التصفح للزوار محدود

فلسطين

صمت الغروب

إختصاصية إجتماعية
فلسطين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه القصة نقلتها من كتاب " الحصن الأسود " لعادل الكلباني.
الكتاب عبارة عن قصص.

"قدمت من مقنيات وحدي إلى مستشفى عبري المكتظ بالزائرين، أوقفت سيارتي الهوندا رمادية اللون في المواقف، كان الطقس غائما ومنذرا بالعواصف والسحب تركض في الفضاء، وغيوم كثيفة تتراكم بعضها فوق بعض وتحجب شمس الأصيل فما عاد يرى منها إلا نثار ضياءات بلون الورود، فتحت النافذة فتدفق الهواء باردا كثلج تعبق نسائمه برياح الشتاء، حاولت إغلاق النافذة بالهندل ولم أفلح،أسرعت أرفع الزجاج بيدي اليسرى والأخرى أعالج بها الهندل حتى ارتفعت فهدأ زفيف البرد في الداخل، جلست أرقب الأفق خشية المطر ومر وقت طويل على الانتظار ثم ما لبثت أن فتحت الباب ونزلت، كان الرذاذ يهبط بطيئا ويتدثر نثيثه في الدشاديش،والرياح قد خفت قليلا وتسربت في شجر الرول وراقصت أغصانها فتقاطر من أوراقها الخضر حبات ماء تشبه الدمع في تلك العصاري المضرجة بلون الغروب، ثم تهاوت عابرة أشجارا أخرى أمامها حتى اندست في ملابس النساء والرجال الذين كانوا يعبرون الرصيف، فتمسك النساء جلابيبهن، وتنحشر في دشاديش الرجال فيتضخم حجمهم، وتنشر ضجيج الأطفال الراكضين على العشب الأخضر في الرصيف وبعضهم تحت الأشجار لاحقين بأهلهم، سرت في الطريق المؤدي إلى بوابة المستشفى التي تنهض كواجهة لسفينة منسية في بحر.
كانت الأعشاب الخضراء المشذبة على جوانب الرصيف تندى بقطرات الرذاذ المنزلق منها كالندى وتدعسها الأقدام السائرة عليها فيلتصق الماء أسفل الأحذية وتعود الأعشاب كما كانت من غير سوء، رنوت وأنا أعبر الرصيف إلى شجرة الشريش المتفرعة الغصون تتمايل وريقاتها الخضر الصغيرة في رقصة الريح،فانثالت من البعيد شجرتا الشريش اللتان زرعتهما على عتبة الانترلوك في البيت وتصورت أني أنبطح على البساط في الحوش تحت ظلهما الأخضر وأحتسي فناجين القهوة حالما بسيجارة أجترها دونما محاضرة من الزوجة عن فن التردي والانهزام فابتسمت وأنا أخطف البصر لامرأة تعبر الرصيف انفرجت عباءتها في الهواء فبان في ومضة ما تحت العباءة من ثوب الحرير المزركش بحمرة توقفت هنيهات على عتبة البوابة، كان رجل أشيب يعبرها يقوده بخطى وئيدة ربما ابنه الشاب تنساب منه نظرات تشبه القمح، وفي الجانب الآخر رمقتني امرأة وهي تعبر الزحام بنظرة عطف لرجل أعرج يتهالك على قدمه الشمال ليسير، وكانت قطرات المطر المتدفقة تنساب في الممر، وحينما عبرت البوابة فغمت خياشيمي روائح العطر الناضحة من النساء المندلقات في القاعة كأنما كان المسك يسبح في الغيوم ويتناثر نثيثه في الفضاء، وكان وقع أقدام الكواعب على الرخام يذكرني بطقطقة المطر في نافذة البيت المطلة على الجبل، سلمت على الزوجة ورافقتني إلى غرفة عناية الأطفال، فتحت إحدى الممرضات الباب بوجه عابس ثم انحنت يمينا صوب طفل كان يصيح في صوت خفيض، وكانت إحداهن مطرقة الرأس تنقر بيديها على الكونتر الخشبي الذي تجلس أمامه على كرسي دائري أسود اللون أمامها ينهض حاسوب ينضح في شاشته أحشاء لجسد إنسان، إن للجمال هيبة فما بال لا وجه في هذا المكان يشرح الخاطر ويفتح العين، اللهم إذا أقبلت النهاية فخذني بعيدا بعيدا عن هؤلاء كي أموت وحيدا حيث لا أحد، سلمت ولم ترد، سرت صوب الحاضنة حيث ترقد فيها طفلتنا التي انتظرناها بعد عمر خطه الشيب فجاءت مفجوعة بتكيس الكلى وتليف الكبد، كانت الطفلة التي أسميتها فلسطين مطروحة في الحاضنة كجسد يلتصق بالزجاج لحم على عظم، تأملت فيها كثيرا وحمدت الله من رغبة عارمة في الحزن تنبثق دائما كابتهال حزين في لحظات مشوهة تشبه الهزيمة أمام القضاء، كانت الحجرة فاقعة البياض كالكفن تشعرك أن الموت يسجد على ركبتيه فيخطف من تحب وأنت لا حيلة لك إلا الحوقلة والرغبة في البكاء، غمغمت وقلت في صوت مسموع وأنا أرنو إلى الطفلة وإلى الأسلاك المشبكة في الجسد الصغير: إنه الهدوء الذي يسبق الموت، سمعتني الزوجة فغضبت وأذكر أنها لعنتني مرتين، ثم خرجت ولبست العباءة ونادتني في غيظ، خرجنا وأنا أقسم لها كاذبا أنها مجرد هلوسات نطقت بها في غفلة، فصمتت ولم تنطق بشيء، ونحن نعبر الممر تراءى لي حصان يركض في صحراء وراء سراب ويتهاوى تل صخري على نمل وترحل سحابات في السماء إلى حيث يقيل الحرمل في الصحاري، شعرت بالغثيان أحسست لكأنما سأتقيأ هذا التعب مرارة صفراء فاقعة اللون، وعندما التفت إلى وجه الزوجة كان الدمع ينزلق من عينيها كحبات لؤلؤ وكان المطر ينهمر غزيرا في الخارج."

في حفظ الله
 
أختي الغالية المحبة لدينها
شكرا لك عزيزتي على تواصلك العطر

جزاك ربي الجنة
 
العفو أمولة

شكرا لتواصلك عزيزتي
 

عودة
أعلى