التصفح للزوار محدود

كرسي أبي ...

كريم أبو العبد

Well-known member
كرسي أبي
almsloob-4ec5e71a7d.jpg
في وقت باكر من احد أيام الشتاء …. جلست بالقرب من موقدة البيت حيث السكون يخيم على أرجاء المكان …. أثار انتباهي كرسي والدي الهزاز …. ذاك الكرسي الرصين حيث يتربع في مكانه منذ سنين …. هناك كنت أنام في أحضان والدي بعيداً عن تعب وكدر الحياة …. استقي من أبي كلمات …. كلمات هي في ميزان البشر قد لا تعدو بجنيهات …. لكنها في نفسي ولدت ما في العالم من تحولات …. كنت آوي إلى والدي كي أنام قرير العين هانئاً بفيض تلك اللمسات …. فقد كان والدي رصيناً يبث فيّّ ما به من خلجات … نظرت إلى ذلك الكرسي وإذ به يشكو الوحدة خالياً من حياة … فقد كان هذا الكرسي عرشاً لملك البيت صاحب الحكايات … لكنه بات الآن ضعيف مهزوماً مركوناً مع باقي الحاجيات …. فلم يعد هناك ملك يصدر أحكام البيت لجميع الوزارات … اقتربت من ذاك الكرسي خائفاً كونه يخفي ما به من آهات …. وأخبرته أن يحكي لي قصة والدي مع هذه الجلسات … فأخبرني أن أبي من رجال العصر القديم …. حيث يهوى الكلام بدقة دون تجريم أو تهويل …. وأخبرني أن أبي يملك قلباً كبير … وأن الحديث في مدار والدي طويل يمتد حتى فجر الذكريات … فتراجعت أدراجي أبكي فرقة الألم وتركت الكرسي خالياً لا أحد يملك جرأة الجلوس عليه .
وفرع كريم الأصل قد عشقته
ووالد من ذات الأصل قد تفرعا
أبي صاحب الأيادي البيض في عونه
إذا طالعته في نظرة بدا لي متبسما
تعطي ولا تنقص بالبر تفضلاً
فأنت خير أب أعطى وتكرما
إذا المرء لم يكرم أباه فكأنما
غارت عماله عند باريه ولم تقبلا
رعاني صغيراً في المهد أمردا
وفي كبري جعلني برعما متفتحا
هو للخير مشاة حب وبلسما
وأنا بحبه المكنون أهوى التفردا
فيا رب مكني أن اشكر فضله
فأنت الكريم وأنا بعدلك متيقنا
كان أبي رجل في نفسه الدين يقيم …. وكان له مصحف خاص به …. وساعة بها كان يقطع لحظات الحياة … في كل يوم كان له ساعة مع كتاب الله بحضور ساعته التي تشهد له …. كان يتركني في الفراش ويذهب إلى ذلك اللقاء … لقاء مع رب الأرض والسماء على أسوار كتاب الإله …. وكنت اسمع ترتيله بهدوء مع سريان نسائم الصباح …. وكنت أتسلل إليه بهدوءٍ من فراشي …. وأحاول مداعبته لكنها سرعان ما كان يضع يده عليّ وسرعان ما أكن وأهدئ حتى يواصل تلاواته … وقبل حلول الفجر يقوم بأداء صلاة السحر …. ويريح نفسه من تعب أي سهر … وبعد مناداة الديك وآذانه بخروج صباح جديد وتأديته لصلاة الفجر ينادينا جامعاً إيانا في أحضان كلماته العذبة موصياً إيانا …. وحينها يصدر لنا مرسومه الخاص ببعض النصائح … وكان من بين جملة هذه النصائح أن يعطي كلُ منا الآخرين بصدق وإخلاص منقطع النظير …. ويحثنا على مواصلة الدراسة ويعدنا بما لديه من نفوذ قليل… وقد أخبرني أن سلاح العلم هو سلاح الفقير في مجتمع تكلؤه عناية التفريق والتمييز .

وفي ذلك اليوم الغريب طلب من أن أحضر دواةً وقرطاس …. وقال لي أكتب …. فقال : أي بني أعلم أن بالحب تتكاثر اللحظات …. ويفيض القلب نابضاً بدقات …. وبالحب تنتشر في هذا الوجود الكويكبات …. وتنهار سدود الحقد وتعم البسمات …. قال يا بني : أحفظ عني هذه الكلمات …. وانشرها بصدق مع جميع الأمنيات … ولا تكون ممن يجرون وراء الشهوات … فالحب من أجمل العبارات …. والحياة خاليه أن لم تكون تزهر بخالص النيات …. و عند بزوغ فجر أحد الأيام استيقظت من نومي … رفعت راسي من على قارعة سريري الذي أأوي إليه كل مساء وأعانق دفئه وحنانه … تبدد الشعور لدي بالوحدة عندما أفقت ولم أره أحسست أنني تائه في دنيا لم اعد اشعر بوجودي بها .. كان أبي رجل من رجال التاريخ القديم وكان يحسن قراءة الوجوه …. كان والدي رجل حكيم يقدر كل أمر بعقل راجح .. كان في ما مضى يخبرني عن خلق لابد له وان يعود … خلق تسموا به مشاعر البشر .. وتصفو به دنيا الأمل … وتنتحر به لحظات الكره والحقد لدى كل من فكر وقدر .. كان يقوم جميع أموري بكلام عذب دافئ .. ويقبلني ويحضنني بحنوٍ وحنان … اخبرني ذات يوم عن صدق الأب لولده وعطفه وحبه له … وان ما في النفس يعتمل ليس إلا جزءاً من مشاعر العطف والرحمة التي جبلت نفسه بها … عندها غارت الكلمات في نفسي وفاضت الدموع من عيني ولم اعد اشعر بالكون من حولي … فقدت شعوري عندها إلا شعور حبي لوالدي وفرحي بكونه والدي … والدي …. والدي … ذلك الأب الحاني … والأخ الموالي … والصديق الباقي …
ذات ليلة جلست معه في مخيلة أفكاري وإذ به يوصني … شعور لا املك معه إلا أن أقول لكل طريق بداية ولكل أمر نهاية … مثال الحب الصادق .. والشعور الفائق .. والإحساس الدافئ كنت أحس به أبا لكل تائه … وصديق ورفيقا لكل حائر ومساعدا ذكيا لكل محتار … يقذف كلماته التي لا تخطئ على كل أمر فترديه مكشوف الجانب مذعورا متلبكاً … كنت في نفسه دائما عندما كان يقطع المسافات من اجلي … وينتفض غبار التعب عن أكتافه بفرح وسرور ليعود إلي في المساء حاملا عبير وعطر سنة الحياة .. تلك السنة التي تعب من اجل تحقيقها .. وإبراز حقها عليه .. فقد كان يخرج باكرا نشيطا قويا حاملا همم الرجال الأشداء … ليعود بكل فرح وانشراح وبهاء … اخبرني بان سعادة الحياة لا تتحقق إلا بذلك الشقاء أو ما يسمى بالكفاح … كفاح يصارح معه تعرج الحياة ويصارع به قسوتها بكل سؤدد وشموخ .. وعند بزوغ فجر الصباح يقوم من على أريكته ليغمر وجه الطاهر بماء الحب لله .. ليصلي ركعتي السنة … وبعدها يمسك بكتابه الذي ضل ملازماً له طول حياته … ذلك الكتاب ذو السر العجيب … كان عندما ينتهي من القراءة به أرى نورا سطع من بين عينيه .. نورا كنت أحس بأنه تاج ملكه … انه ( القرآن الكريم ) الذي ما فارقه يوماً كأني به يعلم أن سر قوته كامن فيه …

في الساعة السابعة من كل صباح كنا نمشي مع بعضنا إلى ذلك المفترق من الطرق الذي عنده نتعاهد على الإخلاص في العمل ذلك المفترق الذي لطالما حلمت أن لا أقف عنده لكي لا أفارق ذلك النور الذي يكلؤني بالرعاية … رعاية الأب لولده … نفترق ليذهب هو إلى عمله الشريف وأنا اطلب العلم في دفتري البسيط بين مقاعد الدراسة الرثة التي إنما تدل على ماضي الأدب العريق لدينا ومن بعدها أعود لكي نلتقي في المساء على طاولة الحب والمشاعر الصادقة بعد انتهاء حق الحياة علينا … ونخلد قريري العين مرتاحي الضمير … وكأننا ملكنا وحققنا الكثير الكثير …..

كان عند كل فاقة تصيبه لا أراه إلا وهو ناظر إلى السماء نظرة أحس معها بفرج قريب له … وما هي إلا لحظات وينكشف الأمر وتبدأ الحياة من جديد مع بزوغ أمل جديد مشرق يلوح في الأفق … طوال عمري وأنا أحاول كشف سر والدي … وقوته العجيبة التي لا يملكها احد غيره … ولكن عبثا أحاول … كان عصيا علي معرفة هذا السر الإلهي الذي أودعه الله إياه … وكنت أقول في نفسي لعل الله أن يرزقني تلك القوة التي لطالما حاولت أن اكشف سرها …

لازلت أذكر ضحكته اللطيفة وبسمته الرقيقة …. تلك البسمة المليئة بالحب والعشق …. كان يطرق برهة في التفكير ليعود للكلام بعدها …. همساته كان تبعث في نفسي الأمل … وعباراته كانت تملئ قلبي بالفرح …. لحظات … كلمات … عبارات … لن ولن أنساها …
******
ربى أوزعنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك ....اللهم أرحم والديّ كما ربياني صغيرا .
منقول
تحياتي

:16::16::16:
 
رد: كرسي أبي ...

الله شيء جميل ما اجملها من كلمات وحكاية تذكرها بالماضي وعادات وتقاليد ماضينا الجميله
يسلمووووووووووو على هالنقل المفيد
كل التقدير
 

عودة
أعلى