سمات الفكر الناجح وأصوله

besm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..



fikr_2009.jpg



السمة الأولى : تعريف الفكر ، الفكر هو التأملُ والتدبر ، والاسم الفِكْرُ والفِكْرَةُ معا، ويقال ليس لي في هذا الأمر فِكْرٌ، أي ليس لي فيه حاجة أن أفكر وأن أتأمل فيه، وأفْكَرَ في الشيء، لأمر ما ، وفَكَّرَت فيه وتَفَكَّرَ بمعنًى واحد، ويقال رجلٌ فِكِّيرٌ، أي كثيرُ التَفَكُّر، والفكر مقلوب من الفرك، ويستعمل في المعاني دون الأجرام غالبا ، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى الحقيقة.



وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة، تتحدث عن أهمية التفكر والاعتبار في الكون والأنفس، وفي الحال والمآل، بل وجعل القرآن التفكر ذروة العبادة وسنامها، وهو الذي يوصلك للحقيقة، وفي التأمل والتبدبر فقط يصل الإنسان إنسانيته، ومن هنا حث كتاب الله العزيز على التفكر فقال تعالى : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض .. ) الروم - 8. فهو خطاب موجه للإنسانيه كلها ، لمؤمنهم وكافرهم ، كبيرهم وصغيرهم، وبدا من ذواتنا وأنفسنا نصل إلى العالم الخارجي التفكر السليم، فهو خطاب لكل زمان ومكان ، وجاءت الآية في سياق الاستفهام المقصود منه الاستكشاف والادراك بالمعاني والحقائق في الكون ، وسواء الايات القرآننية والآيات الكونية.





ويدرك المعاني الكامنة أصحاب الفكر والفهم الثاقب، وخصص رب العالمين لهم هذه المزية العالية فقال تعالى : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الرعد- 3 .



والإنسان العاقل لا يفارقه الفكر والتأمل في الحال والمآل، وهو سمته الحقيقية ،ذلك بأن الإنسان لا يخلو من دماغة وقواه الفطرية من خاطر يجول، وباعث يحث به التفكر والفهم والاستكشاف ما حوله من العالم.



وهذا مصحوب في الإنسان الاّ حالة الموت وشبهه، والإنسان الذي لا يفكر ميت في نظر علم النفس وإن كان حيا، وقديما قال الشاعر :


لقد أسمعت لو ناديت حيا – ولكن لاحياة لمن تنادي.



وقال الآخر :



من يهن سهل الهوان عليه - ما لجرح بميـت إيـلام .



فالذي لا يفكر يسمع ، وقد يسمع ولكن لا يفهم ولايستوعب ، كما أنه لا يشعر، والذي لايشعر لا يتألم ما يحصل عليه في الحال والمآل ، إذاً فالفكر سر الحياة الكريمة، وبين الموت الحياة فرق شاسع، وما ذلك الاّ المفكر الأصيل.



وكما أن الفكر هو ذروة العبادة ولبها في الإسلام فإنه أيضا قيد الربط بين الحياة الفانية والحياة الباقية، والحياة الباقية رهن حقيقي لمن يتفكرون في باقيتهم ، فهم الموسّمون بختم العقل والفكر والفهم، وهم الذين يتبينون ويستوضحون الحقائق من القرآن، ومن منطلق العقل والتفكير السليم فقط قال تعالى: ( يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) البقرة- 219 - 220.



إذًا هو عبادة وعمل ، وقيمة لا تفارق صاحبه ما دام حيا، تصير معه حيث يكون قال تعالى: ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض) وتكون النتيجة الصحيحة: ربنا ماخلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) . آل عمر 191. فالتأمل في الفضاءت العلوية للكون وما فيها من آيات هو من مميزات الإنسان الحيّ، الذي لا يضيع المنحة الربانية له وإليه، والاّ فلا يكون هناك إنسان لا يفكر الاّ أن يكون فاقدا آليات التفكر من سمع وبصر وبصيرة.



أما الفكرة ذاتها فهي قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم من حيث ما هية المعلوم، وهي عملية التشغيل الذهني إلى الخارج، أي خارج عالمك الصغير إلى العالم الكبير ، في حين يكون التفكر جولان تلك القوة بحسب العقلي المجرد، وذلك للإنسان فقط دون غيره ، ولا يكون التفكر إلا فيما هو ممكن حصوله ، ممكنة تصوره في القلب والقوى الذهنية، وأدوات التفكر مكونة من العالم الخارجي والعوامل الداخلية، ولهذا ورد الحديث : تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، والمعنى - والله أعلم- أن النعمة يمكن إدراكها والتعرف عليها، في حين لا يمكن إدراك الذات المقدسة، إذ كان الله منزها أن يدرك بالعين الباصرة ، وأن يوصف بصورة مدركة بالعين الباصرة،فالإنسان مأمور بالتفكر ما يمكن إدراكه ، كما هو مأمور بالإيمان بالله العلي القدير ، ومطالب ألاّ يكون فكره مضيعة مما لايدرك ولا يستوعب.




السمة الثانية : الفكر هو سمة من سمات الإنسان وخاصته التي خصص الله بها بلا منازع له، وهو الذي يفرق بين الإنسان والكائنات الأخرى، وبين الإنسان وأخيه، وأن الإنسان مفكر بالطبع، ومجبور عليه شاء أو أبى ، وهذا ما دلت عليها أقوال الفلاسفة والعلماء، ومنهم الفيلسوف ديكارت بقوله : بما أنني أفكر فأنا موجود، فالوجود والتفكر عنده قرينان .



والإنسان مفكر في جميع حياته،وبه يفرق بين إنسان وإنسان، أخذا وعطاء، وفهما وإداركا، وعلما وعملا، وقوة وضعفا.



وكما يجعل التفكر البعض إلى الرفعة والمجد الباقيان حتى ولوكان صاحبه تحت التراب،فإنه يجعل البعض في الحضيض، وتضع أفكارهم وحدها في سلة المهملات، بل ولا وزن لهم وهم أحياء يرزقون، فهم الذين يضيعون كرامة الرب التي منّ الله بالإنسان،والتي لولاها لكان البشر بهائم لا تعقل ولا تنتج شيئا.



أما الآخر فيتميز تفكيرهم الإبداع والانتاج والنفع لنفسه ولغيره، وأنه يوظّف تفكيره إلى النفع لا إلى الهلاك والفساد، وهذا ما أكدت عليه آيات من القرآن الكريم تدعو النظر والتأمل والتعقل والتبصر إلى آيات الكون وآيات القرآن الكريم معا، وهي بوصلة توصلنا النتائج إذا أحسنا بمنهجية الفكر والتفكير الحقيقة



وإذا فهمنا أن تعريف التفكير من الناحية المعرفية هو عبارة عن عمليات عقلية وأنشطة سيكلوجية تجري داخل الإنسان، تتم تلقائياً مثل:الوعي والتخيل والتصور والإدراك والفهم، فإن البشر يختلفون في هذه القدرات كلها، وكلها أنشطة عقلية، تقوم بها القوى الدماغية عند ما تتعرض لها مثيرات خارجية، ولهذا فإن لفظ الفكر قد يكون له معنا تجريديا فلسفيا، وقد يكون له معنى آخر تفهمه العامة، وقد يكون له مدلول معرفي وفلسفي في مجلات أخر.



السمة الثالثة : ذاتية المفكر وشخصيته، وقواه المعرفية وسلامتها مثل: القدرة على الفهم والاستيعاب فيما يفكر ويتأمل به، والقدرة على التحليل الموصل إلى النتائج، وعلى هذا المعنى تقول الآية الكريمة بقوله تعالى: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها..) وفي معنى النفس وما سواها، تاسس الآية نظرية كاملة تمثل قواعد مهمة في علم النفس الإسلامي، إذ أن الله خلق الخلق ، وخلق فيه قوى كامنة فيه، ومنها يترتب تصرف الإنسان وتحمل مسؤليته، وأنها قابلة للزيادة والنمو والتغيير كما قال تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فأنت لاتستطيع أن تغيير جسمك وطولك ولا قصرك، وإنما تستطيع أن تغيير نمط فكرك وفهمك، وطريقة حياتك مستخدما الوسائل المتاحة لك.



بيد أن هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام للإنسان نفسه، وهو مكون بقوى طبيعية مزدوجة كامنة فيه، كما أنه مكون من جسد وروح، ويعتمد الفكر على القوى العقلية والمعرفية ،وهذه القوى يتم بها التمييز والتعقل والفهم وهو في صميم الإنسان، ولله درالقائل :



وتزعم أنك جسم صغير – وفيك انطوى عالم الأكبر.



لقد جعل الشاعر بعبارته الموجزة أن العالم الفسيح فيك، وبكل بساطة وسهولة تدرك أنه لا يقصد أنك تحمل السموات والأرض وما فيهما،ولكن فيك ما يمكنك التفهم ما فيهما، كما أنه لن يكون هذا الاّ بالقوى العقلية الكامنة في النفوس البشرية التي خلقها الله فينا وفطرها علينا.



فمنها الاستعدادات الفطرية الكامنة وهي قوة واعية مدركة موجهة في النفس البشرية، فمن أحسن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها فهو مفكر ، والفكرة النافعة لها أنماط تحددها، ومن أنماطها وجود مادة مدركة، إذ ليست عملية التفكر عملية خيالية أو وهمية، بل لا بد لها من مادة ومعنى يسرح في الفكر في أعماقها ووسيلة، وثمرة تراد حصادها.



فالإسلام كونه دين المعرفة والعلم والعقل حدد طرق التفكير السليم ومرجعيته، ومعالمه الناجحة، وجعل التأمل والتدبر في دلائل الآفاق الكونية أساسا للفهم والاستيعاب بالكون، ثم الإدراك بالخالق باستشهاد أن هذا الكون لا يكون صدفة، وبهذا أمرنا بالتأمل

والاعتباربالأنفس المنتشرة في هذا الكون، وأن هذا هو الطريق السليم الموصل للحقيقة لمن يريدها ، إذ أن دلائل الآفاق أجل وأعظم من كل ما سواها، وهي الأفق العلوية من سماء وافلاك ونجوم منيرة، والآفاق السفلية المتمثلة بالأرض والمحيطات، وإنها لأكبرة دالة للمتفكرين والمتعقلين بقوله تعالى: ( لخلق السمـاوات والارض أكـبر من خلق الناس ) غافر. 57



وهو مشاهد بالعين لا ينكره الإ جاحد ملحد أو جاهل معذور ، ومن أبلغ ما يحدد سمات الفكر الناجح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " من عرف نفسه عرف ربه" فمعناه - والله أعلم - أن من عرف نفسه يعرف قدراته الذاتية ولا يتجاوزعنها إذا كان محترما نفسه، ويعرف ما لديه إمكانات وأدوات في القوى والأصول المتبعة في التفكير.



كان القدماء يتناولون معنى الحديث في سياق علم الكلام ، ويقولون : أن من عرف ربه بالقدم عرف نفسه بالحدث، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء، فكان التفكر في شؤن الخلق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في شأن الخالق فهو أمر غير ممكن ألبتة ..



بقلم : الدكتور فارح شيخ محمد .

* الأستاذ بالجامعة الإسلامية في ماليزيا سابقا .
 

عودة
أعلى