رد: نعم الله والتوحد هل هو اعاقة؟ كنوز دفينة للدكتور محمود مصطفى
السلام عليكم
كلام فى شفاء القلوب
قلّة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, وإضاعة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربّه, ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, وإهانة العدو, وضيق الصدر, والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتولّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتولّد الزرع عن الماء. وأضداد هذه تتولّد عن الطاعة.
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه), لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, في الدعاء لم يرده قلت : إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه.
قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت المأمول. لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. غرس الخلوة يثمر الأنس. استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك.
فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيا, كان الرزق آتيا وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالصا سائغا. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس. والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا, وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه, ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه
التوكل على الله نوعان أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية, أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل مالا يحصيه إلا الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا, لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه. فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية, وتجريد التوحيد, ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاد أهل الباطل, فهذا توكل الرسل وخاصّة أتباعهم.
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء, بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل, كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه, وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة. وتارة يكون توكل اختيار, وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد, فإن كان السبب مأمور به ذم على تركه. وإن قام بالسبب, وترك التوكل, ذم على تركه أيضا, فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن, والواجب القيام بهما, والجمع بينهما. وإن كان السبب محرما, حرم عليه مباشرته, وتوحد السبب في حقه في التوكل, فلم يبق سبب سواه, فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد, ودفع المكروه, بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق. لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها, ولا سيما إذا فعلته عبودية, فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل, وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها, فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه, فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيّا, كما أن من عطّلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا.
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده, فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها, كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله, مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به, فتوكل الإنسان شيء وتوكل القلب شيء, كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء, وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء فقول العبد: توكلت على الله, مع اعتماد قلبه على غيره, مثل قوله: تبت إلى الله, وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
القلوب آنية الله في أرضه, فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها. شغلوا قلوبهم بالدنيا, ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد. إذا غذي القلب بالتذكر, وسقي بالتفكّر, ونقي من الدغل, رأى العجائب وألهم الحكمة. ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها, بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى, فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه. خراب القلب من الأمن والغفلة, وعمارته من الخشية والذكر. إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة, وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد. من وطّن قلبه عند ربه, سكن واستراح, ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة. إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته. القلب يمرض كما يمرض البدن, وشفاؤه في التوبة والحمية, ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر, ويعرى كما يعرى الجسم, وزينته التقوى, ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل سواه بد ولا بد لك منه. من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو, توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له, فألقى كنفه بين يديه, وسلم الأمر إليه, ورضي بما يقضيه له, استراح من الهموم والغموم والأحزان. ومن أبى إلا تدبيره لنفسه, وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب, فلا عيش يصفو, ولا قلب يفرح, ولا عمل يزكو, ولا أمل يقوم, ولا راحة تدوم. والله سبحانه سهّل لخلقه السبيل إليه وحجبهم عنه بالتدبير, فمن رضي بتدبير الله له, وسكن إلى اختياره, وسلّم لحكمه, أزال ذلك الحجاب, فأفضى القلب إلى ربه, واطمأن إليه وسكن. المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله من شغل بنفسه شغل عن غيره, ومن شغل بربه شغل عن نفسه.
لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه, ووقف بها عند قدرها, ولم يتجاوزه إلى ما ليس له, ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي, وتيقّن أنه لله ومن الله وبالله, فهو المانّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه, فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتّة, وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه, فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه. فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعاومحبة وخوفا ورجاء, وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته, وأن الخير كله في يديه, وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء. وله الحمد على هذا, وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها, وأنها لا خير فيها البتة ولا لها ولا بها ولا منها, وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها فليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص, فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها ولا بها. فإذا صار هذان العلمان صيغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله, والأمر كله له والخير كله في يديه, وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها, وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله. فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا, وانقطاعه بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه, فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم, عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها, وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله, وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده, وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له, وهذا هو حقيقة العبودية, والله المستعان.
السلام عليكم
كلام فى شفاء القلوب
قلّة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, وإضاعة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربّه, ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, وإهانة العدو, وضيق الصدر, والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتولّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتولّد الزرع عن الماء. وأضداد هذه تتولّد عن الطاعة.
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه), لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, في الدعاء لم يرده قلت : إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه.
قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت المأمول. لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. غرس الخلوة يثمر الأنس. استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك.
فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيا, كان الرزق آتيا وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي), فلما خرج من بطن الأم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول, لبنا خالصا سائغا. فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس. والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا, وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه, ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه
التوكل على الله نوعان أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية, أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل مالا يحصيه إلا الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا, لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه. فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية, وتجريد التوحيد, ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاد أهل الباطل, فهذا توكل الرسل وخاصّة أتباعهم.
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء, بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل, كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه, وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة. وتارة يكون توكل اختيار, وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد, فإن كان السبب مأمور به ذم على تركه. وإن قام بالسبب, وترك التوكل, ذم على تركه أيضا, فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن, والواجب القيام بهما, والجمع بينهما. وإن كان السبب محرما, حرم عليه مباشرته, وتوحد السبب في حقه في التوكل, فلم يبق سبب سواه, فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد, ودفع المكروه, بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق. لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها, ولا سيما إذا فعلته عبودية, فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل, وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها, فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه, فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيّا, كما أن من عطّلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا.
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده, فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها, كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله, مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به, فتوكل الإنسان شيء وتوكل القلب شيء, كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء, وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء فقول العبد: توكلت على الله, مع اعتماد قلبه على غيره, مثل قوله: تبت إلى الله, وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
القلوب آنية الله في أرضه, فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها. شغلوا قلوبهم بالدنيا, ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد. إذا غذي القلب بالتذكر, وسقي بالتفكّر, ونقي من الدغل, رأى العجائب وألهم الحكمة. ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها, بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى, فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه. خراب القلب من الأمن والغفلة, وعمارته من الخشية والذكر. إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة, وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد. من وطّن قلبه عند ربه, سكن واستراح, ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة. إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته. القلب يمرض كما يمرض البدن, وشفاؤه في التوبة والحمية, ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر, ويعرى كما يعرى الجسم, وزينته التقوى, ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل سواه بد ولا بد لك منه. من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو, توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له, فألقى كنفه بين يديه, وسلم الأمر إليه, ورضي بما يقضيه له, استراح من الهموم والغموم والأحزان. ومن أبى إلا تدبيره لنفسه, وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب, فلا عيش يصفو, ولا قلب يفرح, ولا عمل يزكو, ولا أمل يقوم, ولا راحة تدوم. والله سبحانه سهّل لخلقه السبيل إليه وحجبهم عنه بالتدبير, فمن رضي بتدبير الله له, وسكن إلى اختياره, وسلّم لحكمه, أزال ذلك الحجاب, فأفضى القلب إلى ربه, واطمأن إليه وسكن. المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله من شغل بنفسه شغل عن غيره, ومن شغل بربه شغل عن نفسه.
لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه, ووقف بها عند قدرها, ولم يتجاوزه إلى ما ليس له, ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي, وتيقّن أنه لله ومن الله وبالله, فهو المانّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه, فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتّة, وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه, فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه. فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعاومحبة وخوفا ورجاء, وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته, وأن الخير كله في يديه, وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء. وله الحمد على هذا, وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها, وأنها لا خير فيها البتة ولا لها ولا بها ولا منها, وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها فليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص, فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها ولا بها. فإذا صار هذان العلمان صيغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله, والأمر كله له والخير كله في يديه, وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها, وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله. فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا, وانقطاعه بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه, فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم, عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها, وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله, وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده, وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له, وهذا هو حقيقة العبودية, والله المستعان.
تعليق