وفاة آخر العثمانيين الكبار تحيي ذكرى السلطنة
شيع في اسطنبول في جنازة ملفتة، يوم السبت الماضي، أرطغرل عثمان أوغلو، كبير الأسرة العثمانية، الذي توفي عن 97 عاماً. كانت الحكومة التركية،
02.10.2009 08:00
د. بشير موسى نافع
شيع في اسطنبول في جنازة ملفتة، يوم السبت الماضي، أرطغرل عثمان أوغلو، كبير الأسرة العثمانية، الذي توفي عن 97 عاماً. كانت الحكومة التركية، وفي استثناء نادر، قد سمحت بأن تجري جنازة الأمير العثماني في جامع السلطان أحمد، أحد أضخم مساجد العاصمة العثمانية وأجملها، والمعروف لدى الغربيين باسم الجامع الأزرق؛ والذي لا يسمح أصلاً بعقد صلوات الجنازة فيه منذ زمن.
وقد شارك في الصلاة والتشييع عدد من كبار حكومة حزب العدالة والتنمية، مندوبين عن رئيس الوزراء الطيب رجب إردوغان، المتغيب في الولايات المتحدة لحضور جلسات الجمعية العامة ومؤتمر مجموعة العشرين. كما شارك عدد من كبار الإعلاميين وأبناء بعض من أبرز العائلات المالية والاقتصادية في اسطنبول، علماء ومتصوفة ووجهاء ومندوبين عن جمعيات أهلية ودينية، بعض ممن تبقى من الأسرة العثمانية، وعدة آلاف من المواطنين. أرطغرل عثمان أوغلو ليس بالطبع آخر أبناء الأسرة العثمانية، فهناك الكثير منهم، يتوزعون على بقاع الأرض، وقد عاد عدد كبير من ابناء الأسرة بالفعل إلى تركيا في العقود القليلة الماضية؛ ولكن أرطغرل هو كبير الأسرة وآخر من تبقى من أمرائها الذين ولدوا في سنوات الحكم العثماني، وفي قصر يلدز على وجه الخصوص. وهو إضافة إلى ذلك حفيد عبد الحميد الثاني (حكم 1876 1909)، آخر السلاطين العثمانيين الكبار.
على نحو ما، يمكن القول ان الجمهورية التركية قد سددت بعض دينها للأسرة العثمانية، كما علق المؤرخ التركي البارز إلبر أوتايلي، مدير متحف طوب كابي سراي، على هامش الجنازة. في 1924، بعد عام واحد فقط على إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية، أصدر المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي)، بإيعاز من الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك)، رئيس الجمهورية، قراره بإلغاء الخلافة. وخلال ساعات كان آخر الخلفاء العثمانيين، وكل أفراد الأسرة العثمانية، يوضعون في قطار متجه إلى القارة الأوروبية، مطرودين من البلاد نهائياً. استقر أرطغرل بصحبة والده في العاصمة النمساوية فينا، وفي 1933 هاجرت العائلة للمرة الثانية إلى الولايات المتحدة. تزوج أرطغرل من سيدة، سليلة الأسرة المالكة الأفغانية، ومعها عاش في شقة من بناية عادية في حي بروكلين بمدينة نيويورك، ومنها عاد إلى تركيا في 1992، وقد بلغ الثمانين من عمره. كانت الدولة التركية قد أعلنت عفواً (لم يعرف أحد عن ماذا) عن الأسرة العثمانية في 1974، مما سمح لمن رغب من أبنائها بالعودة إلى تركيا. ولكن أرطغرل لم يمنح الجنسية التركية إلا في 2004، بعد مقابلة له مع رئيس الوزراء إردوغان. في العديد من الأحاديث الصحفية التي أجراها خلال العقد الأخير، كرر أرطغرل عثمان أوغلو دعمه للنظام الجمهوري؛ وبالرغم من دفاعه، ذي الطابع الأكاديمي الهادىء دائماً، عن الميراث العثماني وارتكازه إلى الشريعة الإسلامية، فقد ذكر في الوقت نفسه بأن حركة التحديث العثمانية بدأت قبل زهاء القرن من إلغاء الخلافة والسلطنة، وأكد قبوله بالأسس العلمانية لتركيا الحديثة. ولعل الأمير العثماني الراحل، الذي كان يتحدث عدة لغات أوروبية بطلاقة، إضافة إلى التركية والإنكليزية، كان أقرب إلى مثقف غربي منه إلى الصورة التقليدية للسلاطين العثمانيين في حقبة ما قبل التحديث.
جاءت وفاة أرطغرل في لحظة حاسمة وحرجة من تارخ الجمهورية. على نحو رمزي، وبالرغم من أن أرطغرل لم يطالب يوماً بالعرش العثماني كما ورثاء الأسر المالكة الأوروبية الذين خسرت أسرهم عروش ممالكها، فإن وفاته تعبر عن نهاية أخيرة، نهاية ما بعد النهاية للسلالة التي أقامت واحدة من أطول الإمبراطوريات الإسلامية عمراً واتساعاً، وظلت لأكثر من ستة قرون جزءاً من توازن القوى الأوروبية، من ثقافة واقتصاد وحياة أوروبا، وشوكة في الخاصرة الأوروبية في الآن نفسه. وفاة أرطغرل عثمان أوغلو تؤشر إلى غياب آخر أمراء القصور والنشأة العثمانية. من تبقى من أبناء الأسرة، ولد في المنفى العربي أو الأوروبي، وبات أغلبهم لبنانياً أو مصرياً أو سويسرياً أو فرنسياً. لم يكن لدى أي من الأتراك، حتى أولئك الذين يحملون حنيناً ما للميراث العثماني، أدنى تصور لإمكانية استعادة السلطنة، أو أن خلافة عثمانية جديدة يمكن أن تنشأ. هذا تاريخ مضى، ومضى بعد انعطافة مأساوية وثقيلة الوطأة في تاريخ الشعوب العثمانية، انعطافة ما بعد الهزيمة البالغة في الحرب العالمية الأولى وتقسيم الممتلكات العثمانية إلى دول تحتلها الإمبرياليات الأوروبية وتتحكم في مصيرها. ولكن حتى التخلص من السيطرة الأجنبية وتحقيق الاستقلال لم يضع حداً لأزمات ما بعد الحقبة العثمانية المستعصية، ولم يصنع سلماً أو استقراراً يطمئن له، لا في الجمهورية التركية ولا في الجمهوريات والممالك العربية، التي ولدت من رحم الانهيار العثماني.
عن القدس العربي : بتصرف
شيع في اسطنبول في جنازة ملفتة، يوم السبت الماضي، أرطغرل عثمان أوغلو، كبير الأسرة العثمانية، الذي توفي عن 97 عاماً. كانت الحكومة التركية، وفي استثناء نادر، قد سمحت بأن تجري جنازة الأمير العثماني في جامع السلطان أحمد، أحد أضخم مساجد العاصمة العثمانية وأجملها، والمعروف لدى الغربيين باسم الجامع الأزرق؛ والذي لا يسمح أصلاً بعقد صلوات الجنازة فيه منذ زمن.
وقد شارك في الصلاة والتشييع عدد من كبار حكومة حزب العدالة والتنمية، مندوبين عن رئيس الوزراء الطيب رجب إردوغان، المتغيب في الولايات المتحدة لحضور جلسات الجمعية العامة ومؤتمر مجموعة العشرين. كما شارك عدد من كبار الإعلاميين وأبناء بعض من أبرز العائلات المالية والاقتصادية في اسطنبول، علماء ومتصوفة ووجهاء ومندوبين عن جمعيات أهلية ودينية، بعض ممن تبقى من الأسرة العثمانية، وعدة آلاف من المواطنين. أرطغرل عثمان أوغلو ليس بالطبع آخر أبناء الأسرة العثمانية، فهناك الكثير منهم، يتوزعون على بقاع الأرض، وقد عاد عدد كبير من ابناء الأسرة بالفعل إلى تركيا في العقود القليلة الماضية؛ ولكن أرطغرل هو كبير الأسرة وآخر من تبقى من أمرائها الذين ولدوا في سنوات الحكم العثماني، وفي قصر يلدز على وجه الخصوص. وهو إضافة إلى ذلك حفيد عبد الحميد الثاني (حكم 1876 1909)، آخر السلاطين العثمانيين الكبار.
على نحو ما، يمكن القول ان الجمهورية التركية قد سددت بعض دينها للأسرة العثمانية، كما علق المؤرخ التركي البارز إلبر أوتايلي، مدير متحف طوب كابي سراي، على هامش الجنازة. في 1924، بعد عام واحد فقط على إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية، أصدر المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي)، بإيعاز من الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك)، رئيس الجمهورية، قراره بإلغاء الخلافة. وخلال ساعات كان آخر الخلفاء العثمانيين، وكل أفراد الأسرة العثمانية، يوضعون في قطار متجه إلى القارة الأوروبية، مطرودين من البلاد نهائياً. استقر أرطغرل بصحبة والده في العاصمة النمساوية فينا، وفي 1933 هاجرت العائلة للمرة الثانية إلى الولايات المتحدة. تزوج أرطغرل من سيدة، سليلة الأسرة المالكة الأفغانية، ومعها عاش في شقة من بناية عادية في حي بروكلين بمدينة نيويورك، ومنها عاد إلى تركيا في 1992، وقد بلغ الثمانين من عمره. كانت الدولة التركية قد أعلنت عفواً (لم يعرف أحد عن ماذا) عن الأسرة العثمانية في 1974، مما سمح لمن رغب من أبنائها بالعودة إلى تركيا. ولكن أرطغرل لم يمنح الجنسية التركية إلا في 2004، بعد مقابلة له مع رئيس الوزراء إردوغان. في العديد من الأحاديث الصحفية التي أجراها خلال العقد الأخير، كرر أرطغرل عثمان أوغلو دعمه للنظام الجمهوري؛ وبالرغم من دفاعه، ذي الطابع الأكاديمي الهادىء دائماً، عن الميراث العثماني وارتكازه إلى الشريعة الإسلامية، فقد ذكر في الوقت نفسه بأن حركة التحديث العثمانية بدأت قبل زهاء القرن من إلغاء الخلافة والسلطنة، وأكد قبوله بالأسس العلمانية لتركيا الحديثة. ولعل الأمير العثماني الراحل، الذي كان يتحدث عدة لغات أوروبية بطلاقة، إضافة إلى التركية والإنكليزية، كان أقرب إلى مثقف غربي منه إلى الصورة التقليدية للسلاطين العثمانيين في حقبة ما قبل التحديث.
جاءت وفاة أرطغرل في لحظة حاسمة وحرجة من تارخ الجمهورية. على نحو رمزي، وبالرغم من أن أرطغرل لم يطالب يوماً بالعرش العثماني كما ورثاء الأسر المالكة الأوروبية الذين خسرت أسرهم عروش ممالكها، فإن وفاته تعبر عن نهاية أخيرة، نهاية ما بعد النهاية للسلالة التي أقامت واحدة من أطول الإمبراطوريات الإسلامية عمراً واتساعاً، وظلت لأكثر من ستة قرون جزءاً من توازن القوى الأوروبية، من ثقافة واقتصاد وحياة أوروبا، وشوكة في الخاصرة الأوروبية في الآن نفسه. وفاة أرطغرل عثمان أوغلو تؤشر إلى غياب آخر أمراء القصور والنشأة العثمانية. من تبقى من أبناء الأسرة، ولد في المنفى العربي أو الأوروبي، وبات أغلبهم لبنانياً أو مصرياً أو سويسرياً أو فرنسياً. لم يكن لدى أي من الأتراك، حتى أولئك الذين يحملون حنيناً ما للميراث العثماني، أدنى تصور لإمكانية استعادة السلطنة، أو أن خلافة عثمانية جديدة يمكن أن تنشأ. هذا تاريخ مضى، ومضى بعد انعطافة مأساوية وثقيلة الوطأة في تاريخ الشعوب العثمانية، انعطافة ما بعد الهزيمة البالغة في الحرب العالمية الأولى وتقسيم الممتلكات العثمانية إلى دول تحتلها الإمبرياليات الأوروبية وتتحكم في مصيرها. ولكن حتى التخلص من السيطرة الأجنبية وتحقيق الاستقلال لم يضع حداً لأزمات ما بعد الحقبة العثمانية المستعصية، ولم يصنع سلماً أو استقراراً يطمئن له، لا في الجمهورية التركية ولا في الجمهوريات والممالك العربية، التي ولدت من رحم الانهيار العثماني.
عن القدس العربي : بتصرف
تعليق