نظم محاكاة كومبيوترية لحل كل المشكلات تقريبا

مكّنت التطورات الهائلة في الكومبيوتر والمعلوماتية، من استعمال الحاسوب في التعامل مع الظواهر الطبيعية والكونية التي اعتاد العلماء على مراقبتها ودرسها بصورة مباشرة. ويرجع الفضل في ذلك إلى تطور نُظُم المحاكاة الافتراضية Virtual Simulation إلى حدّ يتيح «تقليد» الظواهر الاجتماعية والسياسية (وكذلك الطبيعية) بواسطة التقنيات الرقمية. وبقول آخر، لقد أصبح الحاسوب نوعاً من «البديل الافتراضي» الذي يمكن استعماله لدرس العلاقات المعقدّة وتركيباتها في البنى الاجتماعية ومعطياتها المتشابكة، والأشياء الحيّة وتطورها وتفاعلها بعضها ببعض، والأدغال والسهوب والحقول، والمكوّنات الداخلية الدقيقة للذرّة، وحتى الفضاء الكوني ونجومه ومجراته وقواه وغيرها. وعلمياً، تُسمى تلك المقاربة «تحليل الشبكات المعقدة»Complex Networks Analysis.الاعتماد على نظرية الأشكاليعتمد «تحليل الشبكات المعقدة» على نظرية الأشكال Graph Theory التي تنتمي الى علم الرياضيات. وتختص بدرس العلاقات المعقدة وتشابكاتها مع إعطائها أشكالاً بصرية مناسبة، ما يوضح التفاعلات بين مكوناتها المختلفة. وطبقا لهذه النظرية، من المستطاع وصف أي شبكة اجتماعية أو منظومة طبيعية بوصفها «شكلاً» يتكون من مجموعة من الكائنات أو العناصر التي تربطها صلات معينة. ويمكن لهذه الروابط ان تكون موجهة أحياناً.ويصبح من المستطاع وصف جماعة ما بأنها مجموعة محدّدة من الأفراد تربطهم علاقات اجتماعية وتعاملات اقتصادية وقيم أخلاقية، كما يؤدي كل منهم وظيفة معينة. ويجدر التنبّه أيضاً إلى مدى تأثر عمل هذه الشبكة بالتفاعلات والعلاقات التي تحتوي عليها. فمثلاً، يتكوّن النظام السياسي عموماً من السلطة الحاكمة وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وجماعات المصالح الخاصة وقوى الضغط وعامة الشعب.ويمكن وصف الطبقة الحاكمة، في دولة مثل مصر، بأنها مجموعة من أصحاب المصالح يؤلفها خليط من العسكر والساسة ورجال الأعمال والإعلام والدين. ويتحدد أداء السلطة السياسية وطبيعتها طبقاً للعلاقات الاجتماعية والمعاملات الاقتصادية والقيم الأخلاقية التي توجد بين هؤلاء الأفراد.وعلى المنوال نفسه، يمكن وصف جسم الإنسان بأنه شبكة معقدة من الأنسجة الحيوية التي تتكون بدورها من شبكات متماسكة من الخلايا التي توجد بينها تفاعلات كيماوية تحدد عملها، وبالتالي رسم صورة عن وظائف الجسم وصحته ككل.وعلى غرار ذلك، نستطيع وصف مجرة «درب التبّانة» التي تنتمي إليها المجموعة الشمسية، بأنها شبكة من النجوم والكواكب والأقمار والتوابع والمذنبات الكويكبات وغيرها من الأجرام التي تفصلها مسافات معينة وعلاقات تجاذب محددة، ما يرسم صورة عن عمل النظام الشمسي بصورة إجمالية.
وتوضح هذه الأمثلة إمكان الاستعانة بـ «نظرية الأشكال» لحل كثير من المسائل العلمية المتصلة بالبنى الاجتماعية أو النظم الطبيعية. وأدت هذه المقاربة الشبكية إلى نتائج علمية دقيقة في تفسير أشياء مثل الذكاء الاصطناعي، والشبكات العصبية وتركيب الجينات وغيرها. كما أدت أيضاً إلى تقليل الهوة بين الطرق المختلفة المستخدمة في تفسير المعطيات الاجتماعية والطبيعية، لجهة النمذجة العلمية وتصميم المفاهيم وبرهنتها واثبات النظريات بطريقة كمية واضحة.
المعلوماتية وتطبيقات نظرية الشبكاتاعتماداً على ما تقدم من أمثلة، يمكن القول إن الكومبيوتر (وكذلك محركات البحث التي يسرت الدخول الى قواعد البيانات العلمية) وضعت بين أيدي العلماء أسلوباً مبتكراً من البحث يستند الى تكنولوجيا المعلومات، عبر العناصر الآتية:> تطوير نظم محاكاة حاسوبية للعلاقات والتفاعلات التي تتم بين المكونات والمتغيرات المختلفة لهذه الشبكات. ومن هذه النظم «أغنا» Agnaو«نتورك وركبنش» Network Workbench و«باجك» Pajekو «غراف فيز» GraphViz وغيرها. وتتوافر بعض هذه النظم مجاناً أو كنظم مفتوحة المصدر.> القدرة الهائلة لتكنولوجيا المعلومات على معالجة المصفوفات التي تحتوى بيانات عن شبكات ذات أحجام ضخمة.> استخدام التكنولوجيا الرقمية في تصنيف المعلومات الخاصة بشبكات الارهاب والجريمة المنظمة والجماعات الافتراضية وتخزينها ومعالجتها والتفاعلات بين مكونات النظم الطبيعية.> أصبحت الإنترنت وشبكات الهاتف ونظم والاستشعار وتقنية «تحديد الهوية باستخدام موجات الراديو» (تعرف بمصطلح «رفيد» RFID) وغيرها من الوسائل الأساسية لجمع المعلومات عن الشبكات الاجتماعية والنظم الطبيعية. فعلى سبيل المثال يجري راهناً تحليل ملايين المكالمات الهاتفية في سياق حل لغز اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. كما تستخدم نظم الاستشعار والأقمار الاصطناعية في تجميع بيانات عن المتغيرات المناخية.واتجهت كثير من الجامعات المرموقة، وخصوصاً في الولايات المتحدة، إلى تدريس هذه المقاربة الشبكية لطلبة علوم الحاسوب ونظم المعلومات والعلوم الاجتماعية والبيولوجيا (علم الأحياء) والفيزياء والكيمياء وغيرها، ما أدى إلى تقليص الفجوة بين الجانبين النظري والتطبيقي، الى تحقيق نتائج علمية اكثر موضوعية، وإمداد سوق العمل بخريجين اكثر قدرة على التعامل مع تحديات عصر الشبكية والمعلوماتية.ويرى البعض أن المقاربة الشبكية وما يشبهها ربما هيمنت مستقبلاً على طرائق البحث فى حقول المعرفة كافة، ما قد يؤدي إلى طفرة في نوعية المعرفة البشرية وكميتها، لا سيما في الموضوعات البحثية التي تتقاطع فيها حقول معرفية متنوعة.كما تزايد استخدام العلماء منهج «تحليل الشبكات المعقدة» للتعامل مع النظم البيولوجية وشبكات المواصلات وخطوط الطيران وهندسة البنى التحتية والسلاسل الغذائية وغيرها.كما يعدّ درس النظام البيئي («ايكوسيستم»Ecosystem) وتحليله، من أهم تطبيقات هذه المقاربة المبتكرة. فمن المعروف أن عالم الحيوان يعتمد في غذائه غالباً على النباتات التي تعتمد بدورها على عناصر بيئية مثل الأوكسجين وضوء الشمس والأمطار والرطوبة وسواها. وكذلك يعتمد غذاء الإنسان على النباتات والحيوانات. ولذا، يمكن التنبؤ بمدى تأثير ارتفاع درجة حرارة الأرض على الكائنات الحيّة، بالاعتماد على درس الروابط بين تلك العناصر وكذلك رصد استجاباتها للتغيرات المناخية.وبالاعتماد على نظم تحليل الشبكات الاجتماعية نستطيع قياس مستوى الثقة والفساد الأخلاقي في المجتمع، وكذلك رصد مقدار تدفق المعلومات في منظومة معينة، والتعرف الى كمية القيم الاجتماعية. وتستخدم أيضاً في دراسة انتشار الإشاعات (مثال: أثر إشاعة مرض الرئيس حسني مبارك أخيراً على البورصة المصرية) والأمراض الوراثية والمعدية ومنظمات الجريمة وشبكات الإرهاب وغيرها. ومن الشائع أنها استخدمت في درس عناصر القاعدة المتورطين في عملية 11 أيلول (سبتمبر) وعمل نموذج محاكاة لتحركاتهم وكيفية تدفق المعلومات والأموال في ما بينهم .كما تزايد استخدام المقاربة عينها راهناً في دراسة التعاملات في أسواق المال والتدفقات المالية بين المصارف والتبادل التجاري بين الدول والشركات. واستطراداً، من المستطاع صنع نموذج محاكاة لدرس التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لفريضة الزكاة. كما تستعمل تلك المقاربة أيضاً في تحديد أذواق المستهلكين وتقسيمهم إلى مجموعات وفقاً لخياراتهم.ومن الجدير بالذكر أن العالم المصري محمد فياض أستاذ البرمجيات في جامعة «سان خوسيه» الأميركية يفتش عن تمويل لمشروع يهدف إلى تطوير نظام محاكاة لدراسة النظم الاجتماعية والاقتصادية في فترة حكم الخليفة عمر بن عبدالعزيز واستخلاص العبر منها.
* باحث في تكنولوجيا المعلومات في جامعة نبراسكا (الولايات المتحدة)
 

عودة
أعلى