إخوتي ... أخواتي ... أستمحيكم عذراً ... ربما سأطيل عليكم ... وربما أحزنكم ... لكن كما قيل : قد تولد السعادة من الحزن ... ولن تكون هذه المشاركة كافية للموقف الّذي تجلّى الله فيه بأسماء كثيرة قد لا أحصيها لذلك سأتابع معكم في المشاركة القادمة بإذن الله لأنّ الحديث يطوووول وأنا حريصة على ذكر تفاصيل قد تفيدنا ليس في تقصّي آثار أسماء الله تعالى في حياتي وحسب بل في مواضيع أخرى قد تهمّ كثيرين ... وسبحان من أخّرني عن كتابة ( مواقف من حياتي ) حتى الآن لأجمع بين ذكرها وذكر آثار أسماء الله تعالى فيها في هذه الساحة .... ومعاً بسم الله نبدأ ...
كنت في منتصف الثّالثة من العمر حين أصابتني حمّى الحصبة الألمانيّة ورغم محاولات والدتي في إطفاء حرارتها إلّا أنّ القدر لم يشأ أن تودّعني قبل أن تترك لي ذكرى في أوائل صفحات كتابي .. ذكرى لازمتني إلى هذه اللّحظة التي أكتب إليكم فيها مواقف من حياتي وآثار أسماء الله فيها ...
مرّت أيّام قليلة بعد زيارة ( أم ملدم ) الحمى .. وبدأت تظهر على جسدي الصغير أعراض غريبة : اضطراب في مشيتي ، اختلال في توازني ، سقوط مفاجئ لأكثر من مرّة وكدمات طبعاً .
فزعت والدتي وهي ترى حالتي تزداد سوءًا يوماً بعد يوم . أخبرت والدي بالأمر لكنّه في البداية طمأنها أنّه ليس هناك ما يقلق .. فكثير من الأطفال في مثل هذا السّنّ قد تضطرب خطواتهم ويتعثّرون .
لكنّ الصورة كانت لا تبارح مخيّلتها ، صورتي وأنا في الشّهر التّاسع أخطو خطواتي الأولى نحوها ... ومع الصّورة تساؤل ملحّ ... كيف لطفلة تمشي في شهرها التّاسع وتسابق إخوتها في الرّكض في السّنة من عمرها ولا تتعثّر .. تتعثّرالآن في منتصف الثّالثة وتسقط .. ؟!!
ولمحت الخوف في عيني أمّي .. وانتقلت مخاوفها وتساؤلاتها إليّ .. هل أنا مريضة؟
هل سأظلّ أتعثّر وأسقط ؟ هل سيأتي يوم لن أمشي فيه ؟ حتى أقعدني الخوف أجل ... لقد كنت واعية إلى هذا الحدّ رغم صغر سنّي ، كما أنّني كنت شديدة الارتباط بأمّي وهي شديدة التّعلّق بي لدرجة كانت تجعلني وإيّاها في حالة من التّواصل الرّوحي العجيب .
لم تكن حالة التّواصل والحب تلك وليدة مرضي .. فمنذ ولادتي غابت في حلم جميل يغشاه الدفء والحنان أنساها الدّنيا بما فيها.. وكأنّني مولودتها الأولى وليست الثّالثة بعد صبيّ وبنت رائعين... وما هي إلّا شهورستة حتّى بدأت الكلام ومن ثمّ المشي في شهري التّاسع ... وحين بلغت العام والنّصف بدأت أمسك القلم تتبعني آثاري حيثما أسير وأنا أدندن وأردد كل ما أسمع .. وكانت تزداد تعلّقاً بي يوماً بعد يوم ... وكانت إذا حملتني وتقول : غداً عندما تكبرين .. سأحرر بك فلسطين ... وطبعاً أصبحت الطّفلة المعجزة في البيت وبين الأهل والجيران والمعارف ... فحيثما حضرت أمّي يحضر ذكري وإن لم أكن معها .. اليوم فعلت كذا .. واليوم قالت : كذا.. واليوم غنّت كذا ... ولم تستفق المسكينة من حلمها الجميل الّذي غابت فيه عن الدّنيا لسنتين ونصف إلّا بكابوس عجزي التام عن المشي والذّي هزّها بعنف فما عادت بعده تعرف للنّوم طعماً ولا للرّاحة سبيلا .
لم تدع طبيباً في دمشق لم تطرق بابه ، واتّفق جميع الأطبّاء كالعادة على أن لا يتّفقوا... وما كانوا يشخّصون بقدر ما كانوا يخمّنون . وازداد حالي بحال أمّي سوءًا حتّى جاء اليوم الّذي لا أستطيع الوقوف على قدميّ فيه .
طار صواب أمّي وكاد الجزع يودي بي وبها وهي خارجة من عيادة طبيب أخبرها أننّي أعاني من مرض لا يمكن شفاؤه بل يزداد سوءًا وينتهي بالموت عند الشباب .. فغشّت الدّموع عيناها ولم تعد ترى سبيلها حتّى كاد باص ركّاب كبير يصدمنا ويودي بحياتي وحياتها نتيجة تششخيص خاطئ لطبيب ... ولو قال لا أعلم لكان عليماً ...
سافرت ووالداي بي إلى بيروت وأرسل تقرير من هناك بحالتي إلى أمريكا كونها حالة غريبة بسبب عدم وجود أيّ آفة في الدماغ . فأتى رد بأنّ الحالة مختلفة عما لديهم من حالات عصبية لأطفال في مثل سني قد تكون أشدّ ولكن ليست مثلها ...
عاد والداي بي بثياب جميلة وألعاب وكرات و( أكلات طيبة ) على حد قولي وقبل كل ذلك بدواء لعلاج العرض لعجز الأطباء عن معرفة المرض ...
أذكر حينها أنني لم أعد أسعد بشيء من الثياب والألعاب والمأكولات ... لأنّ الثوب الجميل سيكون أجمل لو مشيت وأنا ألبسه ولن يكون كذلك وأنا أحبو به في سنّ الثالثة...
وكذلك باتت فرحتي بكل شيء جميل ناقصة ... وكذلك كان حال والدتي وأسرتي ...
لكن والدتي لم تيأس قطّ من قدوم يوم تراني أقف فيه على قدميّ من جديد ... فقد كانت رحمها الله إنسانة متميزة لذلك حاولت بشتّى الوسائل أن تبثّ الأمل في داخلي فإن جلبت لي من الطيبات تضعها تحت وسادتي وعندما أراها في الصباح تقول لي: لقد جاءت الملائكة بها إليك لتسعدني بذلك وتشعرني بأنّ كل من في الكون يحبني ... فلطالما كنت أحدّثها عن أطفال بيض ولهم أجنحة يطوفون حول سريري وكانت تعجب لذلك لكنها كانت تصدّقني وليس ذلك وحسب بل وتستفيد مما أحدثها به في إسعادي وإحياء الأمل والسرور في نفسي غير آبهة بحظّها من شكري لها كونها هي من يجلب لي تلك الأطايب ... وأنا إلى الآن أعجب وأتساءل هل من الممكن أن يكون الله الله تعالى قد فتح لي شيئاً من الغيب ليسليني برؤية عالم جميل لم أره من قبل ... أم تراه محض خيال .. ولو كان محض خيال فكيف رأيت الملائكة بصورتها الموصوفة في كتاب الله ( أولي أجنحة ) ... ولم يكن مثل هذه الأحاديث يدور في بيتنا أساساً ... فبيتنا بيت بعيد عن التديّن ... لكنّه كان بيت خير وكرم وحلال ... والحمد لله .
ورغم كون أمي إنسانة غير متدينة إلا أنّ جذورها المتديّنة ونشأتها المحافظة صانتها عن الانغماس في الدنيا والغفلة عن الله ... وجاء مرضي ليزيدها مع السّعي توكّلاً على الله وصبراً على قضائه وصار ذكر الله والصلاة على النبي حاضراً دائماً في قلبها وعلى لسانها ...
فما كان يمرّ عليها يوم إلا وأسمعها تناجي الله وتبكي وتقول : يا رب أعلم أنّ ما جرى لطفلتي ربما يكون بتقصيري فلا تأخذها بذنبي ... يا ربّ أنا لا أجرؤ أن أطلب أكثر من أن تريني إيّاها واقفة على قدميها ...
وما كانت تزورني حمى بعد ذلك إلا وتقول بيتي الشاعر اللّذين حفظتهما منها في سنّ الثالثة وما زالا في ذاكرتي إلى اليوم :
يا أم ملدم ( الحمى ) تملدمي ( اذهبي ) --- ولا تعودي فتندمــــي
إنّ لحمي ودمـــــــــــي --- لصاحب الحوض ( النبيّ ) فاعلمي
يتبع بإذن الله ....
تعليق