت، ولا يمنع ذلك من بيان أن مثل هذه الأمراض تؤدي عادةً للموت، ولكن نتوقف عند ذلك، والله تعالى أعلم.
                وأما رسالتي إلى الأبوين العزيزين فهي الصبر والتصبُّر والاحتساب، ثم هذه البشارة العظيمة التي رواها الإمام البخاري في صحيحه في باب فضل من مات له ولد فاحتسب، وقول الله عز وجل :"وبشِّر الصابرين"[3] عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما من الناس مِن مسلم يُتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"[4] ، وإليك أيتها الأم الصابرة حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا يوماً، فوعظهنَّ فقال: "أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجاباً من النار" قالت امرأة: واثنان؟ قال:"واثنان"[5]
                بل تأملا أيها الأبوين في هذا الحديث عن أبي سنان قال: دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخلاني جالسٌ على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟[6] فيقولون : نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ . فيقولون: حمدك واسترجع[7]. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيت الحمد[8].
                وأود أن اشير إلى مسألةٍ لطيفة هاهنا في هذا المجال وهي ما يُبتلى به بعض الأزواج من إصابة بعض أطفالهم ببعض الأمراض الوراثية التي تؤدي إلى الوفاة في سنٍ صغيرة، وإن بعضاً من هذه الأمراض قد يتكرر احتمال الإصابة بها بنسبة عالية في الأحمال التالية مما قد يدفع بالزوجين أحياناً إلى التردد في موضوع الإنجاب في المستقبل خشية تكرار حدوث المرض في ذريتهم اللاحقة[9]، وما أريد التوجيه إليه هاهنا أن هذه الأحاديث المتقدمة والبشارة النبوية العظيمة بالستر من النار لمن قدم ولدين أو ثلاثة محتسباً الأجر عند الله تعالى تشكل مصدر اطمئنان وسكينة في نفس الزوجين حريٌَّ بألا يدع أي مجالٍ لشك أو تردد أو حيرة أو قلق بالنسبة للإنجاب والأحمال اللاحقة؛ لأنه إن حدث حمل جديد فإما أن يمنَّ الله تعالى على الزوجين فيرزقهما طفلاً سليماً فبها ونعمت، وإما أن يتحقق احتمال تكرار المرض فيكون الطفل الجديد مصاباً أيضاً بنفس المرض الذي قضى به الولد السابق فيكون رصيداً للأبوين يقدمانه محتسبَين فيصلوا إلى تقديم عددٍ من الأولاد يسترهم من النار ، وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم حيث قال:" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[10]، وأما الأطفال فلا يصيبهم في نهاية المطاف إلا رحمة من الله تعالى كما في الحديث المتقدم:"بفضل رحمته إياهم"[11]. وبناءً على هذا أقول – وبالله التوفيق – إنه إذا كان للتشخيص ما قبل الولادة لبعض الأمراض الوراثية أو الخلقية غاية علاجية ينتهي إليها – سواءٌ أكان للجنين أو للأم الحامل - فلا إشكال البتة في تحديد هذا التشخيص بل قد يجب إن كان في إهماله إضرارٌ بالحامل أو الجنين، واما إذا كان التشخيص ما قبل الولادة لتحري مرضٍ لا علاج له وليس من هدفٍ وراء التشخيص قبل الولادة إلا الرغبة في المعرفة، فلعل الأحرى بالأبوين أن يسلما أمرهما إلى الله تعالى ويغتنما مرحلة الحمل في التفاؤل بالخير وترقُّب هبة الله سبحانه وتعالى أياً كانت، واحتساب ما قد يكون من ابتلاء بشر واستعداد للشكر على ما قد عساه يكون من ابتلاء بخير، والله تعالى أعلم.
                وهكذا يكون الفوز بالستر من النار ، فهنيئاً لك أيها الأب الصابر وهنيئاً لك أيتها الأم الصابرة المحتسبة، وبشراكم قوله تعالى:" كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"[12]، فإذا كانت وفاة الطفل قدراً مقدوراً فلتكن مناسبةً لهذا الفوز العظيم؛ رحمة للطفل ورحمة للأبوين، وأما الدنيا فأمرها إلى زوالٍ في كل حال فلا يُبكى عليها، ولا يتوهمنَّ أحدٌ البتة أن ما قد عساه الطفل يقاسيه من ألم وشدة وموت ينافي رحمة الله أبداً والله، وحسبك ما رواه البراء رضي الله عنه قال: لما تُوفي إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن له مرضعاً في الجنة"[13]، فأي ألم وأي معاناة تُذكر إذا كانت المحطة المرتقبة في رياض الجنة!


                [1] سورة لقمان – آية 34

                [2] صحيح البخاري ومسلم

                [3] سورة البقرة – آية 155

                [4] صحيح البخاري

                [5] صحيح مسلم

                [6] السؤال من الله تعالى للتقرير لا للاستفهام فهو تعالى أعلم من ملائكته بما يسألهم عنه، كما أن في هذا التقرير نوع من مفاخرة الله تعالى ملائكته بعباده من بني آدم، فليتنبه.

                [7] استرجع: أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون

                [8] رواه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب

                [9] وللأمر تفصيلات فقهية يُرجع إليها في مظانها

                [10] صحيح مسلم

                [11] سبق تخريجه – هامش 73

                [12] سورة آل عمران – آية 185

                [13] صحيح البخاري


                يا حي يا قيوم
                برحمتك أستغيث
                أصلح لي شأني كله
                ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                اللهم آمين
                ربِّ اشرح لي صدري
                ويسر لي أمري
                واحلل عقدة من لساني
                يفقهوا قولي
                اللهم آمين

                اللهم اروي قلبي بالإيمان
                من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                تعليق


                • Font Size
                  #9
                  فصل: مرض الموت وسكراته:

                  إننا مع إقرارنا وتسليمنا التام بأن لحظة الموت غيبٌ لا يعلمه إلا الله تعالى ندرك مما هو مشاهد ومعروف أن للموت أمارات وأن ما تعارف عليه سلفنا الصالح من تسمية " مرض الموت" حق، وأن للموت سكرات – كما ذكر المعصوم صلى الله عليه وسلم - يعرفها من دنت ساعته والذين يحيطون به من أهل وأصحاب. ولعل استشعار قرب الموت يكون أكثر ظهوراً عند من يُصاب بمرضٍ عضال أو مرضٍ مزمن طال أمده وظهرت مضاعفاته بصورةٍ تُشعر بدنو الأجل، ولا يخرج الأطفال عن ذلك.
                  ولا شك أن هذه المرحلة من أصعب المراحل وأشقها على الأهل الذين يعاينون أمارات وسكرات مرض الموت عند طفلهم. فهل لمرض الموت وسكراته حقيقة شرعية ؟ وهل للمبتلى بذلك آداب وضوابط تحافظ على عبوديته لله تعالى في حالة شديدة الابتلاء كهذه؟ وماذا يفعل الأهل تجاه الضغوطات التي قد يواجهونها سواءٌ أكانت من المجتمع أم الفريق الطبي المعالج أم التصورات الفكرية الغريبة عن ديننا التي تفِد علينا من حملة روافد الاختراق الغربي؟
                  أما سكرات الموت فحقيقة حسية وشرعية كما في قوله تعالى :" حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون"[1]، وقوله تعالى:" أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون"[2] وكما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في موته فقال:" لا إله إلا الله إن للموت سكرات"[3]، فهذه النصوص الشرعية صريحة في ذكر حضور الموت وحالة الموت وسكرات الموت، ولن أفيض في تفصيلات هذا الأمر وإنما أردت تقرير الأمر لنمضي على بينة إن شاء الله تعالى.
                  أما حين يصل المرض المزمن والمستعصي على أنواع العلاج المعروفة إلى حدٍ تتدهور فيه حالة الطفل وتبدأ عجلة ترقي المرض بالتسارع فإنك تجد الأبوين في حالةٍ شديدة قد يشوبها مزيج من القلق والشعور بالعجز أو الحيرة، فهم ما بين القيام بما يحتاجه طفلهم من تخفيف ألم أو شدة واحتمال حاجته لمداخلات علاجية لا تغيُّر من حقيقة المرض شيئاً - كأجهزة الإنعاش ونحوها- وبين مختلف آراء الأطباء والوازع الديني الذي يتحرى القرار الذي يرضي الله عز وجل، ولعمري إنها لحالةٌ شديدة، وإنه لمن الخطورة بمكان أن ندع الإجابة على هذه الأسئلة لفكرٍ غربيٍ وافد أو آراءٍ شخصية غير منضبطة بالدليل الشرعي.
                  ولسوف أحاول فيما يلي تناول بعض هذه المسائل الشائعة في صيغة سؤال وجواب عسى أن تكون عوناً للأهل في اتخاذ القرار الصحيح المناسب لطفلهم ضمن إطار الشريعة الغراء، وما توفيقي إلا بالله:

                  سؤال : هل يجوز أن أتمنى الموت لطفلي المصاب بمرضٍ مزمن شديد ، سواء أكان للمرض تأثير على وعي الطفل وشعوره أم لا، علماً بأننا قد استوفينا كل الأسباب العلاجية الممكنة ؟

                  جواب: إن من كمال شريعتنا الإسلامية الغراء أنها لم تدع أمراً من أمور الدنيا والآخرة مما فيه صلاحٌ لنا إلا وبينته وفصَّلته. ولقد أثبت القرآن الكريم لنا قاعدةً ثابتةً راسخة هي الأساس في التعامل مع قضاء الله وقدره ألا وهي قوله تعالى:" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"[4] ، ثم جاءت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بتفصيلٍ وبيان عملي للإجابة على هذا السؤال تحديداً؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يتمنينَّ أحدكم الموت من ضرٍ أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"[5]، قال الحافظ ابن حجر: وهذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيَّد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمني المطلق نوع اعتراضٍ ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويضٍ وتسليم للقضاء"[6]
                  فعلى الأبوين حين يظنان أن في حياة طفلهما نوع معاناة وشدة أن يحذرا من الوقوع في مصيدة الشيطان فيتمنى أحدهما أو كلاهما الموت لطفلهما مطلقاً دون مراعاة الأدب مع الله عز وجل، بل يكون الأمر – كما وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم – التجاءً وتضرعاً إلى الله مع تفويض وتسليم لحكمة الله عز وجل، فلا مانع عندذاك من أن يردد الأبوان هذا الدعاء بهذه الصيغة المنضبطة مع تحرير دقيق للنية وتحري عدم تلبُّس القلب بأي نوع اعتراض على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، والله تعالى أعلم.

                  سؤال: بعض الأطباء يشيرون إلى التطور الإنساني والعلمي في البلاد الكافرة المتقدمة علمياً، وأن من مظاهر الرحمة والإنسانية عند هذه المجتمعات أن نريح الطفل المصاب بمرضٍ شديد أو تشوه خطير فنساعده على الموت فيما يسمى " قتل المرحمة"، فهل هذا جائز في الإسلام؟

                  جواب: إن هذا في حقيقته قتل مظلمة لا قتل مرحمة، وإن الرحمة كل الرحمة فيما أمر الله تعالى به لا فيما نهى عنه ولا ما جاءت به عقول قاصرة وفطرٌ منتكسة جعلت إزهاق روح آدمي عملاً رحيماً بهذه النظرة المنحرفة، وإن الله تعالى لهو أرحم بعبده المريض من هؤلاء المعتدين على حدود الله سبحانه وتعالى، ولقد قال عز وجل :" ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً"[7]، وعن جندب بن عبد الله البُجَلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح، فأخذ سكيناً نحر بها يده فما رقأ[8] الدم حتى مات. قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، حرَّمت عليه الجنة"[9]، فما بال العبد إذاً يسيء الأدب مع خالقه ويتطاول على ربه عز وجل، وما بالنا نصغي سمعنا لمن حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والخلاصة أن أي عمل يؤدي إلى تسريع وفاة الطفل أو المساهمة في موته مساهمة مباشرة فيما يدعى زوراً بهتاناً بقتل المرحمة حرام بل وكبيرة من الكبائر والعياذ بالله[10]، وحسبك رادعاً وزاجراً أن الله تعالى قد رد بنفسه القدسية على ذلك المجترئ وتوعده بالحرمان من الجنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

                  سؤال: إن الطفل المصاب بمرضٍ عضال مزمن أو بتشوه خلقي قد يعاني من شدة المرض وآلامه الشيء الكثير، فما ذنب هذا الطفل، وكيف أتصرف تجاه شعوري بالمعاناة لأجله؟

                  جواب: لقد بيَّنا ووضحنا سابقاً أن الطفل غير مكلف، ولذلك فإن إصابته بالمرض والألم والشدة ليست ابتلاءً له ولا عقاباً له لأنه ليس محلاً لذلك ما لم يبلغ مرحلة التكليف، وإنما يتوجه الابتلاء بالخير أو الشر الذي يصيبه إلى الأبوين، ولقد حررنا القول في هذا في فصل سابق فليرجع إليه.[11]
                  أما توجيه وضبط الشعور بالأسى تجاه المعاناة والشدة التي يعانيها الطفل وقد يستثقلها المرء عليه، فإني أقول – وبالله التوفيق – إن هذا الشعور إنما هو ناجمٌ عن عاطفة المحبة القوية والشديدة لهذا الطفل والولد، وهو شعور جِبِلِّي لا يؤاخذ عليه المرء ما دام منضبطاً بضوابط الشرع إن شاء الله، ولكي نخفف من وقعه وأثره على النفس ونضبطه بما يرضي الله عز وجل فحسب أحدنا أن ينظر إلى حال من هو أشد حباً في نفوسنا وأسمى وأعلى مكانةً في قلوبنا من أولادنا – بل وأنفسنا – ألا وهو المصطفي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[12]، فإذا تقرر هذا الحب فلينظر أحدنا كيف كان بلاؤه وشدة مرضه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ فعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم "[13] ، وعن الحارث بن سويد عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك ،فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً. قال :" أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال:" أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"[14]، قلت: فإذا تذكرنا شدة المرض والتوعك والألم الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحب خلق الله تعالى إلينا خفف ذلك عنا ما نعانيه تجاه ألم وتوعك من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم في المحبة، فتأمل هذا فإنه دقيقٌ جداً.
                  ومن جهة أخرى، فإن مشاهدة أثر الصبر على الأذى والبلاء في تكفير الذنوب والخطايا – وهي هنا ذنوب وخطايا الأبوين جزاء صبرهما على ابتلاء فلذة كبدهما – يعين على ضبط وتوجيه هذه المشاعر والعواطف بما ينفِّس الكرب من جهة، ولا يقدح في الرضا بقضاء الله عز وجل من جهة أخرى، والله تعالى أعلم.

                  سؤال : إن الطفل المصاب بمرض عضال أو مستعصٍ على أنواع العلاج المعروفة قد يصل إلى حدٍ شديد من العجز والتعطيل شبه التام لوظائف الدماغ والحركة والتواصل، ولا يتبقى سوى علاجات تسبب مضاعفاتٍ شديدة – كعلاجات بعض السرطانات – أو علاجات عرضية أو إنعاشية مساعدة لدعم أجهزة الطفل ووظائف البدن الحياتية (كالتنفس والنبض )، فهل يلزمني الاستمرار في هذه العلاجات لاسيما إذا كانت غير مجدية في علاج المرض الأصلي وقد تزيد من شدة الأمر على الطفل؟

                  جواب : لقد شرع الله تعالى التداوي لإزالة ضرر المرض وأثره، وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء"[15] ، وفي الحديث عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله أنتداوى؟ قال :"نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً – أو قال دواءً – إلا داءً واحداً" قالوا : يا رسول الله وما هو؟ قال:" الهرم"[16]
                  فأنت ترى هذه النصوص تشير إلى أمور منها :
                  1- جواز التداوي
                  2- لكل داء دواء – وإن لم نكن قد اكتشفناه بعد – إلا الهرم ، ولازمه الموت
                  3- إن ظاهر النصوص يشير إلى الأدوية الشافية التي تؤدي إلى برء المرض وزواله، وهذا ما يصطلح عليه اليوم بين الأطباء بالعلاج السببي أو النوعي.
                  وأحب أن أفصِّل قليلاً في مسألة نوع العلاج لأن له تعلقاً كبيراً بالإجابة على هذا السؤال؛ فالعلاج أو الدواء ينقسم عموماً إلى نوعين: علاج سببي نوعي وعلاج عَرَضي.
                  أما العلاج النوعي السببي فهو الدواء الذي يؤثر في سبب المرض الأصلي بحيث يؤدي تعاطيه بالطريقة الصحيحة إلى شفاء المرض بإذن الله تعالى، ومثاله ما يصيب المرء من إنتان ببعض الجرائيم فيعالج بالمضاد الحيوي المناسب الذي يقتل الجرثومة التي أصابت الجسم فيحصل الشفاء بإذن الله. ولعل هذا النوع هو ما تشير إليه نصوص الأحاديث المذكورة أعلاه.
                  وأما العلاج العَرَضي فهو لا يؤثر في سبب المرض ولا يؤدي إلى زواله وإنما يؤثر في بعض الأعراض الناجمة عن الداء فيخفف أثرها على المريض دون أن يستحصل شفاءً أو بُرءاً من الداء، ومثال ذلك الأدوية المخففة للألم أو الحمى فهذه تعطى لتخفيف أثر الحمى والألم المرافقين لكثير من الأمراض فيشعر المريض بالراحة إن شاء الله ولكنها لا تؤثر أبداً في حصول الشفاء من الناحية السببية. ويدخل في هذا النوع من العلاجات كل أنواع الأجهزة الطبية التي تعين بعض الوظائف البدنية المختلة كأجهزة غسيل الكلى وأجهزة التنفس وأجهزة أو أدوية مساعدة الدوران القلبي، فهذه ومثيلاتها كلها علاجات عرضية تخفف من أعراض المرض ومضاعفاته ولكنها لا تؤثر البتة في سبب الداء وبالتالي لا يمكن أن تكون علاجات شافية من الناحية السببية.
                  وأود التنبيه على فرقٍ مهم في هذه الناحية، وهو أن توجيه الشريعة إلى التداوي طلباً لبرء الداء وشفائه مجاله العملي هو العلاجات السببية، بحيث يكون تعاطي هذه العلاجات من باب الأخذ بالأسباب الذي لا ينافي التوكل بل هو من التوكل[17]ومن هنا كان الخطاب العام لعباد الله بطلب الدواء، أما العلاجات العرضية فمحل تأثيرها هو تخفيف شدة الداء وهذا يتعلق بقوة العبد وقدرته على الثبات فقد يستغني البعض عن العلاج العرضي مطلقاً وقد يحتاج إلى طلبه لقلة تحمله ولذا يُترك أمر طلب هذا النوع من العلاج إلى كل امرئ على حدة بحسب صبره وتحمله واستسلامه وانقياده لأمر الله عز وجل.
                  فإذا استعرضنا طائفةً أخرى من النصوص الشرعية ومنها حديث عكاشة – في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب – فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّناُ من هم :" هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون[18] وعلى ربهم يتوكلون"[19] فقد استدل بهذا الحديث على جواز ترك التداوي توكلاً على الله تعالى- ولعل هذا يُضبط بعدم جواز ترك ما في تركه ضرر محقق كتلف عضو أو نحوه- بل إن جواز ترك التداوي أشد صراحةً ووضوحاً في حديث المرأة السوداء، وأسوقه بأكمله لفائدته ولأنه أصلٌ عظيم في باب التداوي، فعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها.[20] قال الحافظ ابن حجر : وفيه – أي الحديث – جواز ترك التداوي.قلت: وهذا الحديث قويٌ جداً في هذا المعنى لأن الدواء الذي كان متوافراً لهذه المرأة – وهو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاء وهو القمين بأن يجاب بإذن الله – دواءٌ شافٍ بإذن الله ومع ذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم في تركه صبراً واحتساباً وطلباً للأجر بل للجنة، وهذا يدل من باب أولى على جوزا ترك الدواء إذا لم يكن شافياً للداء أو إذا لم يغلب الظن بتحقق الشفاء به، فإن تركه توكلاً جائزٌ من باب أولى والله أعلم.
                  وانظر إلى أصرح من ذلك فيما يتعلق بترك التداوي في مرض الموت، ففي الحديث الصحيح عن عائشة – في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته – قالت: لددناه[21] في مرضه، فجعل يشير إلينا:" أن لا تلُدُّوني" . فقلنا كراهية المريض للدواء[22]، فلما أفاق قال:" ألم أنهكم أن تلُدُّوني" قلنا كراهية المريض للدواء فقال:" لا يبقى أحد في البيت إلا لُدَّ" وأنا أنظر إلى العباس فإنه لم يشهدكم.[23] قال الحافظ ابن حجر : " قيل: وإنما كره اللد مع أنه كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن حقق ذلك كره له التداوي. قلت – والكلام هنا لابن حجر - : وفيه نظر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق [24]، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر في سياق الخبر كما ترى والله أعلم"[25] انتهى كلام الحافظ ابن حجر. قلت: وأياً كان المعنى فإن كلاهما موافق لجواز ترك التداوي في مرض الموت – شريطة ألا يكون يأساً أو بنية الانتحار لقيام الأدلة على منع ذلك - إما على سبيل تحقق غلبة الظن بكونه مرض موت، وإما لعدم موافقة الدواء وملائمته للموت الذي يجمع الجميع على عدم وجود دواء له، فصحَّ – والله أعلم – ترك التداوي في هذه الحالة على أي المعنيين حملت إنكاره صلى الله عليه وسلم للتداوي في مرض موته الذي عرفه. وتطبيق هذا في واقعنا المعاصر أقرب ما يكون في مسائل أجهزة الإنعاش والأدوية أو الأجهزة الداعمة لحياة المريض مع غلبة الظن بتحقق الموت ومقدماته، وكذلك بعض علاجات السرطانات المتقدمة المستعصية على العلاج وحالات الفشل الكلوي أو الكبدي أو الدماغي المعندة وغير ذلك، فإن هذا الدواء ليس بملائم للداء من جهة ولا يغير في محصلة المرض ونتيجته من جهة أخرى اللهم إلا على وجه إطالة أمد الحياة مطلقاً طالماً لم يحل الأجل المحتوم.

                  [1] سورة المؤمنون – آية 99

                  [2] سورة البقرة – آية 133

                  [3] صحيح البخاري

                  [4] سورة البقرة – آية 216

                  [5] صحيح البخاري – باب تمني المريض الموت / كتاب المرضى

                  [6] فتح الباري بشرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر العسقلاني

                  [7] سورة النساء – آية 29

                  [8] رقأ : أي توقف، أي أنه نزف حتى الموت

                  [9] صحيح البخاري ومسلم

                  [10] ولا نعلم خلافاً ممن يعتد برأيه في ذلك

                  [11] فصل "تحرير القول في كون الأطفال محل ابتلاء"،ص4

                  [12] صحيح البخاري – باب الإيمان

                  [13] صحيح البخاري – كتاب المرضى – باب شدة المرض

                  [14] صحيح البخاري – كتاب المرضى – باب أشد الناس بلاءً

                  [15] صحيح البخاري – كتاب الطب – باب ما أنزل الله داء

                  [16] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

                  [17] وإنما قلنا إن الأخذ بالأسباب من التوكل لأن خالق الأسباب هو الله وخالق آثارها هو الله ، فعندما يتعاطى المسلم السبب فإنه في الحقيقة يكل أمرها إلى الله لتحصل آثارها

                  [18] "يتطيرون" من التطير هو التفاؤل أو التشاؤم بأمارات معينة، و" يكتوون" من الكي وهو معروف، و"يسترقون" أي يطلبون الرقية لرفع المرض .

                  [19] صحيح البخاري – كتاب الطب – باب من لم يرق

                  [20] صحيح البخاري – كتاب المرضى

                  [21] لددناه : أي جعلنا في جانب فمه دواءً بغير اختياره وهو ما يعرف باللدود.

                  [22] أي أنهم ظنوا أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن لدِّه لم يكن على الحقيقة وإنما هو كما يكره المريض أخذ الدواء إما لمرارة طعمه أو تقلب مزاجه أو نحوه، ثم تبين أن نهيه صلى الله عليه وسلم كان على الحقيقة فأمر بلدِّهم تأديباً لهم عن مخالفة أمره ورحمةً بهم أن يموت وهم على حال مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.

                  [23] صحيح البخاري – باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم وفاته

                  [24] أي تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين مد أجله واللحوق بالرفيق الأعلى كما هي سنة الأنبياء والرسل

                  [25] فتح الباري شرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني – 496/8


                  يا حي يا قيوم
                  برحمتك أستغيث
                  أصلح لي شأني كله
                  ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                  اللهم آمين
                  ربِّ اشرح لي صدري
                  ويسر لي أمري
                  واحلل عقدة من لساني
                  يفقهوا قولي
                  اللهم آمين

                  اللهم اروي قلبي بالإيمان
                  من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                  http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                  تعليق


                  • Font Size
                    #10
                    بناءٌ على ما تقدم يمكننا أن نثبت جملةً من الأمور وهي :
                    1- عدم جواز ترك العلاج في أي حالةٍ من الحالات إذا كان ذلك يأساً وقنوطاً من رحمة الله أو تبرماً وتذمراً من قضاء الله تعالى وقدره، قال تعالى :" إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون"[1]
                    2- إن الأخذ بأسباب التداوي مشروع ولا ينافي التوكل والرضا بالقدر، وقد ورد ذلك صراحةً في حديث أبي خزيمة عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال :"هي من قدر الله "[2]
                    3- إن ترك التداوي صبراً واحتساباً جائز، ولكن لا بد من ضابط يضبط هذه المسألة وهي ألا يكون ترك الدواء مفضياً إلى هلاكٍ محققٍ على الفور من جهة ترك السبب الذي يغلب الظن بتحقق الشفاء به لأن هذا فيه شبهة قتل بتعريض النفس للتهلكة[3].
                    4- مهما أمكن استشارة المريض _ أو وليه – في الخيارات العلاجية المعقولة والمتوفرة فإنه لا يصح للطبيب أن يستقل بأخذ القرار دون مراعاة اختيار المريض أو وليه إذا كان أهلاً لاتخاذ مثل هذا القرار وهذا واضح في حديث أم المؤمنين عائشة في مرض ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم.[4]

                    وعلى هذا فإن الجواب على السؤال المتقدم حول لزوم التداوي من عدمه لمن أزمن معه المرض العضال المستعصي فلا بد فيه من التفصيل على حالتين اثنتين، فنقول وبالله التوفيق:

                    أما الحالة الأولى فإذا أراد الأبوان – أو ولي الطفل - المضي في أخذ أسباب العلاج بأنواعها من باب استفراغ الجهد والمبالغة في أخذ الأسباب المأمور بها مع احتساب ما قد يعانيه الطفل والأبوان من ألم ومشقة مترتبة على تعاطي هذا الأمر المشروع في أصله فظاهر النصوص يؤيد هذا من هذا الوجه، على ألا يكون فيه نوع مراغمة لقضاء الله وقدره وتسخط على المقدور ومعاندة له، ولا قيمة البتة لما يلقي به البعض من شبهات حول قيمة هذه الحياة التي يقضيها الطفل أو المريض وهو على أجهزة الإنعاش أو نحوها لا يأتي بحركة ولا ينبس ببنت شفة، قلت: لا قيمة لهذا الهراء البتة لأن المريض الذي يعيش معتمداً على أجهزة مساعدة أو أدوية مساعدة لا يخرج عن حالين؛ فإما أنه قبل هذه الحالة كان مكلَّفاً أو غير مكلّف فإن كان مكلَّفاً فإن مدة حياته هذه فيها فائدةٌ عظيمة له يدركها من سمع قول المعصوم صلى الله عليه وسلم :" إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"[5]، قلت: فهذه الأيام أو الساعات أو الدقائق التي قد يعيشها المريض ويتساءل الكثير ممن يعمل في مجال الطب وغيره عن قيمتها فهم لا ينظرون إلى قيمة الحياة – للأسف – إلا من منظور المادة ولذة الجسم فإذا لم يمكن المرء متحركاً ناطقاً آكلاً شارباً ناكحاً فلا قيمة لحياته، قلت : هذا في عقولهم هم، أما في ميزان شريعتنا الغراء فنقول إن هذا الحديث العظيم وهو يبين لنا القيمة الحقيقية لحياة الإنسان وأن ما يمضي من عمره إنما يُقاس بالعمل وأن فضل الله تعالى ورحمته ومنته بعبده أنه إذا ابتلاه بمرض أو سفر أقعده عن أداء ما التزمه سابقاً من عبادات فإنه يكتب له من الأجر وكأنه لا يزال يعمل طالما هو في مرضه أو سفره، فأي قيمة عظيمة لهذه الفترة الممتدة من حياة هذا المريض والقلم يجري بحسناته ولا سيئات له، أي قيمة عظيمة لهذا في يوم توزن فيه الأعمال حتى إن المرء ليبحث عن الحسنة الواحدة يحتاجها ليثقل به ميزانه وينجو من النار؟
                    هذا جوابنا على من تساءل عن قيمة هذه الحياة، ولا يعني هذا أنه هذا الخيار – أي المضي في أخذ أسباب العلاج بأنواعها حتى الرمق الأخير على الوجه الذي بينته – أنه لازم، وإنما قصدت بيان أنه خيارٌ صحيح له ما يشهد له من الشرع وما يبين قيمته وأثره على العبد، وأنه لا يحوز التثريب على من اختار هذا السبيل واتهامه بعدم الفهم وعدم وعي طبيعة المرض أو أنه ساذج أو بسيط [6]، ولكن أنبه إلى أن هذا الخيار لما كان يترتب عليه الكثير الكثير من الالتزامات والأعباء المالية والحسية والاجتماعية مما قد لا يتوفر لكل أحد أو قد لا تستطيع الدولة المسلمة تقديمه فإن ضابطه – من حيث اللزوم عند من يرى لزومه – هو الاستطاعة، بناءً على القاعدة الكلية في شريعتنا الغراء :" لا يكلف الله نفساًُ إلا وسعها"[7]، وأن التكليف لا يكون بما لا يطاق كما هو مقرر في الأصول.
                    وأما لو كان العبد غير مكلفٍ قبل المرض فإن التوجيه بالصبر والاحتساب لأبويه – أو وليه – لا ينقطع مهما اشتدت وطأة المرض على الطفل، وإن مدة حياة الطفل المعتمدة على أجهزة وأدوية ليست مستثناةً من ذلك إذ لا دليل على الاستثناء، بل إن من نظر إلى عموم[8] قوله صلى الله عليه وسلم :" في كل كبدٍ رطبةٍ أجر " [9] لم يخطر بباله أن يستثني منها طفلاً قد بلغ به المرض الحاجة إلى هذه الأجهزة والأدوية لتستمر حياته لا سيما وأن هذا الحديث قد ورد في البهائم[10]، ولا أحسب أحداً يجرؤ على وضع الطفل المريض المعتمد على هذه الأجهزة في منزلة دون تلك المنزلة!
                    والخلاصة هاهنا أن تمام عبادة التوكل يكون بالمبالغة بالأخذ بالأسباب التي هي من حقيقة التوكل على خالقها، وأن تمام الرضا بالقدر هاهنا يكون بالمبالغة بالأخذ في الأسباب التي هي من القدر كما في الحديث السابق.
                    وأما الحالة الثانية فهي أن يختار الأبوان – أو ولي الطفل – عدم التمادي والمبالغة في تعاطي الأسباب العلاجية العرضية على ألا يكون يأساً أو قنوطاً وإنما قبولاً وانقياداً لقضاء الله تعالى فيما ابتلى به هذا الطفل، فتُخرَّج هذه الحالة على مبادئ جواز ترك العلاج صبراً ورضى واحتساباً بحيث يكون تمام التوكل هاهنا هو ترك شهود الأسباب وتفويض المشهد برمته إلى الخالق عز وجل استسلاماً وانقياداً وانطراحاً على عتبة عبوديته عز وجل، ولسان حال المرء في هذا : رب أنت خالقي ومولاي قد تبرأت من الحول والقوة إلا إليك وفوضت أمري وأمر ولدي إليك فما قضيت به فأنا به راضٍ وليس لي غاية في هذا الأمر كله إلا رضاك...
                    ولما كانت هذه الحالة قائمة على الترك – أي ترك الأسباب – كان محل العمل القلب اعتقاداً بعبودية التوكل واللسان إقراراً بالبرء من الحول والقوة وكان لازماً وحتماً أن تتحرر النية تحريراًَ سليماً دقيقاً لأن مدار الجواز أو الحرمة في هذا الترك إنما هو النية كما تبين.
                    فإذا تحرر الأمر على ما تقدم فلا تثريب على الأبوين في هذه الحالة كما أنه لا تثريب عليهما في الحالة السابقة، ولكن هذه الحالة آكد في ضرورة تنبيه وتذكير الأبوين بمراجعة النية وتحريرها تحقيقاً لعبودية هذا المشهد واحترازاً عن مواطن الزلل فيه.
                    بقيت كلمة ها هنا وهي أنه طالما كان الأمر موضع اجتهاد بحسب الحالة والظروف والإمكانيات المتوفرة سواء أكان على مستوى الأفراد أم على مستوى الدولة المسلمة، فلا حرج البتة – والله أعلم – في أن تتبنى الدولة المسلمة موقفاً أو اجتهاداً معيناً يكون ملزماً لها ولمن فوَّض الأمر إليها في القرار لتنضبط مسيرة العمل في المجال الطبي إذ أن هذه المسائل ليست بالنادرة ولا بالقليلة لا سيما مع تقدم الإمكانات العلمية والطبية، ولسوف تبقى عرضةً للمواقف الفردية ما لم تنضبط بقرارٍ موحدٍ ملزم، كما أن على الأفراد أن يتفهموا أن قرار الدولة يأخذ في عين الاعتبار تكاليف هذه المداخلات والعلاجات التي قد تكون مديدة وتوازن بين هذه المصالح التي سردناها – وهي مصالح فردية بالطبع – ومصالح المجتمع إذ أن تكاليف العناية المركزة المديدة لطفل واحد قد تكفي لعلاج مئات الأطفال من أمراض بسيطة يمكن شفاؤها، أما لو كانت الدولة في سعة فالأمر واسعٌ حينذاك، وعلى كل حال فهذه المسألة تعود إلى سياسة الدولة على أن يراعى فيها شرع الله تعالى وتحكيم ميزان المصالح والمفاسد العامة، وإنما نبهت إلى هذا حتى لا يسيء الأفراد الظن في حكومتهم الإسلامية.

                    سؤال: لقد ابتلاني الله عز وجل بطفل مصاب بتشوه خلقي، وكان الأطباء قد سألوني وزوجي عن وجود قرابة بيننا وأنا الآن أشعر بالذنب لأنني تزوجت من قريب لي وأشعر أنني السبب في مرض طفلي، فما توجيه هذا الكلام؟

                    جواب: إن ما لا كسب للعبد فيه لا وزر للعبد عليه، وإن الله تعالى الرؤوف بنا الرحيم ما كان ليعاقب أحداً على ما ليس له في كسبه يد ولا حيلة، كما أن شريعتنا الغراء إذا ما أذنت بأمر من الأمور عفت عن لوازمه لأن هذه اللوازم ليست مقصودةً لذاتها، وطالما أن الله عز وجل قد أباح لنا الزواج من الأقارب غير المحارم فلا يمكن أن يرتب الله تعالى على فعل هذا المباح ذنباً ولا وزراً ولا عقوبةً، وهذا كله راجعٌ إلى الأصل الكلي:" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"[11]
                    أما بالنسبة لزواج الأقارب والأمراض الخلقية عند الأطفال فأقول – وبالله التوفيق – ما يلي:
                    إن الأمراض الخلقية تنقسم بهذا الاعتبار إلى أمراض وراثية وغير وراثية؛ أما الحالات غير الوراثية فإن نسبة التكرار في الأحمال التالية قد تزداد قليلاً عند الزوجين الذين أصيب أحد أطفالهما بمثل هذه الأمراض مقارنة بعامة الناس ولا تتأثر هذه الزيادة بقرابة الزوجين أو عدم تلك القرابة, أم الحالات الوراثية وهي التي يكون منشأ المرض فيها خلل في الصبغيات أو المورثات[12] فإن نسبة احتمال تكرار الإصابة في الأحمال التالية يتوقف على نوعية المرض الوراثي؛ فمنها ما يكون المرض ناجماً عن ما يُعرف بالمورثة السائدة ( وهي التي تكفي وجود مورثة واحدة مختلة لحصول المرض بها) ومنها ما يُعرف بالمورثة المتنحية (وهي ما يلزم وجود مورثتين مختلتين لحصول المرض بها) ومنها ما يُعرف بالمورثة المرتبطة بالجنس ( وهي ما يلزم وجود مورثة مختلة على الصبغي الجنسي ولا تُحدث المرض عادةً إلا عند الذكور منتقلاً عن طريق الأم )، وبدون دخول في تعقيدات طبية أقول إن نوع الوراثة المتنحية هو الذي يحتاج أن يكون كلٌ من الأب والأم حاملين لهذه المورثة المختلة بحيث ينشأ عن اجتماعهما في المولود حدوث المرض عنده بنسبة احتمال 25% في الحمل الواحد ( وذلك لكل حمل) ، وهذه المورثة المتنحية التي توجد عند الأبوين لا تحدث المرض فيهما لأن كل واحدٍ منهما يحمل مورثةً واحدةً فقط لا تكفي لإحداث المرض فيهما.
                    والمشاهد حسياً عن طريق الدراسات الإحصائية الوراثية أن نسبة وجود هذه المورثات المتنحية في أفراد المجموعة السكانية الواحدة تزداد كلما ضاقت دائرة التزاوج، ولهذا تزداد نسبة حدوث هذه الأمراض في التجمعات العرقية الصغيرة أو التجمعات الدينية الصغيرة أو القبائل والعشائر التي تحرص على التزاوج فيما بينها لأسباب عرقية أو دينية أو اجتماعية، وكلما ضاقت دائرة التزاوج زاد هذا الاحتمال، وأضيق دوائر التزاوج هذه – كما هو واضح – هي دائرة الأقارب. فالحاصل أن زواج الأقارب لا يسبب مرضاً بذاته وإنما يزيد من احتمال انتقال بعض المورثات المرضية من جيلٍ إلى آخر، ولكن ليس هناك حالة وراثية معروفة تؤدي إلى حدوث المرض بشكل حتمي وإنما هي نسبة احتمالية أعلى منها في دائرة الأقارب منها في الدائرة السكانية العامة.
                    ومرةً أخرى أقول إن زواج الأقارب ليس سبباً في حصول المرض بذاته، وإنما هو وسيلة لازدياد نسبة احتمال حدوث المرض بسبب ما تقدم بيانه، وعلى هذا لا يجوز لأحد – في نظري – أن يلقي بالاتهام واللوم على من اختار الزواج من قريب له أو قريبة طالما أن الشرع قد أباحه مطلقاً، بل قد تتحقق من هذا الزواج من المصالح الاجتماعية والدينية ما يفوق هذا الضرر المحتمل. ولكننا في الوقت نفسه نقول إنه لا بد من توعية الناس تجاه هذا الأمر الذي فيه نوع ضرر بلا شك، بحيث يختار الأقارب الزواج على علمٍ وبينة من هذه الاحتمالات لا سيما إذا كانت هناك قصة عائلية تشير إلى انتشار بعض هذه الأمراض الوراثية في عائلة أو قبيلة أو مجموعة عرقية أو دينية، مع العلم بأن وسائل الفحص المخبري قد تقدمت – بفضل الله – إلى الحد الذي قد يسمح بتشخيص الأفراد الحاملين لبعض هذه المورثات قبل الزواج بغية توعية المقبلين على الزواج والمحاولة من الحد من حدوث هذه الأمراض الوراثية التي تشكل عبئاً على الفرد والأسرة والمجتمع، أما إلزامية إجراء هذه الفحوصات والعمل بمقتضاها فأمر يعود إلى سياسة الدولة ومصالح الجماعة وأرى أنه يدخل في مسائل السياسة الشرعية التي يترك أمرها للحاكم المسلم وأهل الخبرة والرأي فيها بحيث يتحرون ما فيه الأصلح والأفضل للرعية.
                    والخلاصة أنه لا يوجد ما يدفع بهذه الأم وهذا الأب إلى دائرة اللوم والشعور بالذنب، فأمرهما لا يخرج عن حالتين؛ فإما أنهما لم يكونا يعلمان بما تقدم فهم معذورون ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإنما أنهم علموا وأقبلوا على الزواج المباح بتسليمٍ لأمر الله ورجاء حصول احتمال السلامة – وهو احتمال حقيقي مهما كابر المكابرون وعاند المعاندون – فهؤلاء كيف يثرَّب عليهم، وأي منكرٍ ارتكبوه ليؤاخذوا عليه، وهم لم يطلبوا الزواج لأجل حصول المرض، بل لا يد لهم في حقيقة الأمر في حصوله، وكم من زيجاتٍ بين الأقارب كانت سليمة صحيحة وكم من زيجة بين الأباعد ابتليت بشتى الأمراض؟




                    [1] سورة يوسف – آية 87

                    [2] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح

                    [3] قد يستشكل على الاستدلال بحديث المرأة السوداء أن بعض حالات الصرع يمكن أن تؤدي إلى الموت – كما هو مشاهدٌ ومعروف طبياً اليوم – فكيف يصلح الاستدلال بجواز ترك العلاج من هذا الحديث ، والجواب أن احتمال الموت المراد التحرز منه هو ما ترتب على ترك العلاج على الفور، كمريض مصاب بنوية ربوية شديدة يهلك بها إذا لم يأخذ الدواء فوراً، فهذا غير جائز والله أعلم، أما ترك المرأة السوداء للعلاج فلا يترتب عليه غلبة الظن بالموت أو الهلاك أو التلف على الفور، فهذا فارقٌ دقيق قتنبه.

                    [4] وقد يضطر الطبيب أحياناً إلى اتخاذ تدابير إسعافية إذا كان الوقت لا يسمح باستشارة المريض، ولكن هذه الحالات يكون تصرف الطبيب بالفعل لا بالترك وبتعاطي أسباب العلاج لا بالتخلي عنها.

                    [5] صحيح البخاري – كتاب الجهاد والسير

                    [6] وقد سمعت شتى أنواع التعليقات والأوصاف هذه في سياق عملي كطبيب

                    [7] سورة البقرة – آية 286

                    [8] ولم يستثنِ العلماء من هذاالعموم إلا حالات قليلة كالعدو المحارب ونحوه للأدلة الدالة على ذلك

                    [9] صحيح البخاري - باب المساقاة

                    [10] وهو في الرجل الذي أدخله الله الجنة بسقياه كلبٍ عطشِ

                    [11] سورة البقرة – آية 286

                    [12] الصبغيات هي ما يعرف بالأجنبية بـ" الكروموسومات" وهي مجموع المادة الوراثية ولكل إنسان 23 زوج منها ( أي 46 صبغي)، أما المورثات فهي جمع مورثة، والورثة جزء من الصبغي يكون مسؤولاً عن سمة أو صفة معينة ( كلون العينين) أو مرض معين ( كداء التليف الكيسي)


                    يا حي يا قيوم
                    برحمتك أستغيث
                    أصلح لي شأني كله
                    ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                    اللهم آمين
                    ربِّ اشرح لي صدري
                    ويسر لي أمري
                    واحلل عقدة من لساني
                    يفقهوا قولي
                    اللهم آمين

                    اللهم اروي قلبي بالإيمان
                    من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                    http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                    تعليق


                    • Font Size
                      #11
                      الخاتمة:

                      هذا ما تيسر لي في هذه الرسالة الموجزة، أحببت أن أهمس فيها بكلمات إلى ذوي الأطفال والقائمين على رعايتهم بل وإلى المجتمع الإسلامي برمته حتى لا نغفل عن منطلقات وثوابت الشريعة الغراء في كل منحى من مناحي حياتنا مهما كان مصدر سرورٍ أو ألم، بل إني أرى أن التدبر في مثل هذه المسائل هو من جنس قوله تعالى:" إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"[1].
                      وإني أسأل الله تعالى أن يكون فيما كتبت تنبيهاً على مواطن التدبر الإيماني في مثل هذه الابتلاءات، وتثبيتاً وسلوى للأهل وهم يعاينون مصاب وألم أولادهم، وتوجيهاً إلى إخواني في المجال الطبي إلى ضرورة تفعيل الروح الإيمانية في سياق عملنا المهني والالتزام المطلق بضوابط الشرع ومنطلقاته في التعامل مع هذه المسائل بل ومع كل المسائل.
                      وأخيراً، أجعلها أمانةً في عنق كل مسلم ومسلمة أن ينبهني إلى خطأ أو زلل وقعت فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والحمد لله رب العالمين.


                      كتبه الفقير إلى رحمة ربه
                      الطبيب المسلم وسيم فتح الله
                      6رمضان 1423 الموافق 11 نوفمبر 2002




                      ملحق رقم 1

                      فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء في المملكة العربية السعودية رقم ( 12086) و تاريخ 20/6/1409 هـ حول عدم تنفيذ إجراءات الإنعاش في حالات مرضية محددة .

                      الحمد لله والصلاة على من لا نبي بعده :

                      فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من

                      المستفتي / مدير فرع الشؤون الدينية بالشمالية الغربية عن طريق / مدير إدارة الشؤون الدينية للقوات المسلحة

                      و السؤال إلى اللجنة من إدارة البحوث العلمية و الإفتاء برقم ( 1508 ) و تاريخ 28/3/1409هـ و قد سأل المستفتي سؤالا هذا نصه :
                      " ورد إلينا شرح ضابط التوعية الإسلامية بمستشفى القوات المسلحة بالشمالية الغربية بتاريخ 13/4/1409هـ . المبني على خطاب نائب رئيس الأطباء بمستشفى القوات المسلحة الشمالية الغربية المؤرخ في 12/3/1409هـ و الذي يطلب فيه فتوى حول عدم تنفيذ إجراءات الإنعاش في النقاط والأحوال التي ورد ذكرها في دليل سياسة العمل و الإجراءات المرفقة نأمل من فضيلتكم التكرم باتخاذ ما ترونه لإصدار فتوى بجواز هذه النقاط من عدمها وإشعارنا ليتم على ضوء ذلك العمل بموجبه في مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة الشمالية الغربية هذا و الله يحفظكم و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..."
                      هذا و الحالات التي وردت في دليل سياسة العمل و الإجراءات هي التالية :

                      أولاً : إذا وصل المريض متوفى .

                      ثانياً : إذا كان ملف المريض مختوماً عليه بعلامة عدم عمل إجراءات الإنعاش بناء على رفض المريض أو وكيله في حال عدم صلاحية المريض للإنعاش .

                      ثالثاً : إذا قرر ثلاثة أطباء أن من غير المناسب إنعاش المريض عندما يكون من الواضح أنه يعاني من مرضٍ مستعصٍ غير قابل للعلاج وأن الموت محقق .

                      رابعاً : إذا كان المريض في حالة عجز أكيد أو جسمياً أو كليهما و في حالة خمول ذهني مع مرض مزمن مثل السكتة الدماغية المسببة للعجز أو مرض السرطان في مرحلة متقدمة أو مرض القلب و الرئتين المزمن الشديد أو أمراض الهزال و تكرار توقف القلب و الرئتين .

                      خامساً : إذا وجد لدى المريض دليل على الإصابة بتلف في الدماغ مستعصٍ على العلاج عقب تعرضه لتوقف القلب و الرئتين لأول مرة .

                      سادساً : إذا كان إنعاش القلب و الرئتين غير مجدٍ و غير ملائمٍ لوضع معين حسب رأي الأطباء الحاضرين فإن رأي المريض الذاتي لايهم والأطباء غير ملزمين بإجراء إنعاش للقلب و الرئتين ولا يحق لذوي المريض طلب هذا النوع من العلاج إذا كان غير مجدٍ .

                      و من دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي :

                      أولاً: إذا وصل المريض إلى المستشفى و هو متوفى فلا حاجة لاستعمال جهاز الإنعاش .

                      ثانياً: إذا كانت حالة المريض غير صالحة للإنعاش بتقرير ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات فلا حاجة أيضاً لاستعمال جهاز الإنعاش .

                      ثالثاً : إذا كان مرض المريض مستعصياً غير قابل للعلاج و أن الموت محقق بشهادة ثلاثة من أطباء .

                      رابعاً: إذا كان المريض في حالة عجز أو في حالة خمول ذهني مع مرض مزمن أو مرض السرطان في مرحلة متقدمة أو مرض القلب و الرئتين المزمن مع تكرار توقف القلب والرئتين و قرر ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات ذلك فلا حاجة لاستعمال جهاز الإنعاش .

                      خامساً: إذا وجد لدى المريض دليل على الإصابة بتلف في الدماغ مستعصٍ على العلاج بتقرير ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات فلا حاجة أيضاً لاستعمال جهاز الإنعاش لعدم الفائدة في ذلك .

                      سادساً : إذا كان إنعاش القلب و الرئتين غير مجد و غير ملائم لوضع معين حسب رأي ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات فلا حاجة لاستخدام آلات الإنعاش و لا يلتفت إلى رأي أولياء المريض في وضع آلات الإنعاش أو رفعها لكون ذلك ليس من اختصاصهم .

                      و بالله التوفيق.. و صلى الله على نبينا محمد وآله و صحبه و سلم .




                      ملحق رقم 2:

                      قرار رقم 68/5/7
                      بشأن العلاج الطبي

                      إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 12- 17 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9- 14 مايو 1992 م
                      بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " العلاج الطبي" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله قرر:

                      أولاً: التداوي:
                      الأصل في التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من حفظ النفس الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.
                      وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
                      - فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كالأمراض المُعدية.
                      - ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
                      - ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين
                      - ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.

                      ثانياً: علاج الحالات الميئوس منها:
                      أ‌- مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من رَوح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله. وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
                      ب‌- إن ما يُعتبر حالة ميئوساً من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعاً لظروف المرضى.

                      ثالثاً: إذن المريض:
                      أ‌- يُشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتُبر إذن وليه، حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقاً لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما في منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه. على أنه لا عبرة بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.
                      ب‌- لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.
                      ت‌- في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب لخطر لا يتوقف العلاج على الإذن
                      ث‌- لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي ( كالمساكين) ويجب ألا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر. ولا يجوز إجراء البحوث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء.

                      ويوصي مجلس المجمع :الأمانة العامة للمجمع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:
                      - العلاج بالمحرمات وبالنجس وضوابط استعمال الأدوية
                      - العلاج التجميلي
                      - ضمان الطبيب
                      - معالجة الرجل للمرأة وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين
                      - العلاج بالرقى ( العلاج الروحي)
                      - أخلاقيات الطبيب ( مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر)
                      - التزاحم في العلاج وترتيب الأولوية فيه.
                      والله أعلم.


                      [1] سورة آل عمران – آية 190-191


                      يا حي يا قيوم
                      برحمتك أستغيث
                      أصلح لي شأني كله
                      ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                      اللهم آمين
                      ربِّ اشرح لي صدري
                      ويسر لي أمري
                      واحلل عقدة من لساني
                      يفقهوا قولي
                      اللهم آمين

                      اللهم اروي قلبي بالإيمان
                      من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                      http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                      تعليق


                      • Font Size
                        #12
                        عذرا إخواني على الإطالة
                        كنت أود أن أضع الموضوع في المرفقات
                        لكن كان حجمه أكبر من المساحة المتبقية لي..


                        يا حي يا قيوم
                        برحمتك أستغيث
                        أصلح لي شأني كله
                        ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                        اللهم آمين
                        ربِّ اشرح لي صدري
                        ويسر لي أمري
                        واحلل عقدة من لساني
                        يفقهوا قولي
                        اللهم آمين

                        اللهم اروي قلبي بالإيمان
                        من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                        http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                        تعليق


                        • Font Size
                          #13


                          تعليق


                          • Font Size
                            #14
                            شكرا لك اختي صمت الغروب
                            الرجاء تعيل نوع الخط وحجمه ليسهل قراءته
                            اللهم يارب مسني وأهلي الضر وأنت أرحم الراحمين

                            تعليق


                            • Font Size
                              #15
                              [
                              QUOTE=flower24;7925][/QUOTE]



                              شكرا لك أختي الكريمة
                              مرورك هو الأروع
                              جزيت خيرا


                              يا حي يا قيوم
                              برحمتك أستغيث
                              أصلح لي شأني كله
                              ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
                              اللهم آمين
                              ربِّ اشرح لي صدري
                              ويسر لي أمري
                              واحلل عقدة من لساني
                              يفقهوا قولي
                              اللهم آمين

                              اللهم اروي قلبي بالإيمان
                              من فضلك افتح الرابط واقرأ المحتوى:
                              http://www.7alm-3shg.com/M7AL/7c7/Index.htm

                              تعليق

                              Loading...


                              يعمل...
                              X