التصفح للزوار محدود

فلسفة الحب والجمال عند الرافعي

مهتمة

التميز


فلسفة الحب والجمال عند الرافعي
عز الدين بوبيش


إن نظرية الحب والجمال التي يمكن أن نسميها فلسفة تعبر عن
تجربة "الرافعي" الذاتية في الحب
الذي عرفه منذ أن خفق قلبه لأول مرة عندما إلتقى بـ "عصفورة"
عشيقته الأولى إلى أن غادر الحياة وعلى مكتبه رسالة فيها موعد إلى لقاء.‏

وهذه الفلسفة مبثوثة في كتبه:
"حديث القمر"، "رسائل الأحزان"، "السّحاب الأحمر"، "أوراق الورد"
وفي بعض المقالات التي ضمّها كتابه "وحي القلم".‏


ويحدثنا الرافعي عن العوامل التي دفعته إلى الكتابة
في فلسفة الحب
فإذا هو يرجعها إلى أسباب إصلاحية
تتساوق مع منهجه العام في الكتابة
وهذه الأسباب أشار إليها "الرافعي" في مراسلة جرت بينه
وبين الشيخ "محب الدين الخطيب" الذي ذكر أن "الرافعي" يقول:
"إن الحب ناموس لا يمنعه شيء وترك الكتابة فيه لا يمنعه وقوعه
والوجه أن يُكتب في إصلاحه وتطهيره، وتحويله إلى المعاني الروّحية
ليكون وسيلة سموّ وهذا ما فعلته وهو من بعض أغراضي في وضع هذه الكتب
وقد أفادت كثيرين في تصحيح اعتبارهم للحب.
"‏


نشأ الرافعي شاعراً مرهف الحس مفتوناً بالجمال
نبضات قلبه لا تخفق سوى للحب الذي عكسته كتاباته الشعرية
ودلّت عليه بدلائل تسمو فوق الغرائز والشهوات.‏


يعرف الرافعي الحب بأنه:
"قدرة الإنسان على قلب إنسان فهو من ثم قدرة على الكون المتصل بالعاشق
وهو بهذه القدرة أشبه بألوهية لو ساغ في الظن أن توجد ألوهية عاجزة عن كل شيء
إلا عن التصرّف في مخلوق واحد، وهو بكل ذلك إما حقيقة كبرى وإما سخرية كبرى.
"‏


يتبين من هذا أنه يقول عندما يعشق الإنسان ويتمكّن من قلب محبوبته
فهو لن يتمكن من قلبها فقط، وإنما من كل ما يتّصل بعالم هذه الحبيبة.
وهذه القدرة التي يقصدها "الرافعي" في نظري
لا تكون من طرف واحد الرجل أو المرأة كما يزعم "مصطفى الجوزو"
بل قد تكون هذه القدرة من حبهما وعشقهما
أي الرجل والمرأة معاً: إذ مجموع القوتين يمكن إطلاقه على أحد الطرفين
انطلاقاً من قول الرافعي:

"لا يصلح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا‏أنا "

أي يريد اتحادهما في الميل والهوى والحياة والخضوع
كأنهما تبادلا نفسيهما فنفس كل منهما انقلبت في الآخر
وهذه هي حقيقة الحب الكبرى التي يعنيها الرافعي
لأن الحب الناتج عن مثل هذا التفاعل
هو الذي يحقق الغاية المثلى للإنسانية.‏



وأما إذا جاءت القدرة من طرف واحد
ولم يحصل ذلك التزواج الروحي والاندماج النفسي التّام
فإن مثل هذا الحب يولّد بغضاً كبيراً بين المحب وحبيبته
وسرعان ما ينتهي ويجعلهما أكبر خصمين في عالم النفس.


الأمر الذي جعل الرافعي يقول عنه
سخرية كبرى.‏

فالحب عند لرافعي لا يتم إلا إذا تجاوزت نفسه ذاتها وحدودها
ونفذت إلى جمال ومعاني الحبيب
التي هي سر اكتشاف الحياة وتذوق الجمال والمعاني التي هي في الوجود.‏

وصورة الحبيب عنده
تزداد جمالاً بنظرة الحب التي تتجاوز الجمال الحقيقي للصورة
فتُؤَثرُ في ذاته بما تطوره من إنسانية وبما تخلقه من قيم خالدة
تعمل على تطهير النفس والسّمو بها.‏


وفلسفة الحب عند الرافعي
تلتقي مع فلسفة الحب عند ابن حزم
في النقطتين التاليتين:‏


1- إن الحب الحقيقي نابع من التمازج بين النفوس المتحابة
يرجع "ابن حزم" سبب الحب الحقيقي إلى التمازج بين النفسين المتحابتين
ويرجع الكره إلى التباين بينهما
ولذلك فهو يُعرّفه بعد أن يشير إلى من سبقه في بحث هذا الموضوع بقوله:

"وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أَذْهَبُ إليه
أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع
لا على ما حكاه "محمد بن داود" رحمه اللّه عن بعض أهل الفلسفة:
"الأرواح أُكَرٌ مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي
ومجاورتها في هيئة تركيبها، وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات
إنما هو الاتصال والانفصال والشكل دأباً يستدعي شكله والمِثْلُ إلى مثله ساكن
".‏


2- إن الحب يجمِّل الصورة ويزيد تطويراً في معانيها:
فابن حزم حين تحدث عن الحب القائم على العوامل الخارجية غير التمازج
أشار إلى أن اكتمال حسن الصورة وجمالها يكون بنظرة الحب يقول:

"ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب
ألا يستحسن الأنقص في الصورة.
ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره
ولا يجد محيداً لقلبه عنه
".‏


fa5796d554422fc2d5e942eb74d93cf0.jpg


وهذا الحب الذي يعنيه الرافعي ومارس من خلاله كتاباته هو
"مما يشتعل إلى ما يتنسم، من حب نفسك في حبيب تهواه
إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبرّه
إلى جانب الفضيلة في إنسان رأيته إنساناً فأجللته وأكبرته
".‏


فهو ليس كالحب المتعارف عليه عند أبناء جيله
إذ الحب عندهم "هو حيلة الحياة لإِيجاد النّوع"
ولكنه ( الحب) عند الرافعي
" هــــــــو حيلة النفس إلى السمّو والإشراق
والوصول إلى الشاطئ المجهول
هــــــــو نافذة‏ تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا وأهدافها البعيدة
وآمالها في الإنسانية السامية
هــــــو مفتاح الرّوح إلى عالم غير منظور تتنوّر فيه الأفق المنير
في جانب من النفس الإنسانية
هـــــو نبوّة على قدر أنبيائها فيها الوحي والإلهام
وفيها الإسراء إلى الملإ الأعلى على جناحي ملَك جميل..
هــــو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس
وينبوع الرّحمة وأداة البيان
"‏

" إنّه حب يشبه سجدة عابد وأفقاً طاهراً
إذا سَلِمَتْ فيه دواعي الصّدر، واعتدلت به نوازي الكبد
وتوثق فيه عقد النّية، واستوى غيبه ومشهده كان أشبه بقوة سماوية
تعمل عملها لتبدع من الإنسانية شعراً أسمى من حقائقها
كما كانت الإنسانية نفسها قوة عملت أعمالها لتبدع من حقائق الطبيعة
أخيلة أجمل من مادتها.
فشعر العقل تخلقه الإنسانية بالجمال
ومن ثم فالحب كالطبقة بين الإنسانية والإلهية
".‏


وليوضح الرافعي حقيقة الحب أكثر يقدم هذا المثال في قوله:
"فمن أحب ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها
كأنها خيال ملَك يتمثل له في حلم من أحلام الجنة،
ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية
وفي خديها توقُّد الفكر الإلهي العظيم
وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يُخَيّلُ للعاشق دائماً
أن شمس روحه تكاد تُمسي....
ورآها في جملة الجمال تمثال الفن الإلهي الخالد
الذي يُدرس بالفكر والتأمل لا بالحس والتلمس
فأعطاها كأنها روحه -فذلك هو الذي يَشعر بحقيقة الحب
ويفهم معناه السّماوي، وهو الذي يقول لك صادقاً مصدوقاً
إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب
كأنها صلصلة المَلَكِ الذي يَفجأ الأنبياء بالوحي
في أول العهد بالرسالة
".‏


ومن ناحية أخرى فالحب عنده
" كالانتكاس نحو الطفولة من جهة واحدة من جهات النفس"

فهو لا يرى
بين حب الابن لأُّمِه وحب العاشق لحبيبته فرقاً إلا في النضج
يقول الرافعي: "الطفل يرى في أمه البداية والنهاية
لأن طفولته ستار بينه وبين ما وراءها
وكذلك العاشق يرى في حبيبته بداية ونهاية معاً
لأن حبه ستار بينه وبين ماعداه
".‏


وهذه المفاهيم قد يكون الرافعي استوحاها من
العلاقة الطيبة التي كانت تربطه بأمه المتوفاة
فمن روحها المرفرفة في الأجواء كان يستقي معانيه
لأن واقع مجتمعه المُدنَّسْ لا يحتوي على هذه الصّفات
والمعاني فكان ذلك سبباً في ابتعاده عن الواقع

أو بمعنى آخر معالجة واقعه من خلال ما هو أسمى في طهارته
وهو في ظنّي ما جعل الرافعي
ينعتُ الحب بالعُبودية
ويجعله مبدأ العبودية الصحيحة للّه.‏



والخلاصـــــــــــــة

التي أنتهي إليها هو أن: الحب عند الرافعي
ليس من عالم الأرض بل هو سماوي وأسلوبه صوفي
إذا انخفض قليلاً وقع في طبقة بين الإنسانية والإلهية
وإذا ارتقى إلى منتهاه فهو يصل إلى الله وعبوديته.

واللغة وحدها
هي العنصر القادر على تجسيده.‏


ومن هاهنا
كان الحب عند الرجل مصدر إلهام لأهل الخيال
وناموساً مصوراً للقوة المتخيلة

يقول: "فإن ضجر أهل الخيال من الخيال لا يصلحهم إلا الحب".‏

فالقاء الحب الصحيح في قلب من خاطره الهوى
يعنــــــــــــي زيادة شعاع في العين
ويعـــــــــني إيحاء الفن إلى صاحب ذلك القلب يفهم به
سر الجمال في الصورة الشعرية التي يلبس منها الحبيب جماله
ويخرج من ذلك الفهم إلى فهم الطبيعة
ويدرك كل شيء من الجو الخيالي البديع المحيط به

فتشمل نفسه العاشقة على آفاق واسعة من
جمال الخليقة مادام في نفسه ذلك الحب.‏


وقد تصدى الرافعي إلى كثير من الدعوات والأفكار
التي كان أصحابها يهدفون إلى تخدير عقول الشباب به
يُصَححُ المفاهيم، ويُنَعِّتُهَا بالزيف والانحراف يقول:
"كل الصفات السّامية متى نزلت إلى الدهماء والأوشاب
وهذا الهمج الهامج في إنسانية الحياة نحلوها أسماء من طباعهم لا من طباعها
فاسم الفضيلة عندهم غفلة، والسّمو كبرياء، والصّبر بلادة والأنفة حماقة
والروحانية ضعف، والعفة خيبة، والحب اسمه الفسق
".‏


فبدون الحب الذي يعني إيمان النفس بكائن طاهر
لا يدرك الإنسان قيمة الأشياء
ولا يكون هناك أدب ولا فن جميل.‏

فحديث الرافعي عن موضوع الحب
يجره دوماً إلى الحديث عن موضوع الجمال
باعتباره منطلقه وغايته.‏


فهو يرى في موضوع الجمال رأياً جديداً
أوجبت عليه نفسه بيانه، لمَّا عجز عن تعريفه أسلافه وأقرانه
من الفلاسفة والعلماء والمفكرين يقول: "لو أنّي سئلت
تسمية لعلم الجمال لسميته: "علم تجديد النفس" فإن الجميل الذي لا يجدد
بمعانيه حواسك وعواطفك ويعيدها غضَّة طرية كما فطرت من قبل
لا يسمّى جميلاً إلاّ على لغة المجاز
" ـــــــــ
و"ليس بجمال إلا ذلك الرّوح الذي يرفع النفس إلى
أفق الحقيقة الجميلة
ثم ينفخ فيها مثل القوة التي يطير بها الطير
ويدعها بعد ذلك تترامى بين أفق إلى أفق
".‏


وهو إذ يُحَللُ هذا المفهوم
ويتعمّق في شرحه يتوصل إلى تحديد حقيقته
في قوله: "الجمال في حقيقته التي لا تختلف إنما هو معنى
من المعاني الحبيبة تعلق بالنفس فيحدث فكراً متمكناً
تتطاوع له هذه النفس العاشقة حتى ينطبع في أعصابها
فيستولي على الإنسان كله بجزء من عقله
ومن ثم يتقيد المحب بقيد لا فِكَاكَ له إذ لا يجد ما ينتزعه من
عقله أو ينتزع عقله منه إلا أن يموت أو يُجن
"

وبذلك يحدد الرافعي الجمال بمدى حدوث الفهم والتأثير
وثبوت هذا التأثير
فجمال نستحسنه بمقدار الفهم أي كلما ازداد فهمنا ازداد استحساننا له
فـ "هو جمال خاضع للإنسان ولا سلطان له إلا
بعض الميل والرغبة في النفس ومنه كل مناظر الطبيعة
".‏


وجمال نعشقه بمقدار تأثير الفهم فينا
أي كلما تاثرنا بذلك الفهم ازداد تأثيره في عشقنا.
فـ "هو الجمال الذي يُسَلَّطُ من ناحية ويخضع من ناحية تقابلها".‏

وجمال نُجَنُّ به بمقدار ثبوت تأثير الفهم فينا
أي بمقدار استمرار ثبوت هذا التأثير يتسلَّط الجمال على العقل فيفقده صوابه.‏


ولمعرفة الجمال يرى الرافعي
ألاّ نسأل عنه من يُحِسُّ الفكر والإبانة عنه !
ولاسيما إذا كان فكره فكراً مادياً
هو حقيقة عيشه في هذه الدنيا لأنه "إذا عرض له شيء
من جمال الطبيعة أسرع هذا الفكر المبتذل فملأ العين وأطلّ منها
فلا تنفذ صفة من صفات الجمال الطبيعي إلا بسلطان منه
فيرى هذا الإنسان الشيء الجميل وكأنه يُحَدِّثُ عنه نفسه الخرساء
بأصابع الأعمى الذي يتعرّف الأشياء بلمسها
وعلى مقدار ما في الإنسان من هذا الفكر القبيح يكون مقدار قبح الطبيعة الجميلة في عينيه
"‏


ولذلك فهو يدعونا إلى أن نسأل عنه
عاشقاً يُحسن الشعور والتعبير عنه
لأنه الشاعر بقلبه وفكره وحوادثه وحبيبته
ولأن النفوس هي التي تدرك قيمة الجمال.

وهذا الجمال الذي يحدثنا عنه الرافعي
هو مثال الجمال الكامل الذي لا يقرّه إلا مثال الحب الكامل.
ومن ثم فعبودية الحب هي عبودية للجمال.‏


كان لموضوعي الحب والجمال مصدران يستمد منهما الرافعي
صوره ومعانيه وهما "المرأة" و"الطبيعة"
فعليهما أقام فلسفته الأدبية دون أن يغفل الإطلاع على ما سبقه من كتب
خصصها أصحابها لمثل هذه الموضوعات.

ففي رسالة بعث بها إلى صديقه "أبو رية"
وجدتُه يطلب فيها منه أن يتصفح "إِخوان الصفا"
ويخبره عمّا إذا كانوا قد كتبوا عن الجمال
لأنه لم يقرأ من هذا إلا قليلاً

كما وجدته في حديثه عن الحب في كتابه "أوراق الورد"
يأخذ عن الفيلسوف الكبير "ابن سينا"

يتضح من هنا أن الرافعي عندما قال في كتابه "أوراق الورد"
بأن هذا الكتاب جاء لسدِّ المكان الخالي في الأدب العربي
لا يعني أنه لم تكن هناك كتب في هذه الفلسفة
أو في مثل هذه الموضوعات كما ذهب إلى ذلك
الدكتور "فتحي عبد القادر فريد "في كتابه" بلاغة القرآن في أدب "الرافعي"

وإنما وجد "الرافعي" فيما ذكروه فراغاً أدركه
فأتمه حتى يتحامى بالشباب عن مواطن الشبهات
التي زرعها الاستعمار أو كان يزرعها الملحدون
من معاصريه
في صفوفهم قصد القضاء على دينهم ولغتهم
ولذلك جاءت فلسفته تحمل بذور الإصلاح نحو الفضيلة
سمواً بالحياة نفسها وبحياة الأمة ويقظتها.‏

تم النقل
المصدر
http://www.startimes.com/f.aspx?t=18612275
مع الشكر
 

عودة
أعلى