التصفح للزوار محدود

ذقن الماعز / م. زياد صيدم


بالكاد استطاع أن يسترق النظر من خلف عدساته الضبابية لكثرة الخدشات فيها والجروح ! تلك النظارات التى عفا عليها زمن الحصار.. فعندما أراد تغيرهما كانت الأسواق قد خلت تماما من كل شيء فالبضائع من كل نوع وصنف أصبحت بحكم الفردوس المفقود......
بحث وسأل هنا وسعى هناك دون فائدة، فاستكان على بصيص رؤيا وغشاوة في عينيه تكفى أن يتدبر طريقه وقضاء حاجته وخصوصياته..

انتبه فجأة إلى نحيب أطفاله، وصراخهم كان بكاء غير معهود ؟وعلى صوت نشرة الأخبار ، فسأل بلهفة عن الأمر أجابوه بصوت واحد إنهم أطفال يهرعون لملاقاة دبابات العدو ورشاشاته الثقيلة ؟؟.. لتمزق أجسادهم الغضة الطرية ولتفتك بأحلامهم التى لم تكتمل بعد ؟ اقترب كثيرا من شاشة التلفاز يريد أن يرى الصور ومبرر هذه المناحة وسبب هذا العويل والنواح ، فشاهد ما شاهدوه فكاد القهر والسخط على كل شيء ينفجر من عينيه وتقاسيم وجهه ومن بين أسنانه التى لا تحتمل ضغطا فقد نخر بعضها السوس وقام بترميمها طبيب الأسنان.. ورأى صور مغايرة أخرى بعيدة هناك خلف جدران مساكن المخيم بين المزارع.. وجوه تلتئم حول مائدة وقد اكتظت بسماعات وميكروفونات لفضائيات متعددة ..ملثمون بالسواد ومتشحون بقطع من حديد لا يغنى من جوع، ولا يوقف زحفا أسود من أطنان حديد مكدس يمشى مختالا بهدير وقعقعة جنازير تأكل أسفلت الطريق وتحيل المزارع والثمر إلى أكوام من هشيم وكبقايا عصير بذور الزيتون ، تتحرك بعين متسعة تمتد إلى الأمام يخرج منها رعد يخلع القلوب وما أن يصطدم بأي شيء ليحيله إلى ركام وكأنه لم يكن.. وتعتليها ثلاثة عيون أضيق مثل فتحات البوص في البرية التى كان يصنع منها يرغ وله ويعزف عليه أنغام للدبكة الشعبية و ظريف الطول وعلى دلعونه في ليالي السمر والمناسبات.. كانت الفوهات موزعة على قمة جسد ذلك الزاحف الثقيل تغطى جميع الاتجاهات، تقذف بحديد كالشهب يصاحبه أزيز مستعر كماس كهربائي في أسلاك نحاسية تحترق. . لا يردعها رادع ولا يوقفها حاجز من حجر أو شجر.. كانوا ثلة على تلك المنصة الممتلئة بسماعات وعدسات تسجل ترصد وتنقل عيون تقدح بشرر من كذب.. وشفاه تردد ديماغوجيات بالية أكلها الدود والعثة، والتهمها النمل و القمل تعود لماضي اعتقد بأنه قد انتهى في كتب التاريخ لعصر النكسات والهزائم للأمة، فتساءل وهو يضرب كف على كف ويتمتم لماذا يكررون تاريخ النكسة وما بالهم يعيدون زمن الوكسة ويصرون على إحيائه من جديد ؟؟

صلى العشاء وشرب الشاي برفقة زوجته ..كان مرهقا على غير عادته وأغمض عينيه وراح في نوم عميق ...

خرج من بيته يهرول بطيئا متثاقلا يريد الإسراع فلم يستطع !.. يلتقط أنفاسه المكتومة بين أضلعه التى كادت أن تخنق صدره ورئتيه، التقط نفسا عميقا فتقيأ دخان عربة امتزج فيها زيت الطعام مع السولار فأخرج ما في أحشائه ومضى مبتعدا وإذ بهمس بجانبه .. أجال بنظره المثقوب ! واقترب يرخى سمعه الثاقب .. وكم تمنى لو أنه لم يفعل ذلك ؟ فقد كان همسهم حول صغار وأطفال يدفعونهم عراة حفاة بمجرد الخروج من صلاة كل جمعة، بالإحراج تارة وبالمكافئة تارة أخرى نحو تلك الزاحفات الثقيلات بخيلة وأنفة وتبجح فاضح بنيرانها التى تمزق أبواب المحلات الحديدية البعيدة جدا.. وتخترق الجدران وسط المخيم وأطرافه البعيدة.. فيقتربون منها بأجسادهم الغضة الطرية لتكون قرابين لمن هم في الخطوط الخلفية يتنادون بميكروفونات تزعق بمليء أفواهها الناعقة كغربان الشؤم والخراب، تطلب مزيدا من القرابين فزاحفات الموت تريدهم بأعمار الزهور وحددت نوع أجسادهم بالغضة الطرية التى تخلو من شعر الحرام عليها !..
عاد مسرعا هكذا أراد ولكن حركته ما تزال متباطئة ثقيلة ؟؟ يلهث إلى بيته، يتفقد صغاره، وبأعلى صوته نادا على احد أطفاله فلم يجبه.. لم يكن موجودا..؟! نادا صارخا على أم العيال لم تجبه.. فالبيت كان خلاءً مهجورا مكفهرا ، جميع الأبواب كانت مفتوحة، وإبريق الشاي قد جفت مياهه على الموقد في المطبخ حتى بدأ يأكل في جسمه المعدني ففاحت رائحته النتنة.. فزاد من رعبه وخوفه ..فتش كالمجنون في كل ركن وزاوية انطلق إلى السطح حيث اعتادوا اللعب ، نزل بلمح البصر بثلاثة خطوات بدل عشرين ؟ خرج مسرعا بتثاقل يكاد أن يتمزق جلد جسده الملتصق بالأرض !هناك نحو تجمهر الأولاد حيث تُقدم القرابين المجانية؟؟ لا يرى من الجموع سوى هياكل تتحرك في كل الاتجاهات في ما أشبه بزوبعة هواء ،كانت ربكة حقيقية لم ينتبه للوجوه لمن تكون .. فهَمْه أن يسأل عن فلذات كبده قبل أن يكونوا قرابين عبثية، لمن تحو لقوا خلف الجدران بعيدا عن الزوبعة ..هناك على منصة مليئة بالأبواق وبالميكروفونات ...

تعثر بأحد أولاد الجيران مر قريبا جدا ولامس كتفه سأله أين ابني حسين هل شاهدته ؟هذا الشقي الذي من طيبته لا يسمع نصحي له ويصدق ما يقال من الجميع..!! أجابه وهو يُسرع الخطى مبتعدا رأيت زوجتك تدفع بنفسها بين الزحام إلى داخل عربة الإسعاف.. لم يعد يقوى على التفكير تلعثم لسانه وانعقد، هرع فورا إلى المستشفى بعد أن أوقف سيارة تعرف على سائقها من نبرة صوته الذي رد عليه التحية.. أوصلني إلى المستشفى يا جارى بحق الجيرة بيننا هكذا كانت جملته للسائق.. فانطلق يسارع الريح كما أراد، فقال الجار له محاولا أن يهدأ من روعه :لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا صدق الله العظيم، أراحته كثيرا سماعه للآية الكريمة فردد من خلفه صدق الله العظيم. ولكنه أردف قائلا لجاره ولا ترموا أنفسكم للتهلكة هكذا قال رسولنا الكريم ، فما ذنب أطفالنا ومن يغرر بهم من؟؟ رد عليه جاره السائق :صدقت يا جارى فنحن الأهل من آباء وأمهات لم نستطيع أن نلقن أولادنا هذه الحقيقة، وبأنهم لا يخدمون أحد بموتهم المجاني انه عبث وتضليل من أولائك المقامرون بكل شيء ..فكيف يزج بهم في الخطوط الأولى للنار ؟؟ فهل أصبح تعداد قتلانا أحد أسلحة المواجهة ؟؟....وما أن تلفظ بكلمة موت حتى فقد وعيه وبدأ يهذى من جديد ويتمتم بكلمات غير مفهومة في هذه المرة..فصمت السائق .

وصلا إلى المستشفى الصغير بالمنطقة ، وإذ بكتل كبيرة من الناس يراهم كأشباح لا يميز صورهم ووجوههم جيدا فاستدل على غرفة الاستقبال ونادا بأعلى صوته على أم العيال وصرخ كان مذعورا وفزعا، فهو لم ولن يقنعه أحدا في العالم كله بما يحدث من عبث ومقامرة بالطفولة وفلذات الأكباد فوقتهم لم يحن بعد !!..مرت ثوان وكأنها دهر مثقل بهموم الزمن المثخن بالجراح واللامبالاة والاستهتار، قد أفرغته الأرض هنا في هذا المكان.. صراخ وعويل في كل مكان...خطوات مسرعة وأخرى بطيئة تحوم في المكان كأنه موطن أشباح في عالم الخيال..

شاهده أحد معارفه من المخيم، كان يتجنبه في المدة الأخيرة !! فمن خاصية المخيم انه مع اكتظاظه بالناس إلا أنهم يتعرفون على بعضهم بسهوله فناداه قائلا: أبشر باللجنة فولدك حسين استشهد الآن وأنت الآن أبا الشهيد ..نظر إلية وقد ميز وجهه جيدا بلحيته الشعثاء المصبوغة بالحناء فصبغتها بحمرة كستنائية فأجابه ماذا تقول ؟!! أتقول طفلي شهيد .. ولدى شهيد ..أنا أبو الشهيد...أنا أبو الشهيد ...أصبح يهذى بعد أن انفطر قلبه على طفله الذي لم يتجاوز العاشرة بعد .. كان يريد أن يعده لخدمة الوطن بطريقته الخاصة بعد أن يعلمه في أحسن الكليات العسكرية كما يحب ويهوى، وها هو يتلقى من عابث يلهو بكلام أصم، فاقد للمعاني وللزمن والمكان..!! وهو على حاله من الهذيان وما تزال صورة المُبشِر له بالنبأ المفجع على قلبه أمام عينيه فكانت صورة ذقنه قد انطبعت في عقله الباطني على شكل ذقن ماعز !! وبشكل عفوي اندفع وراءه وبجهد كبير وتثاقل على الأرض وصله أخيرا وكان يحمل بيده خنجرا لم يعلم من أين أتاه...؟؟ وأخذ يغمس خنجره في جسد الماعز صارخا بعينيه وقائلا له: وأنت الآن ستكون شهيدا لأهلك وأطفالك فتدخلوا جميعكم الجنة مثلى .. فلا أحد أحسن من أحد .. لا أحد أحسن من أحد ، كان يقهقه بهستيريا وبهذيان فاق الخيال والتوقع.. استمر في تسديد ضربات متتالية له حتى غرقت قبضة يده وتلطخت بدماء سالت من خلال ذراعه إلى أسف ملابسه وتبلل كل جسده وشربتها ملابسه الداخلية والخارجية، حتى تلونت بالأحمر ثم انتقل كالمجنون ينتف بيديه مرة وبخنجره مرة أخرى ذقن الرجل.. صارخا إنها ذقن ماعز..ذقن ماعز.. وبدأ في إصدار ضحكات مجنونه، لا بل هي الجنون بعينه، فقد برزت عيناه كمخنوقة متهمة بالفجور وهى بريئة ؟ وهذيان بلغة أشبه بلوحة سريالية معقدة أو مفردات هندوسية غير مترابطة.. وأحس بثقل في قدميه وفى صدره ويكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وكانت صرخاته تجلجل السماء..

فزعت زوجته على صراخه الأخير قائلة بسم الله الرحمن الرحيم انهض يا رجل ..استيقظ ...هل كنت تحلم...نعم.. نعم لقد كان كابوسا.. وفي عجالة أحضرت إليه كأس ماء، فشرب وحمد لله ثم سادت لحظة صمت وسكون وخيل إليه بوسواس! فقفز من سريره كالبرق متجها إلى غرفة أطفاله، وما أن رآهم في نومهم اطمئن قلبه وجال بنظره تجاه ابنه حسين ذاك الشقي وبدأ في تلمسه، يريد أن يتأكد بأنه قد أفاق من كابوسه، وأن ما رآه ليس حقيقيا ... بكى وقهقه...ثم حمد لله .. كررها متجها بوجهه إلى السماء متضرعا ربه.. و زوجته من خلفه ما تزال تكتم ضحكاتها، مرددة سؤالها الذي بدا سخيفا له ما بك يا رجل استغفر الله...نعم...أستغفر الله العظيم أعادها مرتين ..

أشعل سيجارته وهدأ روعه واستعاد توازنه ووعيه وبدأ يحدث زوجته بما رأى من كابوس أثقل عليه أنفاسه.. وفى عصر نفس اليوم دعا أفراد الأسرة لاجتماع عاجل وبعد مضى نصف ساعة كان قد انتهى من إعطائهم درسا وتوجيها.. والتفت مؤكدا على طفله حسين فهمت يا ولدى أم أعيد عليك الدرس فأجابه نعم فهمت ولكن يا أبى وكما وعدتني أجابه وبماذا وعدتك يا شقي ألا تريد أن تنتهي من شقاوتك هذه؟؟ ردد عليه رغبته في دخول الكلية العسكرية عندما يكبر كما يحب أن يكون..فأجابه وعد الحر دين يا ولدى .. فابتسم طفله ورفع صدره عاليا ومضى يلعب وكأن الدنيا لا تسع خطواته حالما بأن يصبح ضابطا عندما يكبر.. و التفت إلى الآخرين فالأول نطق قبل أن يتفوه أبيه بكلمة أما أنا فكما وعدتني سأتعلم الهندسة البحرية في مصر لأعود لبناء الميناء البحري في غزة.. والآخر بدأ يُذْكر أبيه بأنه سيكون طيارا حربيا، وسيكون قائد أول دفعة تدمر قلب الأعداء وتدوس كرامتهم كما يفعلون بنا الآن، ونطقت أخيرا ابنته الخجول لتقول عكس ما يطمح إليه إخوتها فهى تريد أن تكون باحثة أحياء وبيولوجيا .. التفت نحوهم وألقى إليهم بنظرات إعجاب ومضى .....

وبينما هو يخطو خارجا كان يهمس إلى زوجته :هنا يكمن الفرق بين ذقن عالِم، وذقن ماعز ، أرادت الضحك وهى تعيد في داخلها جملته الأخيرة .. ولكنها سرعان ما تذكرت رؤيته للكابوس الذي كاد أن يخنقه الليلة .. وهنا لم تقوى على كتمان قهقهاتها، فانفجرت ضحكاتها مجلجلة في أنحاء المنزل، شاركها صغارها الضحكات وهم هناك ما يزالوا يلعبون ، كان هو قد غادر المكان وعلى محياه ابتسامة أمل ورجاء ، وشعور بالفخر مسبقا وقبل أن يحين أوانه...


 

عودة
أعلى