التصفح للزوار محدود

البئر

البئر


الفصل الأول
المشهد الأول

كان القمر بدراً.. يسقط ضوؤه على الأطلال فيضئ جانبا منها..
والأحجار المتناثرة تبدو كأنها هرمٌ عتيق مبعثر..
والسور الحجرى المحيط بالبئر يحميها فى حدب وحرص..
وبكرة منصوبة يديرها الناس فيتوالى خروج الدلاء المترعة بماء البئر.. يصبونها فى أكواب ودوارقَ وصفائحَ تحملها أيادٍ كثيرة ممتدة..
صوت الماء يتناغم مع ضوء القمر الحالم..
ومن بعيد.. من " صافورة ".. ترتعش نقاط ضو صفراء.. ربما لمصابيح كيروسين تهتز ذبالتها.. وحديث خافت تهمس به ألسنة كثيرة قد تجمع أصحابها حول بئر " صافورة ".. تختلط الكلمات والحروف.. تتداخل الأصوات والمعانى.. تتلاشى الفواصل والحدود.. وتبقى الهمهمات وضوء القمر وصوت المياه..

على الأرض تمددت أجساد..
كل جسد تحوطه جماعة.. وكل جماعة تحمل إناء مليئا بالماء.. يأخذون منه ويمسحون أجساد الراقدين.. يصبونه على الرؤوس.. يشربونه.. يتطلعون لقمر "صافورة" الوضاء.. يتمتمون بأدعية وأوراد.. التعامل مع ماء البئر يتم بخشوع ومهابة.. هو طقس مقدس.. وُضُوءٌ لا تعقبه صلاة.. قد يرتفع صوت:
" والنبى يارب...... "
ويضيع باقى الدعاء فى الفضاء المغمور بضوء القمر..
يزداد الزحام حول البئر..
تمتلئ الأرض بالحصر والملاءات المفروشة.. يتزايد تألق القمر ليسكب من النور ما يكفى الجميع.. يتعالى اللغط.. يتوالى قدوم المزيد من الناس.. تختفى الأحجار التى تشبه الهرم العتيق المبعثر تحت الأجساد التى استخدمتها كمتكآت ومقاعد وأسرَّة.. يحجب الزحامُ ضوءَ المصابيح الخافت الذى كان يبدو من بيوت " صافورة ".. يحتجب سور البئر.. ولا يظهر سوى الزحام.. وضوء القمر.. تحدوهما همهمات الناس.. وصوت الماء.. وأمل لا ينقطع فى أن تحل بركة ماء البئر وَضَوْءِ القمر.. ليرجع الجميع مجبورى الخاطر..






المشهد الثانى

القمر بدرٌ..
والمنزل الحجرى القديم قابع تحت الضوء البارد الصافى..
وبابه المفتوح تخرج منه امرأة سمينة ترتدى ثوبا صيفيا خفيفا وتربط رأسها بمنديل فاتح تحوطه ضفيرتان.. ضوء القمر يتألق على جبهتها العريضة ووجنتيها المكتنزتين.. تميل فى خطوها يمنة ويسرة تحت وطأة استدارة جسدها وتكوره..
بضعة رجال يحملون جسدا نحيلا.. يقفون حين تخرج إليهم مترقبين توجيهاتها.. ينبعث صوتها متلألئا فتتألق ابتسامة كانت شاحبة على وجه القمر:
ـ أرقدوه على الحصير خلف الباب
= يا " ست شكور ".. دعينا نرقده فى الغرفة كما أرقدناه فى الشهر الماضى

فى الشهر الماضى.. حملته نفس هذه الأيدى إلى نفس هذه الدار.. دار " شكور ".. فى ليلة مقمرة كهذه الليلة.. بعد أن أُرْقِدَ هناك بجوار البئر.. ومُسِحَ جسده بالماء المبارك.. ولهجت ألسنة بدعوات لاهثة صاحبتها القلوب بالخشوع والرجاء..
فى الشهر الماضى.. حُمِلَ إلى بيتها.. وضَوَّى القمر على جبهتها وهى تخرج لاستقباله.. وتَنَحَّتْ عن الباب الذى سده جسمها السمين لتسمح لحامليه بإدخاله.. ومضت خلفهم ترشدهم :
= الحجرة اليمنى.. السرير أسفل النافذة.. ألف سلامة عليه..
وأُرْقِدَ المريض.. وفى ضوء القمر ظهرت ملامحه الباهتة.. شاب صغير.. عشرون عاما أو أقل.. جفناه مواربان.. شفتاه جافتان منفرجتان.. وجنتاه خاسفتان.. جسمه الممصوص ينضح مرضا واستسلاما.. وتأوه خافت ينبعث منه بين حين وآخر..

كان هذا فى الشهر الماضى.. فى ليلة قمرية صافية كهذه الليلة..
= الحجرة هذا الشهر بها ثلاثة ياحاج.. وعلى عينى نومته خلف الباب..
ـ ينام معهم..
= وهل يصح؟ هن حريم يا حاج!
ـ أى حريم وأى رجال؟ هم جميعا كومة عظام!
= الشهر القادم ـ إن عشنا ـ سأجعلها من أجل خاطره " رجالى "!
ـ أوَسنأتى الشهر القادم أيضا؟
= لم تأتِ غير شهرين يا حاج..
ـ لو أننا فقط وجدنا نتيجة..
فى ضوء القمر جلس الجميع القرفصاء.. وظلال بيوت حجرية صغيرة كبيت " شكور " تستلقى على الأرض فى وداعة.. ويفرش القمر مستطيلات نور مختلفة المساحات تتمدد إلى جوار مستطيلات الظل.. ثم لا تلبث أن تستحيل إلى أشكال ممطوطة ومائلة من الظل والضوء كلما ازداد انحدار القمر نحو الأفق.. ونسيم مرح يدور ويميل ويسرع ويبطىء مباهيا بحريته..

الكل مجبرٌ على العودة..
نضبت الجيوب.. واستنزف الأطباء كل ما ادُّخِرَ من قروش.. وتجرع المرضى أدوية لم يكن لها أثر سوى إفناءِ الدخول القليلة.. وبقى المرضى يعاقرون آلامهم.. وأُعِيدَ تشكيل خريطة الأحلام.. واستُبْدِلَتْ بأسماء الأطباء بئرٌ! بئرٌ يحوطها سور حجرى قديم! واستبدلت بزجاجات الدواء جرعات ومسحات من ماء البئر المباركة!
= ستجد نتيجة بإذن الله.. البعض يأتى بدلا من الشهر عشرة.. والكل يعود مجبور الخاطر..
ـ لست غريبة يا " ست شكور ".. الانتقال يكلفنا مبالغ تجهدنا.. عربة مخصوص من آخر الدنيا.. والطعام خارج الدار غالٍ.. غير المبيت والشاى.. وأنا لم ألجأ للبئر إلا بعد أن أنفقت كل مالدى.. ولم أعد أملك ما أدفعه للأطباء..
زاد حنو الصوت المتلألئ الشفوق:
= لا تحمل هما ياحاج.. لن آخذ منك مليما
ـ لم أقصد ذلك يا....
= الخير كثير هذا الشهر.. والحجرة مشغولة بثلاثة مرة واحدة.. والونس مالئ الدار.. وأنا واللهِ أسعى للصحبة أكثر مما أسعى للفلوس..
" لا تمنعى البركة عن أحد يا شكور يا بنتى.. النعمة من الله وليس لنا فيها شئ.. إن منعناها تزول والعياذ بالله "
يالدفء الليالى القمرية!
ناس.. وأصوات.. وأبواب تـُفْتَحُ وتقـفل لثلاث ليالٍ كاملة.. ووَقْعُ خطوات يعزف نغم الونس والصحبة.. وحناجر تنطلق كل حين لتنادى: " ياست شكور ، ياست شكور "! وإبريق شاى يبقبق دوما على وابور جاز.. وملاعق تذيب السكر وتدغدغ الأكواب فى شقاوة.. ورائحة طعام تنبعث مختلطة بروائح القرفة والحلبة.. ودجاجات سمان تذبح أعناقها لتختلط رائحة ريشها المنزوع بباقى روائح الحياة المنبعثة من الدار.. وشيئا فشيئا تتهذب الروائح كلما اقترب موعد الغداء.. " والست شكور " تروح وتجئ مشمرة عن ساعديها المكتنزين.. ويتردد صوتها المتلألئ العذب الودود فى الآذان.. وتحمل القلوب عرفانا كلما سمعت جملة:
" من عينىّ "!

= ألم تتزوجى يا ست " شكور "؟
ـ بلى ، تزوجت.. لكنه ذهب للحرب....
" لا تخافى يا شكور.. قليلون من لا يعودون من الحرب.. والكثير يعود "
وكان " هو " من القليل الذى لم يعد! ترى أى تراب ضم جسده؟ وهل كان عليه حنونا مثلما كانت هى؟

مرت تلك الأيام وانقضت.. حين كانت " شكور " تنتفض كالملذوعة كلما ضبطت نفسها متلبسة بالاستكانة بينما الحبيب ملقى هناك.. لاتدرى أين؟ لاتدرى بماذا أحس حين جاء الأجل؟ لاتدرى فيم فكر؟ لاتدرى كم مَرَّ من الوقت وكم عانى من العذاب قبل أن يضمه الله إلى رحابه؟ تنتفض حيرة وهلعا.. رفضا وغضبا.. ونارٌ فى القلب تكوى.. ورغبة عارمة فى إيذاء النفس.. فى تحطيم أى شىء.. فى التنفيس عن الصهد المدفون فى الجوانح.. راح السند والصدر الحنون والحضن الدافئ.. وتشق صرختها الفضاء الواسع حول " صافورة " لتناديه.. لكنها ـ أبدا ـ لا تصل إليه.. ودائما يعود نداؤها مهزوما مقهورا.. ومرةً بعد مرةٍ.. هزيمةً بعد هزيمةٍ.. يتهيب الصوت المنادى قبل أن يغادر حنجرتها.. وتنحسر مفردات الحزن المبعثرة خارج القلب.. وتعود لتدخله فى انكسار.. تسكن فيه.. تتحوصل.. تكمن.. وتصبح جزءا منها.. من: " شكور ".. التى كان لها ـ يوما ـ حبيب!
= كثيرون راحوا فى الحرب.. شباب كالورد..
ـ نعم ، كالورد..
هُيّئ للشيخ أنه سمع تهدجا باكيا فى صوتها.. تأملها بعينيه الواهنتين فى ضوء القمر المراوغ.. فلم يرَ إلا ابتسامتها تتلألأ على شفتيها الودودتين..

" انقضى وقت البكاء.. وجثم الوقت الذى لا ينقضى إلا بانقضاء العمر.. وقت المداراة واصطناع الراحة وادعاء النسيان.. ومجاراة الناس فى أحاديثهم ومسامراتهم.. "
أخرجها آذان الفجر ـ الذى جاء نديا كأنما نزل عليه القَطْرُ ـ من أشجانها.. نشطت لحلول الفرصة لكى تؤدى عملا.. مدت يدها خلف الباب وسحبت حصيرًا اصطف عليه البعض.. وتوارت هى داخل البيت بينما كان الإمام يردد:
= الله أكبر..










المشهد الثالث

الشمس تسطع..
تسكب نارها على بئر" صافورة "..
وتحت وطأة ضوئها المبهر تفقد الأطلال مهابتها.. فالأحجار التى كانت تبدو جليلة كهرم عتيق مبعثر صارت فوضى تنتقص من سموِّ المكان.. والرمال فى وهج الشمس تلوح جافة شديدة القسوة.. والسور الملتف حول البئر يبدو كأنه يخنقها!
مفردات رعناء لمشهد استفزازى سخيف!
الساحة خالية..
كأنما سحب القمر معه أحباءه حين ذهب..
المهابة والقدسية والخشوع والراحة.. كلها رحلت معه.. وصار كل شىء عاريا مجردا..
الحجر أسفر عن حقيقته كجماد.. والرمل صرح أنه ضد الرى والإنبات.. والبئر تبدو جافة راكدة.. والسماء أعلنت سخطها على كل هذا المشهد ففتحت طاقات الحر لتحرقه بلهبها!
صمت تام صارم ثقيل.. يتواءم مع كل المفردات القاسية..
ومن بعيد.. تلوح بيوت " صافورة " ساكنة صامتة هى أيضا.. ونخْلات قليلة لم يتح الظلام من قبل أن نلحظ وجودها.. واقفة كمردة تحرس ساحة القسوة..
هُوَ هُوَ.. نفس البئر..
وهى هى نفس الأرض..
لكن.. حين تتم استدارة الوجه الحالم المضئ فى السماء.. وتمتلئ ساحة البئر بالمريدين.. تنبض الحياة رقيقة لينة فى هذا الكيان الليلى.. وتتناغم همهمات الناس مع خرير المياه العذبة فيكثر الحب ويسود الرضا..

وتحت لهب شمس الصحراء الطاغية.. يُسْمع صوتٌ.. صوتٌ يتفق والمشهد النهارى الملتهب.. هدير آلة.. يزداد.. يقترب.. صيحات مستنكرة تكسر جو العزلة.. يقترب الهدير أكثر.. تزداد الصيحات ذبحا للحناجر.. توشك الآلة أن تظهر حين يندفع الرجال نحو البئر.. يلتفون حول سورها الحجرى العتيق.. يتصببون عرقا.. يتفجرون غضبا.. الجرافة تمضى فى سماجة والأكف تدق على جسمها.. تتمادى فى التقدم.. يتمادون فى الدق.. يندفع البعض أمامها.. يتمترسون ملوحين صائحين فى قائدها:
= ماذا تفعل؟
تتوقف أخيرا.. يقفز شاب إلى داخلها ويمسك بتلابيب السائق:
= لن تتحرك خطوة! والله العظيم أقطع رقبتك!
يقفز آخرون وراءه بينما يتجمهر الباقون حولها.. يصبون جام نظراتهم على سائق الجرافة.. يزعق شيخ مناديا آباء الشباب ليأخذوهم ويقصروا الشر.. تمتد أيدى لتبعدهم عن السائق وهم ينزعونها عن أكتافهم فى غضب.. تزداد ثورتهم كلما ازدادت محاولات إبعادهم..
يظهر الضابط وعلى كتفيه النجوم تتوعد! ينظر فى صلف للشباب الثائرين الذين فاجأهم ظهوره فوقفوا مبهوتين يرددون نظراتهم بينه وبين سائق الجرافة الذى خرج صوته لأول مرة.. فشكى وبكى!
= خذوهم من هنا فورا! وكل من ينوى أن يفعل مثلهم يعقل أحسن له! لن أكرر كلامى مرة ثانية!
العساكر يتقاطرون.. يتراصون ـ بلا مبالاة ـ مشكلين دائرة حولهم..
= ياحضرة الضابط نريد فقط أن نفهم!
قالها شيخ يذوب انكسارا.. يبتسم ابتسامة التضاؤل التى حُفرت على شفتيه.. وما عاد قادرا على أن يبتسم غيرها..
ـ من رحمة ربنا عليكم أننى صبور! سأفهمكم! ولو أننى واثق من أنكم تفهمون فعلا وتدَّعون عدم الفهم.. لكن لابأس سأفهمكم..
= الله يخليك يابنى
يدعو الشيخ مستجديا رحمته!
ـ هذه الجرافة ( وأشار بيمناه ) ستردم هذه البئر ( وأشار بيسراه ).. لأنها كما تعلمون بئر ملوثة بمياه الصرف الصحى.. ولاهى مباركة ولا غيره!
تموج الحشد.. لاح الغليان فيه..
= الاستشفاء
= قطع الأرزاق
= منكم لله
=.....
=....
تقاطعت الاعتراضات فلم تصل غير جمل مبتورة.. عم اللغط.. زادت حركة الغليان فى الحشد الذى كان قد سكن بظهور الضابط.. يقفز من الجرافة الشاب الذى كان قد أمسك بتلابيب السائق.. يندفع نحو الضابط فى قفزة نمر.. يتراجع الأخير مشيرا لعساكره.. يمسكون به.. يتكاثرون عليه حين يوشك على الإفلات.. يطرحونه أرضا.. تدق أحذيتهم الغليظة جسده.. ترفس وجهه.. تصرخ امرأة ملتاثة:
ـ آه يا " رفاعى " ياابنى!
يجرها الأهالى بعيدا وصراخها يزداد عنفا..
ـ كله يخرس .. لن أحذر بعد الآن
يهدر صوته كجرافة تجتث حقهم فى الدفاع عن بئرهم..
شبابٌ ينتفضون ليتخلصوا من الأيدى الكثيرة التى تحكم قبضتها عليهم لتنقذهم من غضب صاحب النجوم المتوعدة.. والشيوخ يتقيأون حكمتهم ويناشدون الأهالى أن يهدأوا ويقصروا الشر ويخافوا عى عيالهم..
الضابط يشير لجنوده فيهرولون.. وجوههم تقطر بؤسا.. ملابسهم متهدلة واسعة حائل لونها.. يصدعون لأوامره بحماس.. يتراجع الناس أمام هراواتهم.. ينقضون على من يرفض المغادرة.. يقبضون على أطواق جلابيبهم ويطوحونهم.. يجرُّونهم.. تشوب وجوههم مسحة من الرضا لقدرتهم على البطش بالضعفاء!!
تمتلئ سيارات " بوكس " بالرافضين وتجرى بهم إلى حيث لايدرى أحد.. ويجرى خلف السيارات آباء وأمهات واخوة وأبناء يبحثون عن ذويهم.. وتهوى أكف على وجوه وأقفية.. وتُذْبَحُ نفوس كانت كريمة.. وتنطلق ألفاظ نابية.. وتظهر كدمات وتقطر دماء دفاعا عن " أكل العيش ".. ويحتدم الأمر.. وتدوى طلقات.. وتنفجر قنابل تقرح العيون.. وتعوى سيارات إسعاف.. ويتفرق المتمردون..

ضُرِبَ الحصار حول البئر..
العساكر حاملو الدروع والهراوات.. شكلوا دائرة مركزها سور حجرى عتيق تعلوه بكرة بدائية.. والساحة أخليت تماما.. والعربات التى حملت الرافضين فاغرة أفواهها تنتظر فى شماتة ترحيل المزيد منهم..
دائرة العساكر ثابتة كأنها قدت من حجر.. لايزحزحها شئ حتى ولاصوت الضابط الذى عاد للارتفاع :
ـ إياكم أن يطأ احد هذه المنطقة
يخرج غير مكترث بالتحيات العسكريات المباركات التى " ضربها " له ضباطه وجنوده.. وبمجرد انفلاته من الدائرة ينتاب الضُّبَّاط الأصغر سناً ورتبة إحساسٌ بالعظمة يتناسب طرديا مع كم البريق على أكتافهم.. يتركون الجمود الذى سيطر عليهم ويبدأون فى التحرك.. طواويس تتبختر فى كِبْرٍ.. تنظر بشموخ.. تتحدث فى أجهزة اللاسلكى..
يصدرون أوامرهم فتنفتح دائرة الحصار قليلا..
يدخل بعض المدنيين العظام.. يفحصون المنطقة.. ينظرون فى ارتياب إلى بعض الأحجار.. يرمقون ذرات الهواء! يمدون رؤوسهم فى فوهة البئر.. يديرون البكرة ويملأون الدلو.. يتشممون المياه بتركيز..
ـ كريهة
ـ وعكرة
ـ التلوث واضح بالعين المجردة.. لسنا ـ حتى ـ فى حاجة لتحليلها!
ـ لا ، هات عينة لنكتب التقرير.. اف! رائحتها كريهة جدا!

الضابطان الباقيان.. ينظران خلال النظارات المعظمة.. يقفان على الأحجار ويتطلعان نحو بيوت " صافورة " الرابضة هناك.. يتجاهلان تعليقات المتزاحمين حول الدائرة:
ـ والله يا باشا البئر مباركة.. ذقها سيادتك
ـ أجيال وأجيال استشفت بماء البئر.. هل يَحْتَمِلُ المرضى شرب ماء المجارى؟
محللا المياه مازالا ينظران إليها.. يضعانها فى زجاجات.. يرفعانها نحو الشمس وينظران فيها.. يلتفت أحدهما للآخر ويهزان رأسيهما قرفا وأسى!
الزحام الذى استسلم بعد إقصاء قواده وشجعانه بدأ يمور من جديد فى أحد جوانبه.. ينشق فى هدوء.. يُسْمَعُ صوت امرأة:
= ابعد انت وهو.. أنا سأحدث حضرة الضابط
ـ ارجعى يا " شكور ".. مالك والرجال؟ " اختشى " عيب!
= " أختشى "؟ هذا أكل عيشى.. لابد أن أحدث الضابط..
ـ حدثناه كثيرا.. ولا مجال لحديث النساء!
انصرفت عنهم وهى تمصمص بشفتيها.. بينما تطل عيناها الودودتان من فوق كتف أحد العساكر المتحلقين.. ينبسط وجهها بابتسامة وضاءة حين ترى الضابطين الشابين
= بسم الله ماشاء الله.. خلقتما لتكونا ضابطين!
لايملك الضابطان إلا الابتسام أمام ابتسامتها الرائعة.. يعتدلان.. يتأملانها وقد أطربهما الإطراء!
= سامحانى لجرأتى.. فأنا امرأة طويلة اللسان! لكنكما فى عمر أبنائى!
تنظر للعسكرى بعينيها العذبتين وتدفعه برفق لتدخل للضابطين اللذين يشير أحدهما للعسكرى أن يدخلها.. فتدخل داعية لهم:
= ربنا يسعدكم يارب! أتريدون شايا؟ سأعد لكم الشاى!
يفجؤها صوت أحد الضابطين المدوى:
ـ تأتين من آخر الدنيا وتثرثرين وتفسدين النظام لتصنعى شايا؟ هل نحن فى مقهى؟ أم أنك بلهاء؟
= نـ... نعم.. مقهى ومطعم.. وفُرْ.. فُرْد.. فردق! أليس اسمه: فُرْدُقا؟
يبتسم النقيب " محيى ":
ـ تقصدين فندقا!
= سآتى لكم بالشاى.. فأنا لاعمل لى إلا ضيافة الوافدين إلى بئر " صافورة "
مازال الضابط العابس مستثـقلا وجودها:
ـ اذهبى يا حاجة.. لانريد شايا..
قاطعته وابتسامتها المتسللة للقلوب لا تفارقها:
= لا مؤاخذة ياحضرة الضابط .. اسمى: " شكور " ولم يكتب الله لى الحج..
ـ تحجين إن شاء الله!
يدعو لها " محيى " وهو يتأملها فى فضول بينما العابس يرمقه بغيظ!
= لا أظن.. فالحج أصبح مكلفا و....
ينتبه " محيى " حين يلكزه زميله ويؤنبه:
ـ هل ستستمر فى هذا الحوار طويلا؟
= دعنا نقطع الوقت حتى يصل الباقون..
تفرك " شكور " يديها وتتسع ابتسامتها:
= أوَ ننتظر ضيوفا آخرين؟ سأبشر الأهالى إذن.. فنحن لا نرتزق إلا فى الليالى القمرية فقط.. وعلى قروشها نعيش باقى الشهر.. لكن ربنا جعل الخير فى قدومكم نهارا..
" يالك من خبيثة! "
ـ ألا تعملون باقى أيام الشهر؟
= فى الليالى القمرية فقط يأتى الناس للبئر.. ونؤجر منازلنا لهم لثلاث ليال.. وحين يرحلون تكون البيوت قد اطمأنت إلى ما يكفيها لباقى الشهر..
ـ ولماذا لاتخرجون للعمل خارج " صافورة "؟
= خرج البعض.. لكنهم سرعان ماعادوا.. ضاق الرزق وكثرت الأفواه.. وتقلصت فرص الكسب.. نحن هنا والحمد لله مستورون.. فالبئر مباركة وتكفى كل من يسألها! ومن يوم أن جاورها الناس وعمروا أرضها وهى تمنحهم الخير وتسترهم!
ـ وأنت يا " شكور " كيف تعيشين؟
= أمتلك " فُرْدُقاً "!
ـ تقصدين: فندقا!
= أقصد المكان الذى ينام فيه الغرباء
ـ نعم.. اسمه: فـُ نـْ دُ ق.. لكن هل فى " صافورة " فنادق؟
= ملآنة!
الدهشة تجذب العابس للمشاركة فى الحديث:
ـ أليست " صافورة " هى تلك التى نراها هناك على مرمى البصر؟
= بلى.. هى!
يعتلى حجرا كبيرا وينظر خلال نظارته المعظمة نحو " صافورة " ثم يحتج:
ـ أية فنادق؟ ماهى إلا بيوت صحراوية حجرية!
= نعم! بيوتنا!
ـ أين الفنادق إذن يا سيدة الأعمال؟
= بيوتنا هى الفنادق.. نؤجرها للغرباء فى الليالى القمرية..
يتبادل الضابطان ابتسامتين.. إحداهما ابتسامة إعجاب والأخرى ابتسامة سخرية..
ـ أوليس لكم عمل آخر غير الفنادق؟
= لنا طبعا.. فى أيام الضيافة نطبخ ونعد الشاى والحلبة والقرفة.. ونؤجر الحصر والملاءات.. ونملأ الأوانى من البئر.. و...
ـ وماذا ستفعلون بعد أن نردم البئر؟
= تردمون البئر؟!
دقت " شكور " على صدرها
ـ يالك من خبيثة! أولم تعلمى أننا سنردمها؟
= بلى.. علمت.. ولكنكم لم تكونوا تعلمون أهمية البئر لنا.. كنتم تظنونها مجرد بئر عادية..
ـ نعم.. لم نكن نعلم.. لكن علمنا لن يغير شيئا!
= كيف؟!
ـ نحن يا ست " شكور " لم نقرر ردم البئر.. القرار أصدرته جهات أخرى.. نحن فقط ننفذ.. ولا نستطيع ألا ننفذ!
استدعت " شكور " ابتسامتها الراجية التى كانت قد غاضت:
= لكنكما لن ترضيا بقطع عيشنا..
ـ نعم.. هذا....
يتلعثم " محيى " فيرميه العابس بنظرة مغيظة.. ويقاطعه مثبتا عينيه فى عينى " شكور ":
ـ ولكننا سننفذ!
يقولها ببطء وهو يضغط على الحروف ويظهر أسنانه العلوية والسفلية معا!
تنظر " شكور " للضابط " محيى " فيدير وجهه متحاشيا وقوع عينيه فى عينيها..
" القتل الرحيم.. لكى نحافظ على صحة أهالى صافورة علينا أن نقتلهم جوعا وفقرا.. نعم.. لكى لا يجد المرض إليهم أى سبيل.. يالها من مهمة شريفة! "
ينهض العابس متمتما:
ـ اقترب موعد وصولهم
يلتقط " محيى " عصا رفيعة ويأخذ فى النقش على الرمال.. تتابع " شكور " ما يدور حولها فى حيرة.. تجفل حين تتقدم أعداد هائلة من العساكر.. يخبطونها.. يدفعونها.. أصوات الأهالى ترتفع:
ـ ربنا هو المنتقم!
تدور " شكور " بين العساكر باحثة عن " محيى " ويدور هو باحثا عنها.. صوت الجرافة يهدر ثانية.. يشير العابس فتتحرك جرافة ثانية.. ينخفض ذراعها ويَجْرِفُ الرمال متجها نحو البئر.. بينما تدور " شكور " باحثة عن " محيى "..
نجلاء محرم
 
يسلموووووووووووو ياموووووووووووو على هالمشاهد الحلوى
احترامي
بنت التحدي
 

عودة
أعلى