حملة ( اقرأ وربّك الأكرم )

الفصل السّابع : من ذكاء الأعراب

الفصل السّابع : من ذكاء الأعراب

الفصل السّابع من ذكاء الأعراب

·روى عمرو بن معد يكرب أنّه خرج يوماً حتّى انتهى إلى حيّ , فأذلّ بفرس مشدود ورمح مركوز, وإذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته, قال: فقلت له :
خذ حذرك فإنّي قاتلك .
قال: ومن أنت ؟
قلت: عمرو بن معد يكرب.
قال: يا أبا ثور ما أنصفتني . أنت على ظهر فرسك وأنا في بئر فأعطني عهداً أنّك لا تقتلني حتّى أركب فرسي وآخذ حذري.
فأعطيته عهداًً أن لا أقتله حتّى يركب فرسه ويأخذ حذره , فخرج من الموضع الّذي كان فيه حتّى احتبى بسيفه وجلس .
فقلت له : ما هذا ؟
قال: ما أنا براكب فرسي ولا مقاتلك, فإن كنت نكثت عهداً فأنت أعلم .
فتركته ومضيت, فهذا أحيل من رأيت.

·قدم أعرابيّ من أهل البادية على رجل من أهل الحضر, وكان عنده دجاج كثير وله امرأة وابنان وابنتان , قال :
فقلت لامرأتي : أشوي لي دجاجة وقدّميها لنا نتغذّى بها.
فلمّا حضر الغداء جلسنا جميعاً , أنا وامرأتي وابناي وابنتاي والأعرابيّ , فدفعنا إليه الدّجاجة , فقلنا : "اقسمها بيننا", نريد بذلك أن نضحك منه .
قال: لا أحسن القسمة, فإن رضيتم بقسمي قسمت بينكم. قلنا : فإنّنا نرضى. فأخذ رأس الدّجاجة , فقطعه ثمّ ناولنيه, وقال : الرّأس للرئيس , ثمّ قطع الجناحين قال : والجناحان للإبنان, ثمّ قطع السّاقين فقال: والسّاقان للابنتين, ثمّ قطع الزّمكيّ وقال: العجز للعجوز, ثمّ قال: الزّور للزّائر, فأخذ الدّجاجة بأسرها!
فلمّا كان من الغد قلت لامرأتي : اشوي لنا خمس دجاجات. فلمّا حضر الغداء قلنا: اقسم بيننا.
قال: أظنّكم وجدتم من قسمتي أمس .
قلنا: لا لم نجد, فاقسم بيننا .
فقال: شفعاً أو وترا؟
قلنا: وتراً.
قال: نعم . أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة , ورمى بدجاجة, ثمّ قال: وابناك ودجاجة ثلاثة, ورمى الثّانية. ثمّ قال: وابنتاك ودجاجة ثلاثة, ورمى الثّالثة. ثمّ قال : وأنا ودجاجتان ثلاثة.
فأخذ الدجاجتين, فرآنا ونحن ننظر إلى دجاجتيه , فقال : ما تنظرون, لعلّكم كرهتم قسمتي؟ الوتر ما تجيء إلّا هكذا.
قلنا: فاقسمها شفعاً.
فقبضهنّ إليه ثمّ قال : أنت وابناك ودجاجة أربعة, ورمى إلينا بدجاجة, والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة, ورمى إليهنّ بدجاجة. ثمّ قال: وأنا وثلاث دجاجات أربعة, وضمّ إليه ثلاث دجاجات. ثمّ رفعها رأسه إلى السّماء وقال : الحمد لله أنت فهّمتها لي !

قيل لأعرابيّ : كيف أصبحت ؟
قال: أصبحت وأرى كلّ شيء منّي في إدبار, وإدباري في إقبال.

·أقبل أعرابيّ يريد رجلاً وبين يدي الرّجل طبقتين , فلمّا أبصر الأعرابيّ غطّى التّين بكسائه, والأعرابيّ يلاحظه , فجلس بين يديه, فقال له الرّجل :
هل تحسن من القرآن شيئاً ؟
قال: فاقرأ.
فقرأ: {والزّيتون * وطور سينين}.
قال الرّجل: فأين التّين؟
قال: التّين تحت كسائك.

·حدثنا عيسى بن عمر قال : ولي أعرابي البحرين, فجمع يهودها وقال :
ما تقولون في عيسى بن مريم؟
قالوا: نحن قتلناه وصلبناه.
فقال الأعرابيّ : لا جرم, فهل أدّيتم ديته؟
فقالوا: لا.
فقال: والله لا تخرجون من عندي حتّى تؤدّى إليّ ديته.
فما خرجوا حتّى دفعوها له .

·حدّثنا ابن قتيبة قال: كان أبو العاج على حوالي البصرة, فأتي برجل من النّصارى, فقال: ما اسمك؟
قال: بندار شهر بندار.
فقال: أنتم ثلاثة وجزية واحدة ؟!!!
لا والله العظيم, فأخذ منه ثلاث جزًى.
وولي تبالة : فصعد المنبر فما حمد الله ولا أثنى عليه حتّى قال: إنّ الأمير ولاّني بلدكم وإنّي والله ما أعرف من الحقّ موضع صوتي هذا, ولن أوتى بظالم ولا مظلوم إلّا أوجعتهما ضرباً. فكانوا يتعاطون الحقّ بينهم ولا يرتفعون إليه.

·أنشد رجل أبا عثمان المازنيّ شعراً له, ثمّ قال: كيف تراه ؟
قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من جوفك , لأنّك لو تركته لأورثك الشّك .

·قيل نزل أعرابيّ في سفينة, فاحتاج إلى البراز , فصاح : "الصّلاة الصّلاة".
فقربوا إلى الشّطّ , فخرج فقضى حاجته , ثمّ رجع فقال :
ادفعوا, فصلاتكم بعد وقت .

·وقف أعرابيّ على قوم فسألهم عن أسمائهم.
فقال أحدهم : اسمي وثيق .
وقال الآخر: منيع .
وقال الآخر: اسمي ثابت.
فقال الأعرابيّ : ما أظنّ الأقفال عُملت إلّا من أسمائكم.

·وقال الأصمعيّ :
سألتُ أعرابيّة عن ولدها - وكنت أعرفه - فقالت:
مات والله, وقد آمنني الله بفقده المصائب ثمّ قالت:
وكنت أخاف الدّهر ما كان باقياً
فلمّا تولّى مات خوفي من الدّهر
 
الفصل الثّامن : في ذكر من احتال بذكائه لبلوغ غرض

الفصل الثّامن : في ذكر من احتال بذكائه لبلوغ غرض

الفصل الثّامن في ذكر من احتال بذكائه لبلوغ غرض


·قال المغيرة بن شعبة :
ما خدعني قطّ غير غلام من بني الحرث بن كعب, فإنّي ذكرت امرأة منهم وعندي شابّ من بني الحرث, فقال :
أيّها الأمير إنّه لا خير لك فيها.
فقلت: ولم .
قال: رأيت رجلاً يقبّها .
فأقمت أيّاماً , ثمّ بلغني أنّّ الفتى تزوّج بها, فأرسلت إليه فقلت: ألم تعلمني أنّك رأيت رجلاً يقبّلها ؟
قال: بلى, رأيت أباها يقبّلها .
فإذا ذكرت الفتى وما صنع غمّني ذلك .

·خطب رجل إلى قوم, فقالوا : ما تعالج ؟
قال: أبيع الدّوابّ .
فزوّجوه, ثمّ سألوا عنه , فإذا هو يبيع السّنانير, فخاصموه إلى شريح فقال: السّنانير دوابّ.
وأنفذ تزويجه.
·أخبرنا الأصمعيّ أنّ محمّد بن الحنفيّة أراد أن يقدم الكوفة أيّام المختار, فقال المختار حين بلغه ذلك: إنّ في المهديّ علامة يضربه رجل في السّوق بالسّيف فلا يضرّه .
فلمّا بلغ ذلك محمّد أقام ولم يقدم الكوفة .

·أخبرنا داود بن الرّشيد قال : قلت للهيثم بن عديّ : أيّ شيء استحقّ سعيد بن عثمان أن ولّاه المهديّ القضاء , وأنزله منه تلك المنزلة الرّفيعة ؟
قال: إنّ خبره في اتّصاله بالمهديّ ظريف, فإن أحببت شرحته لك.
قال: قلت: والله ما أحببت ذلك.
قال: اعلم أنّه وافى الرّبيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهديّ, فقال : استأذن على أمير المؤمنين .
فقال له الرّبيع: من أنت وما حاجتك ؟
قال: أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين رؤيا صالحة, وقد أحببت أن تذكروني له .
فقال له الرّبيع : يا هذا إنّ القوم لا يصدّقون ما رأونه لأنفسهم, فكيف ما يراه لهم غيرهم ؟
فقال له: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه, فأخبرته أني سألتك الإذن عليه, فلم تفعل .
فدخل الرّبيع على المهديّ فقال له : يا أمير المؤمنين, إنّكم قد أطعمتم النّاس في أنفسكم, فقد احتالوا لكم بكلّ ضرب.
قال له: هكذا صنع الملوك, فما ذاك؟
قال: رجل بالباب يزعم أنّه قد رأى لأمير المؤمنين رؤيا حسنة, وقد أحبّ أن يقصّها عليه .
فقال له المهديّ: ويحك يا ربيع, إنّي والله أرى الرّؤيا لنفسي, فلا تصحّ لي, فكيف إذا ادّعاها من لعلّه قد افتعلها ؟
قال: والله قلت له مثل هذا, فلم يقبل.
قال: هات الرّجل.
فأدخل إليه سعيد بن عبد الرّحمن وكان له رؤية وجمال ومروءة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان , فقال له المهديّ : هات بارك الله عليك, فماذا رأيت ؟
قال: رأيت أمير المؤمنين آتياً أتاني في منامي , فقال لي: أخبر أمير المؤمنين المهديّ أنّه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة , وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنّه يقلّب يواقيت, ثمّ يعدّها, فيجدها ثلاثين ياقوتة, كأنّها قد وهبت له.
فقال المهديّ : ما أحسن ما رأيت, ونحن نمتحن رؤياك في ليلتك المقبلة على ما أخبرتنا به , فإن كان الأمر على ما ذكرته أعطيناك ما تريد , وإن كان الأمر بخلاف ذلك , علمنا أنّ الرّؤيا ربما صدقت وربما اختلفت .
فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين, فما أنا أصنع السّاعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي, فأخبرتهم أنّي كنت عند أمير المؤمنين ثم رجعت صفراً ؟
قال له المهديّ: فكيف نعمل؟
قال: يعجّل لي أمير المؤمنين ما أحبّ وأحلف له بالطّلاق أنّي قد صدقت.
فأمر له بعشرة آلاف درهم, وأمر أن يؤخذ منه كفيل ليحضره من غد ذلك اليوم, فقبض المال, وقيل من يكفل بك؟
فمدّ عينيه إلى خادم فرآه حسن الوجه والزّيّ, فقال: هذا يكفل بي .
فقال له المهديّ: أتكفل به؟
فاحمرّ وخجل وقال: نعم. وكفله, وانصرف.
فلمّا كان في تلك اللّيلة رأى المهديّ ما ذكره له سعيد حرفاً حرفاً وأصبح سعيد في الباب واستأذن فأذن له, فلمّا وقعت عين المهديّ عليه قال : أين مصداق ما قلت لنا ؟
فقال سعيد: امرأتي طالق إن لم تكن رأيت شيئاً .
قال له المهديّ: ويحك , ما أجرأك على الحلف بالطّلاق.
قال: لأنّني أحلف على صدق .
قال له المهديّ: فقد والله رأيت ذلك مبينا.
فقال له سعيد : الله أكبر! فأنجز يا أمير المؤمنين ما وعدتني.
قال له: حبّاً وكرامة. ثمّ أمر له بثلاثة آلاف دينار, وعشرة تخوت ثياب من كلّ صنف , وثلاثة مراكب من أنفس دوابّه محلّاة .
فأخذ ذلك وانصرف, فلحق به الخادم الّذي كان كفل به, وقال له: سألتك بالله هل كان لهذه الرّؤيا التي ذكرتها من أصل؟
قال له سعيد: لا والله .
قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له ؟
قال: هذه من المخاريق الكبار الّتي لا يأبه لها أمثالكم, وذلك أنّي لمّا ألقيت إليه هذا الكلام خطر بباله , وحدّث به نفسه, وأسرّ به قلبه, وشغل به فكره, فساعة نام خيّل له ما حلّ في قلبه, وما كان شغل به فكره في المنام .
قال له الخادم: قد حلفت بالطلاق !
قال: طلّقت واحدة, وبقيت معي ثنتين فأردّ في مهرٍ عشرة دراهم, وأتخلّص وأتحصّل على عشرة آلاف درهم , وثلاثة آلاف دينار, وعشرة تخوت من أصناف الثّياب, وثلاثة مراكب.
فبهت الخادم في وجهه وتعجّب من ذلك, فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك بي, فاستر عليّ ذلك.
ففعل ذلك, فطلبه المهديّ لمنادمته, فنادمه وحظي عنده وقلّده القضاء على عسكر المهديّ, فلم يزل كذلك حتّى مات المهديّ.

·قال المحسن بن عليّ التنوخيّ , عن أبيه قال :
حججت في موسم اثنتين وأربعين , فرأيت مالاً عظيماً وثياباً كثيرة تفرّق في المسجد الحرام , فقلت : ما هذا ؟
فقالوا : بخراسان رجل صالح عظيم النّعمة والمال يقال له:"عليّ الزرّاد", أنفذ عام أوّل مالاً وثياباً إلى ههنا مع ثقة له, وأمره أن يعتبر قريشاً , فمن وجده منها حافظاً للقرآن دفع إليه كذا وكذا ثوباً .
قال: فحضر الرّجل عام أوّل , فلم يجد في قريش البتة أحداً يحفظ القرآن إلًا رجلا واحداً من بني هاشم, فأعطاه قسطه, وتحدّث النّاس بالحديث, وردّ باقي المال إلى صاحبه.
فلمّا كان في هذه السّنة عاد بالمال والثّياب, فوجد خلقاً عظيماً من جميع بطون قريش قد حفظوا القرآن, وتسابقوا إلى تلاوته بحضرته, وأخذوا الثّياب والدّراهم , فقد فنيت وبقي منهم من لم يأخذ, وهم يطالبونه .
قال: فقلت: لقد توصّل هذا الرّجل إلى ردّ فضائل قريش عليها بما يشكره له الله سبحانه .

·أخبرنا عليّ بن المحسن, عن أبيه قال:
أخبرني جماعة من شيوخ بغداد أنّه كان بها في طرف الجسر سائلان أعميان, أحدهما يتوسّل بأمير المؤمنين عليّ, والآخر بمعاوية, ويتعصّب لهما النّاس, ويجمعان القطع, فإذا انصرفا فيقتسمان القطع, وكانا يحتالان بذلك على النّاس .

·حدّثنا عبد الواحد بن محمّد الموصليّ , حدّثنا بعض فتيان الموصليّ قال :
لمّا قتل ناصر الدّولة أبا بكر بن رايق الموصليّ نهب النّاس داره بالموصل, فدخلت لأنهب, فوجدت كيساً فيه أكثر من ألف دينار, فأخذته وخفت أن أخرج وهو معي كذلك, فيبصرني بعض الجند, فيأخذه مني, فطفت الدّار, فوقعت على المطبخ, فعمدت إلى قدرة كبيرة , فطرحت الكيس فيها, وحملتها على يدي, فكلّ من استقبلني نظر أنّي ضعيف قد حملني الجوع على أخذ تلك القدرة الّتي سلمت إلى منزلي .

·وحدّثني أبو حسن بن عباس القاضي قال:
رأيت صديقاً على بعض زوارق الجسر ببغداد جالساً في يوم شديد الرّيح وهو يكتب رقعة , فقلت:
ويحك, في هذا الموضع وهذا الوقت؟!.
قال: أريد أن أزوّر على رجل مرتعش ويدي لا تساعدني , فتعمّدت الجلوس ههنا لتحرّك الزّورق بالموج في هذه الرّيح فيجيء خطي مرتعشاً فيشبه خطّه !!!!

·دخل أبو دلامة على المهديّ , فأنشده قصيدة فقال له : سلني حاجتك .
فقال: يا أمير المؤمنين, تهب لي كلباً .
فغضب وقال: أقول لك, سلني حاجتك فتقول:" هب لي كلباً"؟
فقال: يا أمير المؤمنين, الحاجة لي أم لك .
قال: لا, بل لك.
قال: فإنّي أسألك أن تهب لي كلب صيد.
فأمر له بكلب, فقال :
يا أمير المؤمنين, هبني خرجت إلى الصّيد , أأعدو على رجلي؟
فأمر له بدابّة.
فقال: يا أمير المؤمنين, فمن يقوم عليها؟
فأمر له بغلام .
فقال: يا أمير المؤمنين, فهبني قصدت صيداً وأتيت به المنزل, فمن يطبخه ؟
فأمر له بجارية.
فقال: يا أمير المؤمنين, هؤلاء أين يبيتون؟
فأمر له بدار.
فقال: يا أمير المؤمنين, قد صيّرت في عنقي كفاً (أي جمعا من عيال) , فمن أين ما يتقوّت به هؤلاء ؟
قال: فإنّ أمير المؤمنين قد أقطعك ألف جريب عامراً وألف جريب غامراً.
فقال: أمّا العامر فقد عرفته , فما الغامر؟
قال: الخراب الّذي لا شيء فيه.
قال: ولكنّني أسأل أمير المؤمنين من ألفي جريب جريباً واحداً عامراً.
قال: من أين؟
قال: من بيت المال.
فقال المهديّ : حوّلوا المال وأعطوه جريباً.
فقال: يا أمير المؤمنين ! اذا حوّلوا منه المال صار غامراً.
فضحك منه وأرضاه .

·كان نصراني يختلف إلى الضّحّاك بن مزاحم, فقال له يوماً :
لم لا تسلم ؟
قال: لأنّي أحبّ الخمر ولا أصبر عليها.
قال: فأسلم واشربها.
فأسلم, فقال له الضّحّاك:
إنّك قد أسلمت الآن , فإن شربت حددناك, وإن رجعت عن الإسلام قتلناك.

·وروي عن ضمرة بن شوذب قال: كان لرجل جارية فوطئها سرّاً , ثمّ قال لأهله : إنّ مريم كانت تغتسل في هذه اللّيلة, فاغتسلوا, فاغتسل هو واغتسل أهله.

·قال الجاحظ : كان رجل يرقي الضّرس يسخر بالنّاس ليأخذ منهم شيئاً , وكان يقول للّذي يرقيه :
إيّاك أن يخطر على قلبك اللّيلة ذكر القرد.
فيبيت وجعاً فيبكّر إليه , فيقول: لعلّك ذكرت القرد؟
فيقول : نعم .
فيقول: ثمّ لم تنفع الرّقية.

·وقف حائك على طبيب, فرآه يصف لهذا النّقوع ولهذا التّمر هنديّ, فقال: من لا يحسن مثل هذا؟
فرجع إلى زوجته فقال: اجعلي عمامتي كبيرة.
فقالت: ويحك أيّ شيء قد طرأ لك؟
قال: أريد أن أكون طبيباً.
قالت: لا تفعل, فإنّك تقتل النّاس فيقتلوك.
قال: لا بدّ.
فخرج أوّل يوم فقعد يصفّ النّاس, فحصّل قراريط , فجاء فقال لزوجته: أنا كنت أعمل كلّ يوم بحبّة , فانظري إيش يحصل؟
فقالت: لا تفعل.
قال: لا بدّ.
فلمّا كان في اليوم الثّاني اجتازت جارية , فرأته فقالت لسيّدتها, وكانت شديدة المرض : اشتهيت هذا الطّبيب الجديد يداويك, فقالت: ابعثي إليه. فجاء , وكانت المريضة قد انتهى مرضها ومعها ضعف, فقال :
عليّ بدجاجة مطبوخة, فجيء بها, فأكلت, فقويت ثم استقامت.
فبلغ هذا إلى السّلطان, فجاء به فشكا إليه مرضاً يشتكيه, فاتّفق أنّه وصف له شيئاً أصلح به, فاجتمع إلى السّلطان جماعة يعرفون ذلك الحائك, فقالوا له :
هذا رجل حائك لا يدري شيئاً.
فقال السّلطان: هذا قد صلحت على يديه وصلحت الجارية على يديه, فلا أقبل قولكم .
قالوا: فنجرّبه بمسائل.
قال: فافعلوا.
فوضعوا له مسائل وسألوه عنها, فقال: إن أجبتكم عن هذه المسائل لم تعلموا جوابها, لأن الجواب لهذه المسائل لا يعرفه إلّا طبيب, ولكن أليس عندكم مارستان (مستشفى) ؟
قالوا : بلى .
قال: أليس فيه مرضى لهم مدّة.
قالوا : بلى .
قال: فأنا أداويهم حتّى ينهض الكلّ في عافية في ساعة واحدة, فهل يكون دليل على علمي أقوى من ذلك؟
قالوا: لا.
فجاء إلى باب المارستان وقال: ادخلوا لا يأتي معي أحد.
ثم دخل وحده وليس معه إلّا قيّم المارستان, فقال للقيّم : إنّك والله إن تحدّثت بما أعمل صلبتك, وان سكتّ أغنيتك.
قال: ما أنطق.
فأحلفه بالطّلاق, ثمّ قال : عندك في هذا المارستان زيت؟
قال: نعم .
قال: هاته .
فجاء منه بشيء كثير, فصبّه في قدر كبير, ثمّ أوقد تحته, فلمّا اشتدّ غليانه صاح بجماعة المرضى, فقال لأحدهم:
إنّه لا يصلح لمرضك إلّا أن تنزل هذا القدر, فتقعد في هذا الزّيت.
فقال المريض: الله الله في أمري!
قال: لا بدّ.
قال: أنا شفيت, وإنّما كان بي قليل من صداع.
قال: إيش يقعدك في المارستان وأنت معافى؟
قال: لا شيء.
قال: فاخرج وأخبرهم.
فخرج وأخبرهم, فخرج يعدو ويقول: شفيت بإقبال هذا الحكيم.
ثمّ جاء إلى آخر فقال: لا يصلح لمرضك الّا أن تقعد في هذا الزّيت.
فقال: الله الله, أنا في عافية.
قال: لا بدّ.
قال: لا تفعل, فإنّي من أمس أردت أن أخرج.
قال: فإن كنت في عافية فاخرج , وأخبر النّاس أنّك في عافية.
فخرج يعدو ويقول: شفيت ببركة الحكيم.
وما زال على هذا الوصف حتّى أخرج الكلّ شاكرين له, والله الموفّق !!! .
 
الفصل التّاسع في ذكر من احتال فانعكس عليه مقصوده

الفصل التّاسع في ذكر من احتال فانعكس عليه مقصوده

الفصل التّاسع في ذكر من احتال فانعكس عليه مقصوده


·روي أنّ بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ كان في حبس الحجّاج , وكان يعذّبه , وكان كلّ من مات من الحبس رفع خبره إلى الحجّاج , فيأمر بإخراجه وتسليمه إلى أهله , فقال بلال للسّجّان :
خذ منّي عشرة آلاف درهم وأخرج اسمي إلى الحجّاج في الموتى, فإذا أمرك بتسليمي إلى أهلي هربت في الأرض, فلم يعرف الحجاج خبري , وإن شئت أن تهرب معي فافعل وعليّ غناك أبداً .
فأخذ السّجّان المال ورفع اسمه في الموتى.
فقال الحجّاج : مثل هذا لا يجوز أن يخرج إلى أهله حتّى أراه, هاته .
فعاد إلى بلال فقال : اعهد.
قال: وما الخبر ؟
قال: إنّ الحجّاج قال : كيت وكيت, فان لم أحضرك إليه ميتاً قتلني , وعلم أنّي أردت الحيلة عليه , ولا بدّ أن أقتلك خنقاً .
فبكى بلال وسأله أن لا يفعل , فلم يكن إلى ذلك طريق.
فأوصى وصلّى, فأخذه السّجّان وخنقه , وأخرجه إلى الحجّاج فلمّا رآه ميتاً قال :
سلّمه إلى أهله.
فأخذوه , وقد اشترى الموت لنفسه بعشرة آلاف درهم, ورجعت الحيلة عليه .

·روي أنّ عضد الدّولة بعث القاضي أبا بكر الباقلانيّ في رسالة إلى ملك الرّوم, فلمّا ورد مدينته عرف الملك خبره ومحلّه من العلم , ففكّر الملك في أمره , وعلم أنّه لا يفكّر له إذا دخل عليه كما جرى رسم الرّعيّة أن يقبّل الأرض بين يدي الملك, فتجنّبت له الفكرة أن يضع سريره الّذي يجلس عليه وراء باب لطيف لا يمكن أن يدخل أحد منه إلّا راكعاً ليدخل القاضي منه على تلك الحال .
فلمّا وصل القاضي إلى المكان فطن بالقصّة , فأدار ظهره وحنى رأسه , ودخل من الباب وهو يمشي إلى خلفه , وقد استقبل الملك بدبره حتّى صار بين يديه , ثمّ رفع رأسه وأدار وجهه حينئذ إلى الملك , فعلم الملك من فطنته وهابه .

·وقد روينا أنّ مزينة أسرت ثابتاً أبا حسّان الأنصاريّ , وقالوا : لا نأخذ فداءه إلّا تيساً .
فغضب قومه وقالوا : لا نفعل هذا.
فأرسل إليهم أن أعطوهم ما طلبوا. فلمّا جاؤوا بالتّيس قال:
أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم .
فسمّوا مزينة التّيس, فصار لهم لقباً وعبثاً .

·حدّثني أبو بكر الخطّاط قال :
كان رجل فقيه خطّه في غاية الرداءة , فكان الفقهاء يعيبونه بخطّه , ويقولون : لا يكون خطّ أردأ من خطّك.
فيضجر من عيبهم إيّاه, فمرّ يوماً بمجلّد يباع فيه خطّ أردأ من خطّه , فبالغ في ثمنه , فاشتراه بدينار وقيراط , وجاء به ليحتجّ عليهم إذا قرؤوه .
فلمّا حضر معهم أخذوا يذكرون قبح خطّه , فقال لهم: قد وجدت أقبح من خطّي وبالغت في ثمنه , حتّى أتخلّص من عيبكم.
فأخرجه فتصفّحوه, واذا في آخره اسمه وأنّه كتبه في شبابه, فخجل من ذلك .
 
الفصل العاشر في ذكر من وقع في آفة فتخلّص منها بالحيلة ...

الفصل العاشر في ذكر من وقع في آفة فتخلّص منها بالحيلة ...

الفصل العاشر في ذكر من وقع في آفة فتخلص منها بالحيلة


ومن استخدم بذكائه المعاريض


·وعن الأصمعيّ عن أبيه قال: أتي عبد الملك بن مروان برجل كان مع بعض من خرج عليه, فقال: اضربوا عنقه.
فقال: يا أمير المؤمنين, ما كان هذا جزائي منك.
قال: وما جزاؤك؟
قال: والله ما خرجت مع فلان إلّا بالنّظر لك, وذلك أنّي رجل مشؤوم, ما كنت مع رجل قطّ إلّا غلب وهزم , وقد بان لك صحّة ما ادّعيت, وكنت لك خيراً من مئة ألف معك.
فضحك وخلّى سبيله .

*حدّث القاضي أبو الحسين بن عتبة قال:
كانت لي ابنة عمّ موسرة تزوّجتها, فلم أوثرها لشيء من جمالها, ولكنّي كنت أستعين بمالها وأتزوّج سرّاً, فإذا فطنت بذلك هجرتني وطرحتني وضيّقت عليّ إلى أن أطلّق من تزوّجتها, ثمّ تعود اليّ .
فطال ذلك عليّ , وتزوّجت صبيّة حسناء موافقة لطباعي مساعدة على اختياري, فمكثت معي مدّة يسيرة, وسعي بها إلى ابنة عمّي, فأخذت في المناكدة والتّضييق عليّ, فلم يسهل عليّ فراق تلك الصبيّة فقلت لها :
استعيري من كلّ جارة قطعة من أفخر ثيابها , حتّى يتكامل لك خلعة تامّة الجمال, وتبخّري بالعنبر, واذهبي إلى ابنة عمّي فابكي بين يديها, وأكثري من الدّعاء لها والتّضرّع إليها إلى أن تضجريها , فإذا سألتك عن حالك, فقولي لها : " إن ابن عمّي قد تزوّجني , وفي كلّ وقت يتزوّج عليّ واحدة , وينفق مالي عليها, وأريد أن تسألي القاضي معونتي وإنصافي منه", فإنّها سترفعك إليّ .
ففعلت, فلمّا دخلت عليها واتّصل بكاؤها رحمتها, وقالت لها : فالقاضي شرّ من زوجك, وهكذا يفعل بي .
وقامت فدخلت عليّ, وأنا في مجلس لي, وهي غضبى ويد الصبيّة في يدها, فقالت :
هذه المشؤومة حالها مثل حالي , فاسمع مقالها واعتمد إنصافها .
فقلت: ادخلا.
فدخلتا جميعاً , فقلت لها: ما شأنك؟
فذكرت ما وافقتها عليه, فقلت لها : هل اعترف ابن عمّك بأنّه قد تزوّج عليك ؟
فقالت: لا, والله, وكيف يعترف بما يعلم أنّي لا أقارّه عليه ؟
قلت: فشاهدت أنت هذه المرأة ووقفت على مكانها وصورتها؟
فقالت: لا والله .
فقلت: يا هذه اتّقي الله ولا تقبلي شيئاً سمعته , فإنّ الحسّاد كثير والطّلاب كثير لإفساد النّساء بالحيل والتّكذيب, فهذه زوجتي قد ذكر لها أنّي قد تزوجت عليها, وكلّ زوجة لي وراء هذا الباب طالق ثلاثاً .
فقامت ابنة عمّي فقبّلت رأسي وقالت: قد علمت أنّه مكذوب عليك أيّها القاضي .
ولم يلزمني حنث لاجتماعها بحضرتي .

·حدثنا الأصمعيّ قال : أتي المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه, فقال له :
يا أمير المؤمنين, الانتقام عدل, والتّجاوز فضل, ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النّصيبين دون أن يبلغ أرفع الدّرجتين .
فعفا عنه.

·أخذ زياد رجلاً من الخوارج , فأفلت منه, فأخذ أخاً له فقال :
إن جئت بأخيك وإلّا ضربت عنقك.
قال: أرأيت إن جئت بكتاب من أمير المؤمنين, تخلّي سبيلي؟
قال: نعم .
قال: فأنا آتيك بكتاب من العزيز الرّحيم, وأقيم عليه شاهدين: ابراهيم وموسى عليهما السلام:{ أم لم ينبّأ بما في صحف موسى * وابراهيم الّذي وفى * ألّا تزر وازرة وزر أخرى }.
قال زياد : خلّوا سبيله, هذا رجل لُقّن حجّته.

·أتى الحجّاج برجل ليقتله وبيده لقمة , فقال: والله لا أكلتها حتّى أقتلك .
قال: أو خير من ذلك, تطعمنيها ولا تقتلني, فتكون قد بررت في يمينك ومننت عليّ .
فقال: ادن مني. فأطعمه إيّاه وخلّاه.

·وأتي الحجّاج برجل من الخوارج , فأمر بضرب عنقه, فاستنظره يوماً , فقال: ما تريد بذلك ؟
قال: أؤمّل عفو الأمير مع ما تجري به المقادير.
فاستحسن قوله وخلّاه .

·خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط , فاعترضهم جيش من الخوارج, فقال واصل :
لا ينطقنّ أحد ودعوني معهم .
فقصدهم واصل , فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا, فقال:
كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ولا لأي شيء جئنا؟
فقالوا: نعم. فما أنتم ؟
قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.
فكفّوا عنهم, وبدأ رجل منهم يقرأ عليهم القرآن , فلمّا أمسك قال واصل:
قد سمعنا كلام الله, فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه, وكيف ندخل في الدّين؟
فقال: هذا واجب. سيروا.
فسرنا والخوارج والله معنا يحموننا فراسخ, حتّى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه, فانصرفوا.

·روي أنّ الحجّاج قال لغلام له : تعال نتنكّر وننظر ما لنا عند النّاس .
فتنكّرا وخرجا , فمرّا على المطّلب غلام أبي لهب, فقالا:
يا هذا, أيّ شيء على الحجّاج ؟
قال: على الحجاج لعنة الله.
قالا: فمتى يخرج ؟
قال: أخرج الله روحه من بين جنبيه, ما يدريني؟
قال: أتعرفني ؟
قال: لا.
قال: أنا الحجّاج بن يوسف.
قال المطلّب: أتعرفني أنت.
قال: لا.
قال: أنا المطلّب غلام أبي لهب, أصرع في كلّ شهر ثلاثة أيّام أولها اليوم, فتركه ومضى .

·وبلغنا أنّ الحجّاج انفرد يوماً عن عسكره, فلقي أعرابيّاً فقال:
يا وجه العرب, كيف الحجّاج؟
قال: ظالم غاشم .
قال: فهلّا شكوته إلى عبد الملك؟
فقال: لعنه الله, وهو أظلم منه وأغشم.
فأحاط به العسكر, فقال: أركبوا البدويّ.
فأركبوه, فسأل عنه, فقالوا: هو الحجّاج, فركض من الفرس خلفه, وقال: يا حجّاج !
قال: ما لك؟
قال: السرّ الّذي بيني وبينك لا يطّلع عليه أحد.
فضحك وخلّاه.

·كان أبو الحسين بن السمّاك يتكلّم على النّاس بجامع المدينة, وكان لا يحسن من العلوم شيئاً إلّا ما شاء الله, وكان مطبوعاً يتكلّم على مذهب الصوفيّة , فكتبت إليه رقعة :" ما يقول السّادة الفقهاء في رجل مات وخلّف كذا وكذا؟".
ففتحها فتأمّلها فقرأ: ما تقول السّادة الفقهاء في رجل مات؟
فلمّا رآها في الفرائض رماها من يده, وقال: أنا أتكلّم على مذاهب قوم إذا ماتوا لم يخلّّفوا شيئاً .
فعجب الحاضرون من حدّة خاطره.

·قال ابن عرّابة المؤدّب :
حكى لي محمّد بن عمر الضّبيّ أنّه حفّظ ابن المعتزّ وهو يؤدّبه سورة (والنّازعات)
وقال له :
إذا سألك أمير المؤمنين أبوك " في أيّ شيء أنت؟" فقل له: في السّورة الّتي تلي (عبس), ولا تقل أنا في النّازعات.
فسأله أبوه: في أي شيء أنت؟
قال: في السّورة الّتي تلي عبس.
فقال: من علّمك هذا؟
قال: مؤدّبي.
فأمر له بعشرة آلاف درهم.

·قال عبد الواحد بن ناصر المخزوميّ :
أخبرني من أثق به أنّه خرج في طريق الشّام مسافراً يمشي وعليه مرقعة, وهو في جماعة نحو الثّلاثين رجلاً كلّهم على هذه الصّفة, قال :
فصحبنا في بعض الطّريق رجل شيخ حسن الهيئة ومعه حمار فارهٌ يركبه, ومعه بغلان عليهما رجل وقماش ومتاع فاخر, فقلنا له :
يا هذا إنّك لا تفكّر في خروج الأعراب علينا, فإنّه لا شيء معنا يؤخذ, وأنت لا تصلح لك صحبتنا مع ما معك.
فقال: يكفينا الله .
ثمّ سار ولم يقبل منّا, وكان إذا نزل يأكل استدعى أكثرنا فأطعمه وسقاه, وإذا عيي الواحد منّا أركبه على أحد بغليه, وكانت جماعة تخدمه وتكرمه وتتدبّر برأيه , إلى أن بلغنا موضعاً , فخرج علينا نحو ثلاثين فارساً من الأعراب, فتفرّقنا عليهم ومانعناهم .
فقال الشّيخ : لا تفعلوا.
فتركناهم , ونزل فجلس وبين يديه سفرته, ففرشها وجلس يأكل, وأظلتنا الخيل, فلمّا رأوا الطّعام دعاهم إليه, فجلسوا يأكلون, ثمّ حلّ رحله وأخرج منه حلوى كثيرة وتركها بين يدي الأعراب, فلمّا أكلوا وشبعوا جمدت أيديهم وخدرت أرجلهم ولم يتحرّكوا .
فقال لنا : إنّ الحلو مبنّج , أعددته لمثل هذا وقد تمكّن منهم وتمّت الحيلة. ولكن لا يفكّ البنج إلّا أن تصفعوهم , فافعلوا فإنّهم لا يقدرون لكم على ضرر ونسير.
ففعلوا, فما قدروا على الامتناع , فعلمنا صدق قوله, وأخذنا أسلحتهم وركبنا دوابّهم وسرنا حواليه في موكب, ورماحهم على أكتافنا, وسلاحهم علينا, فما نجتاز بقوم إلّا يظنّونا من أهل البادية فيطلبون النّجاة منّا, حتّى بلغنا مأمننا.

·حدثنا أبو محمد عبد الله بن عليّ المقري قال:
دفن رجل مالاً في مكان وترك عليه طابقاً وتراباً كثيراً , ثمّ ترك فوق ذلك خرقة فيها عشرون ديناراً , وترك عليها تراباً كثيراً ومضى, فلمّا احتاج إلى الذّهب كشف عن العشرين, فلم يجدها, فكشف عن الباقي فوجده , فحمد الله على سلامة ماله. وإنّما فعل ذلك خوفاً أن يكون قد رآه أحد , وكذلك كان, فإنّه لمّا جاءه الّذي رآه وجد العشرين, فأخذها ولم يعتقد أنّ ثمّ شيئاً آخر.

·وقال بعضهم:
خرجت في اللّيل لحاجة , فإذا أعمى على عاتقه جرّة, وفي يده سراج, فلم يزل يمشي حتّى أتى النّهر وملأ جرّته وانصرف راجعاً .
فقلت: يا هذا, أنت أعمى واللّيل والنّهار عندك سواء.
فقال: يا فضولي, حملتها معي لأعمى القلب مثلك يستضيء بها, فلا يعثر بي في الظّلمة فيقع عليّ فيكسر جرّتي.

·وروى أبو جعفر المدينيّ قال:
خرج قوم من الخوارج بالبصرة, فلقوا شيخاً أبيض الرّأس واللّحية, فقالوا له: من أنت ؟
قال : أعُهد إليكم من اليهود بشيء أو بدا لكم في قتل أهل الديّة؟
قالوا: اذهب عنّا إلى النّار. وتركوه.

·قال رجل لهشام بن عمرو القوطيّ : كم تعدّ؟
قال: من واحد إلى ألف وأكثر.
قال: لم أرد هذا!
قال: فما أردت؟
قال: كم تعدّ من السنّ؟
قال: اثنين وثلاثين, ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل.
قال: لم أرد هذا.
قال: فما أردت؟
قال: كم لك من السّنين؟
قال: ما لي منها شيء كلّها لله عز وجلّ.
قال: فما سنّك؟
قال: عظم.
قال: فابن كم أنت؟
قال: ابن اثنين, أب وأم.
قال: فكم أتى عليك؟
قال: لو أتى عليّ شيء لقتلني.
قال: فكيف أقول؟
قال: قل:" كم مضى من عمرك".

·روي أنّ رجلين من آل فرعون سعيا برجل مؤمن إلى فرعون, فأحضره فرعون وأحضرهما وقال للسّاعيين : من ربّكما ؟
قالا: أنت.
فقال للمؤمن: من ربّك.
قال: ربّي ربّهما.
فقال فرعون : سعيتما برجل على ديني لأقتله, فقتلهما .
قالوا: فذلك قوله تعالى:" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب".

·حدثنا اسحاق بن هانىء قال: كنّا عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه في منزله ومعنا المروزيّ, ومهنّى بن يحيى الشاميّ, فدقّ داقّ الباب وقال: المروزيّ ههنا؟
فكأن المروزيّ كره أن يعلم موضعه, فوضع مهنّى بن يحيى إصبعه في راحته وقال: ليس المروزيّ ههنا.
فضحك أحمد ولم ينكر عليه ذلك.

·وقال أبو بكر المروزيّ: جاء مهنّى بن يحيى الشامي إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ومعه أحاديث, فقال: يا أبا عبد الله, معي هذه الأحاديث, وأريد أن أخرج, فحدّثني بها.
فقال: متى تريد أن تخرج ؟
قال: السّاعة أخرج.
فحدّثه بها وخرج, فلمّا كان من الغد أو بعد ذلك جاء إلى أبي عبد الله, فقال له أبو عبد الله :
أليس قلت لي أخرج السّاعة ؟
قال: قلت لك: إنّي أخرج السّاعة من بغداد؟ إنّما قلت أخرج من زقاقك.
 
الفصل الحادي عشر في ذكر من أفحم خصمه في المناظرة بالجواب المسكت

الفصل الحادي عشر في ذكر من أفحم خصمه في المناظرة بالجواب المسكت

الفصل الحادي عشر في ذكر من أفحم خصمه في المناظرة بالجواب المسكت


·كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ مئة وعشرين سنة, ستين في الجاهليّة, وستين في الإسلام, فلمّا ولي مروان بن الحكم المدينة دخل عليها حويطب, فقال له مروان:
تأخّر إسلامك أيّها الشّيخ حتّى سبقك الأحداث.
فقال: والله لقد هممت بالإسلام غير مرّة, وكلّ ذلك يعوقني عنه أبوك, وينهاني , ويقول:" تدع دين آبائك لدين محمّد؟".
فأسكت مروان وندم على ما كان .

·حدّثنا محمّد بن زكريا قال : حضرت مجلساً فيه عبيد الله بن محمد بن عائشة التميميّ , وفيه جعفر بن قاسم الهاشميّ , فقال لابن عائشة :
ههنا آية نزلت في بني هاشم خصوصاً .
قال: وما هي ؟
قال: قوله تعالى :{ وانه لذكر لك ولقومك} .
قال ابن عائشة : قومه قريش, وهي لنا معكم .
قال: بل هي لنا خصوصاً .
قال: فخذ معها :{ وكذّب به قومك وهو الحقّ} .
فسكت جعفر فلم يجد جواباً .

·وروي أنّ معاوية قال لعبد الله بن عامر: إنّ لي عندك حاجة, أتقضيها ؟
قال: نعم. ولي إليك حاجة أتقضيها؟
قال معاوية: نعم.
قال: سل حاجتك.
قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك بالطّائف.
قال عبد الله: فعلت.
فقال معاوية: فسل حاجتك. قال: أن تردّها عليّ.
قال: قد فعلت.

·وافتخر قوم من اليمن عند هشام بن عبد الملك, فقال لخالد بن صفوان: أجبهم.
فقال: هم بين حائك برد, ودابغ جلد, وسائس قرد. ملكتهم امرأة, دلّ عليهم هدهد, وغرّقتهم فأرة .

·قال المتوكّل يوماً لجلسائه : أتدرون ما الّذي نقم المسلمون من عثمان ؟
قالوا : لا .
قال: أشياء, منها أنّه قام أبو بكر دون مقام الرّسول بمرقاة, ثمّ قام عمر دون مقام أبي بكر بمرقاة , فصعد عثمان ذروة المنبر.
فقال رجل : ما أحد أعظم منّة عليك يا أمير المؤمنين من عثمان .
قال: وكيف؟ ويلك!
قال: لأنّه صعد ذروة المنبر, فلو أنّه كلّما قام خليفة نزل عمّن تقدّمه كنت أنت تخطبنا من بئر جلولاء .
فضحك المتوكّل ومن حوله .

·قال : كان أصحاب المبرّد إذا اجتمعوا واستأذنوا يخرج الآذن فيقول: إن كان فيكم أبو العبّاس الزّجّاج, والّا انصرفوا.
فحضروا مرّة, ولم يكن الزّجّاج فيهم, فقال لهم ذلك, فانصرفوا, وثبت رجل منهم اسمه عثمان فقال للآذن:
قل لأبي العباس: انصرف القوم كلّهم إلّا عثمان, فإنّه لا ينصرف.
فعاد الآذن إليه وأخبره, فقال له: إنّ عثمان إذا كان نكرة انصرف, ونحن لا نعرفك فانصرف راشداً .

·قال: تكلّم شابّ يوماً عند الشعبيّ , فقال الشعبيّ : ما سمعنا بهذا .
فقال الشابّ : كلّ العلم سمعت؟
قال: لا.
قال: فشطره؟
قال: لا.
قال: فاجعل هذا في الشّطر الّذي لم تسمعه.
فأفحم الشّعبيّ .

·وقال عبد الله بن سليمان بن أشعث: سمعت أبي يقول:
كان هارون الأعور يهوديّا ً, فأسلم وحسن إسلامه , وحفظ القرآن وضبطه, وحفظ النحو, فناظره إنسان يوماً في مسألة, فغلبه هارون فلم يدر المغلوب ما يصنع, فقال له :
أنت كنت يهودياً فأسلمت .
فقال له هارون : أفبئس ما صنعت؟
فغلبه أيضاً , والله الموفق.

·كان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال, فسئل عن مسألة في مجلس الخليفة, فقال: لا أدري.
فقالوا له : تأخذ في كلّ شهر كذا وكذا, ولا تحسن مسألة؟
فقال: إنّما آخذ على ما أحسن, ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال , ولا يفنى ما لا أحسن.
فأعجب الخليفة جوابه, وأمر له بجائزة فاخرة, وزاد في جرايته.

·قال أبو العبّاس المبرّد : ضاف رجلاً قوم فكرهوه, فقال الرجل لامرأته: كيف لنا أن نعلم مقدار مقامه؟
فقالت: ألق بيننا شرّاً حتّى نتحاكم إليه.
ففعلا, فقالت للضّيف: بالّذي بارك لك في غدوّك غداً, أيّنا أظلم؟
فقال الضّيف: والّذي يبارك لي في مقامي عندكم شهراً ما أعلم.

·روى يعقوب الشحّام قال: قال لي أبو الهذيل: بلغني أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة, وقد قطع وغلب عامّة متكلّميهم , فقلت لعمّي :
امض بي إلى هذا اليهودي أكلّمه.
فقال: يا بنيّ , هذا قد غلب جماعة متكلّمي البصرة.
فقلت: لا بدّ .
فأخذ بيدي, فدخلنا على اليهوديّ, فوجدته يقرّر النّاس الّذين يكلمونه نبوّة موسى عليه السّلام, ثمّ يجحد نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فيقول : نحن على ما اتّفقنا عليه من نبوّة موسى إلى ما أن نتّفق على غيره فنقرّ به .
فدخلت إليه, فقلت له: أسألك أو تسألني؟
فقال: يا بنيّ , أو ما ترى ما أفعله بمشايخك؟
فقال: دع عنك هذا واختر .
قال: بل أسألك. أخبرني أليس موسى نبياً من أنبياء الله قد صحّت نبوّته, وثبت دليله؟ تقرّ بهذا أو تجحده, فتخالف صاحبك؟
فقلت له : إنّ الّذي سألتني عنه من أمر موسى عندي على أمرين: أحدهما : أني أقرّ بنبوّة موسى الّذي أخبر بصحّة نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأمرنا باتّباعه وبشّر بنبوّته, فإن كان عن هذا تسألني, فأنا مقرّ بنبوّته, وإن كان الّذي سألتني عنه لا يقرّ بنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ولم يأمر باتّباعه, ولا بشّر به, فلست أعرفه ولا أقرّ بنبوّته, وهو عندي شيطان مخزيّ .
فتحيّر ممّا قلت له. فقال لي : فما تقول في التّوراة؟
فقلت: أمر التّوراة أيضاً عندي على وجهين: إن كانت التّوراة الّتي أنزلت على موسى الّذي أقرّ بنبوّة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم, فهي التّوراة الحقّ, وإن كانت الّذي تدّعيه فباطل, وأنا غير مصدّق بها .
فقال: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني وبينك, فظننت أنّه يقول شيئا من الخير, فتقدّمت إليه فسارّني وشاتمني, وقد رأى أنّي أثب به, فيقول :" وثبوا عليّ".
فأقبلت على من كان في المجلس, فقلت: أعزّكم الله, أليس قد أجبته ؟
فقالوا: بلى .
فقلت: أليس عليه أن يردّ جوابي ؟
فقالوا: بلى .
فقلت: إنّه لما سارّني شتمني بالشّتم الّذي يوجب الحدّ, وشتم من علّمني, وظنّ أنّي أثب به, فيدّعي أنّا أثبناه, وقد عرّفتكم شأنه.
فأخذته الأيادي بالنّعال, فخرج هارباً من البصرة, وقد كان له بها دين كثير, فتركه وخرج هارباً لما لحقه من الانقطاع.

·ناظر يهوديّ مسلماً في مجلس المرتضى, فقال اليهوديّ:
إيش أقول في قوم سمّاهم الله مدبرين؟ يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم حنين.
فقال المسلم: فقد كان موسى أدبر منهم.
قال له: كيف؟
قال: لأنّ الله تعالى قال:{ فولّى مدبرا ولم يعقّب}.
وهؤلاء ما قال فيهم: ولم يعقّبوا.
فسكت اليهوديّ.

·قال نصر بن سيّار : قلت لأعرابيّ : هل اتخمت قطّ ؟
فقال : أمّا من طعامك وطعام أبيك, فلا .
فيقال: إنّ نصراً حمّ من هذا الجواب أيّاماً.

·قال رجل من اليهود لعليّ بن أبي طالب: ما دفنتم نبيّكم حتّى قالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير.
فقال له عليّ رضي الله عنه : أنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم :{ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}.

·حبلت امرأة يزيد, فقالت له وكان قبيح الصّورة: الويل لك إن كان يشبهك.
فقال لها: الويل لك إن لم يشبهني.
 
الفصل الثّاني عشر من فطنة ونباهة العوام

الفصل الثّاني عشر من فطنة ونباهة العوام

الفصل الثّاني عشر من فطنة ونباهة العوام

·صلّى بعض الشّطّار خلف رجل, فلمّا قرأ أرتج عليه, فلم يدر ما يقول, فجعل يقول:" أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم:, يردّد ذلك مراراً, فقال الشّاطر من خلفه:
ما للشّيطان ذنب إلّا أنّك ما تحسن تقرأ.

·حكى جعفر البرنيّ قال:
مررت بسائل على الجسر وهو يقول: مسكيناً ضريراً , فدفعت إليه قطعة وقلت: يا هذا لما نصبت؟
قال: فديتك .. نصبتها بإضمار (ارحموا).

·روى سعيد بن يحيى الأمويّ عن أبيه قال: كان فتيان من قريش يرمون, فرمى منهم رجل من ولد أبي بكر وطلحة فأصاب فقال: أنا ابن القرنين.
فرمى آخر من ولد عثمان فأصاب, فقال: أنا ابن الشّهيد.
ورمى رجل من الموالي فأصاب, فقال: أنا ابن من سجدت له الملائكة.
فقالوا: من هو؟ فقال: آدم.

·شكا أصحاب هاشم إلى أسلم بن الأحنف احتباس أرزاقهم, فدخل على هاشم, فقال:
يا أمير المؤمنين, لو أنّ مناديا نادى :" يا مفلس" ما بقي أحد من أصحابك إلّا التفت.
فضحك, وأمر بصلة أرزاقهم.

·وحدّثنا أبو الحسن المدايني : قال بعض العلماء:
كان لنا صديق من أهل البصرة, وكان ظريفاً أديباً , فوعدنا أن يدعونا إلى منزله, فكان يمرّ بنا, فكلّما رأيناه قلنا :
{ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}.
فيسكت, إلى أن اجتمع ما يريده, فمرّ بنا, فأعدنا عليه القول فقال:
{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون}.

·تظلّم أهل الكوفة من عاملها إلى المأمون , فقال: ما علمت من عمّالي أعدل منه .
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين, فقد لزمك أن تجعل لسائر البلدان نصيباً من عدله حتى تكون قد ساويت بين رعاياك في حسن النّظر, فأمّا نحن, فلا تخصّنا منه بأكثر من ثلاث سنين .
فضحك المأمون, وأمر بصرفه.

·قال يموت بن المزارع : قال لي سهل بن صدقة يوماً, وكانت بيننا مداعبة: ضربك الله باسمك.
فقلت له مسرعاً : أحوجك الله إلى اسم أبيك.

·مرّ رجل من الأذكياء برجل قائم في الطّريق فقال: ما وقوفك؟
قال: أنتظر انساناً.
فقال: يطول قيامك إذن.

·تزوّج أعمى امرأة, فقالت له:
لو رأيت حسنى وبياضي لعجبت.
فقال: لو كنت كما تقولين ما تركك لي البصراء.

·كان رجل بدار بأجرة, وكان خشب السّقف يتفرقع كثيراً , فلمّا جاء ربّ الدّار يطالبه بالأجرة قال له:
أصلح هذا السّقف, فإنّه يتفرقع.
قال: لا بأس عليك إنّه يسبّح الله.
قال: أخشى أن تدركه الرّأفة فيسجد.

·رمى رجلٌ عصفوراً فأخطأه , فقال له رجل : أحسنت.
فغضب وقال: أتهزأ بي ؟
قال: لا, ولكن أحسنتَ إلى العصفور.

·دخل رجل ذكيّ إلى المسجد يصلّي, فسرقوا نعله, فتركوها في كنيسة بجوار المسجد , فجعل يفتّش عليها, فرآها في الكنيسة فقال مخاطباً نعله :
ويحك, لمّا أسلمتُ أنا تنصّرت أنت!

·قال بعض الأذكياء : إذا رأيت رجلاً في صلاة الغداة على باب داره, وهو يقول:{ وما عند الله خير وأبقى}, فاعلم أنّ في جواره وليمة لم يدع إليها.
وإذا رأيت قوماً يخرجون من مجلس القاضي وهم يقولون: { وما شهدنا إلّا بما علمنا}, فاعلم أنّ شهادتهم لم تقبل.
وإذا تزوّج الرّجل, فسئل عن حاله, فإن قال: ما رغبنا إلّا في الإصلاح, فاعلم أنّ زوجته قبيحة .

·قال الشّيخ : حكي لنا أنّ بعض النّاس ضاف رجلاً , فانتبه صاحب الدّار باللّيل, فسمع ضحك الرّجل من الغرفة, فصاح به : فلان :
قال: لبّيك.
قال: أنت كنت في الدّار, فما الّذي رقاك إلى الغرفة؟
قال: تدحرجت.
قال: النّاس يتحدرجون من فوق إلى أسفل, فكيف تدحرجت أنت من أسفل إلى فوق؟
قال: فمن هذا أضحك.

·قال رجل لرجل:
إن لطمتك لأبلغنّ بك المدينة.
فقال له: أحبّ أن تردفها بأخرى لعلّ الله تعالى أن يرزقني الحجّ على يديك.

·رؤي فقير في قرية فقيل له: ما تصنع؟ فقال: ما صنع موسى والخضر عليهما السّلام. يعني:{ استطعما أهلها}.

·وسئل بعض السّوقة عن سوقهم , فقال: مثل سوق الجنّة. يعني أنّه: لا بيع فيه ولا شراء.
 
الفصل الثالث عشر من ذكاء الأطبّاء

الفصل الثالث عشر من ذكاء الأطبّاء

الفصل الثالث عشر من ذكاء الأطبّاء


·حدّثنا بعض الأطبّاء الثّقات أنّ رجلاً قدم من بغداد فلحقه في طريقه أنّه كان ينفث الدّم, فاستدعى أبا بكر الرازي الطّبيب المشهور بالحذق, فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد, فنظر إلى نبضه وقارورته, واستوصف حاله, فلم يقم له دليل على سلّ ولا قرحة, ولم يعرف العلّة, فاستنظر العليل لينظر في حاله, فاشتدّ الأمر على المريض, وزاد ألمه.
وفكّر الرازيّ, ثمّ عاد إليه فسأله عن المياه الّتي شرب. فقال: إنّها من صهاريج ومسقّفات, فثبت في نفس الرّازيّ بحدّة خاطره وجودة ذكائه أنّ علقة كانت في الماء, وقد حصلت في معدته, وذلك الدّم من فعلها. فقال:
إذا كان في غد عالجتك , ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم.
قال: نعم.
فانصرف الرّازيّ, فجمع مركنين كبيرين من طحلب, فأحضرهما في غد معه , وأراه إيّاهما وقال: ابلع جميع ما في هذين المركنين .
فبلع شيئاً يسيراً, ثمّ وقف.
قال: ابلع.
قال: لا أستطيع.
فقال للغلمان: خذوه فأقيموه.
ففعلوا به ذلك وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه, فأقبل الرّازيّ يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبساً شديداً ويأمره ببلعه ويتهدّده بأن يضرب إلى أن بلع كارهاً أحد المركنين بأسره والرّجل يستغيث.
فذرعه القيء, فتأمّل الرّازيّ ما قذف به فإذا فيه علقة, وإذا هي لمّا وصل إليها الطحلب قربت إليه بالطّبع وتركت موضعها, فالتفّت على الطحلب, ونهض العليل معافى.

·حدثنا علي بن الحسن الصيدلانيّ قال:
كان عندنا غلام حدث, فلحقه وجع في معدته شديد بلا سبب يعرفه, فكانت تضرب عليه أكثر الأوقات ضرباً عظيماً حتّى يكاد يتلف, وقلّ أكله, ونحل جسمه, فحمل إلى الأهواز, فعولج بكلّ شيء, فلم ينجح فيه, وردّ إلى بيته وقد يئس منه.
فجاز بعض الأطبّاء فعرف حاله, فقال للعليل: اشرح لي حالك في زمن الصّحّة.
فشرح إلى أن قال: دخلت بستاناً فكان في بيت البقر رمّان كثير للبيع, فأكلت منه كثيراً.
قال: كيف كنت تأكله ؟
قال: كنت أعضّ على رأس الرمّانة بفمي, وأرمي به واكسرها قطعاً وآكل .
فقال الطّبيب: غداً أعالجك باذن الله تعالى.
فلمّا كان من الغد جاء بقدر اسفيداج قد طبخهما من لحم جرو سمين, فقال للعليل: كل هذا.
قال العليل: ما هو؟
قال: إن أكلت عرّفتك.
فأكل العليل, فقال له: امتلىء منه, فامتلأ, ثمّ قال له:
أتدري أيّ شيء أكلت؟
قال: لا.
قال: لحم كلب!
فاندفع يقذف, فتأمّل القذف إلى أن طرح العليل شيئاً أسود كالنّواة يتحرّك, فأخذه الطّبيب وقال :
ارفع رأسك, فقد برأت.
فرفع رأسه, فسقاه شيئاً يقطع الغثيان, وصبّ على وجهه ماء ورد, ثمّ أراه الذي وقع فيه فإذا هو قُراد, فقال:
إنّ الموضع الّذي كان فيه الرمّان كان فيه قردان من البقر, وأنّه حصلت منهم واحدة في رأس إحدى الرّمّانات الّتي اقتلعت رؤوسها بفيك, فنزل القرد إلى حلقك وعلق بمعدتك يمتصّها, وعلمت أن القراد تهشّ إلى لحم الكلب, فإن لم يصحّ الظّنّ لم يضرّك ما أكلت, فصحّ, فلا تدخل فمك شيئاً لا تدري ما فيه, والله الموفّق .

·كان ملك في الزّمان الأوّل, وكان مثقلاً كثير الشّحم لا ينتفع بنفسه, فجمع المتطبّبين وقال :
احتالوا إليّ بحيلة يخفّ عنّي لحمي هذا قليلاً .
فما قدروا له على شيء, فبعث له رجل عاقل أديب متطبّب فاره, فبعث إليه وأشخصه فقال له: عالجني ولك الغنى .
قال: أصلح الله الملك, أنا متطبّب منجّم . دعني أنظر اللّيلة في طالعك: أيّ دواء يوافق طالعك فأسقيك.
فغدا عليه, فقال: أيّها الملك, الأمان؟
قال: لك الأمان .
قال: رأيت طالعك يدلّ على أنّ الباقي من عمرك شهر, فإن أحببت عالجتك, وإن أردت بيان ذلك, فاحبسني عندك, فان كان لقولي حقيقة فخلّ عنّي, وإلّا فاقتصّ منّي.
فحبسه, ثمّ رفع الملك الملاهي واحتجب عن النّاس, وخلا وحده مهتمّاً كلّما انسلخ يوم ازداد غمّاً حتّى هزل وخفّ لحمه, ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوماً , فبعث إليه وأخرجه. فقال: ما ترى؟
قال: أعزّ الله الملك. أنا أهون على الله عز وجلّ من أن أعلم الغيب, والله ما أعرف عمري, فكيف أعرف عمرك؟ إنّما لم يكن عندي دواء إلّا الغمّ, فلم أقدر أن أجلب إليك الغمّ إلّا بهذه العلّة.
فأجازه وأحسن اليه.

·حدّثنا أبو الحسن بن الحسن بن محمّد الصّالحيّ الكاتب قال:
رأيت بمصر طبيباً كان بها مشهوراً يعرف بالقطيعيّ يكسب في كلّ شهر ألف دينار من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر, ومن السّلطان, وممّا يأخذه من العامّة. وكان له دار قد جعلها شبه المرستان من جملة داره يأوي إليها الضّعفاء والمرضى فيداويهم ويقوم بأغذيتهم وأدويتهم وخدمتهم, وينفق أكثر كسبه على ذلك.
فاتّفق أن بعض فتيان الرّؤساء بمصر أسكت, فجعل إليه أهل الطبّ , وفيهم القطيعيّ , فأجمعوا على موته إلّا القطيعيّ. وعمل أهله على غسله ودفنه, فقال القطيعيّ :
أعالجه وليس يلحقه أكثر من الموت الّذي قد أجمع هؤلاء عليه.
فخلّاه أهله معه, فقال: هات غلاماً جلداً.
فأتي بذلك, فأمر به, فمدّه وضربه عشر مقارع أشدّ الضّرب ثمّ مسّ جسده, ثمّ ضربه عشراً أخر, ثم جسّ مجسّه, ثمّ ضربه عشراً أخر, ثم جسّ مجسّه, وقال: أيكون للميّت نبض؟
قالوا: لا.
قال: فجسّوا هذا النّبض.
فجسّوه فأجمعوا أنّه نبض متحرّك.
فضربه عشر مقارع أخر, ثمّ قال: جسّوه.
فجسّوه, فقالوا قد زاد نبضه.
فضربه عشراً أخر, فتقلّب, فضربه عشراً فتأوّه, فضربه عشراً فصاح, فقطع عنه الضّرب. فجلس العليل يتأوّه, فقال له: ما تجد؟ قال: أنا جائع.
فقال: أطعموه.
فجاؤوا بما أكله, فرجعت قوّته, وقمنا وقد برئ.
فقال له الأطبّاء: من أين لك هذا؟
قال: كنت مسافراً في قافلة فيها أعراب يخفروننا, فسقط منهم فارس عن فرسه, فأسكت, فقالوا: قد مات؟ قال: فعمد شيخ منهم فضربه ضرباً شديداً عظيماً, وما رفع الضّرب عنه حتّى أفاق, فعلمت أنّ الضّرب جلب إليه حرارة أزالت سكتته, فقست عليه أمر هذا العليل .

·حدّثنا أبو الحسن المهديّ القزوينيّ قال:
كان عندنا طبيب يقال له ابن نوح , فلحقتني سكتة, فلم يشكّ أهلي في موتي, وغسّلوني وكفنوني وحمّلوني على الجنازة, فمرّت الجنازة عليه ونساء خلفي يصرخن, فقال لهم:
إنّ صاحبكم حيّ فدعوني أعالجه. فصاحوا عليه, فقال لهم النّاس:
دعوه يعالجه, فإن عاش والّا فلا ضرر عليكم.
فقالوا: نخاف أن تصير فضيحة.
فقال: عليّ أن لا تصير فضيحة.
قالوا: فإن صرنا؟
قال: حكم السّلطان في أمري, وإن برئ فأيّ شيء لي؟
قالوا: ما شئت.
قال: ديته.
قالوا: لا نملك ذلك.
فرضي منهم بمال أجابه الورثة إليه, وحملني فأدخلني الحمّام وعالجني, وأفقت في السّاعة الرابعة والعشرين من ذلك الوقت, ووقعت البشائر, ودفع إليه المال, فقلت للطّبيب بعد ذلك:
من أين عرفت هذا؟
قال: رأيت رجليك في الكفن منتصبتين وأرجل الموتى منبسطة ولا يجوز انتصابها , فعلمت أنّك حيّ, وخمّنت أنّك أُسكتَّ وجرّبت عليك, فصحّت تجربتي.

·روى بشر بن الفضل قال:
خرجنا حُجّاجاً, فمررنا بمياه من مياه العرب, فوصف لنا فيه ثلاث أخوات بالجمال وقيل لنا: إنّهنّ يتطبّبن ويعالجن.
فأحببنا أن نراهنّ, فعمدنا إلى صاحب لنا, فحككنا ساقه بعود حتّى أدميناه, ثمّ رفعناه على أيدينا وقلنا : هذا سليم (اللّديغ الّذي لدغته أفعى أو عقرب) فهل من راق؟
فخرجت أصغرهنّ, فإذا هي جارية كالشّمس الطّالعة, فجاءت حتّى وقفت عليه, فقالت: ليس بسليم.
قلنا: وكيف؟
قالت: لأنّه خدشه عود بالت عليه حيّة ذكر, والدّليل أنه إذا طلعت عليه الشّمس مات.
فلمّا طلعت الشّمس مات. فعجبنا من ذلك.

·شكا رجل إلى طبيب وجع بطنه فقال: ما الّذي أكلت؟
قال: أكلت رغيفاً محترقاً.
فدعا الطّبيب بكحل ليكحله, فقال الرّجل:
إنّما أشتكي من وجع بطني لا عيني.
قال: قد عرفت, ولكن أكحّلك لتبصر المحترق, فلا تأكله.
 
الفصل الرابع عشر من نباهة المتطفّلين

الفصل الرابع عشر من نباهة المتطفّلين

الفصل الرابع عشر من نباهة المتطفّلين

·مر بنان بعرس فأراد الدخول, فلم يقدر, فذهب الى بقال فوضع خاتمه عنده على عشرة أقداح, وجاء الى باب العرس فقال:
يا بوّاب, افتح لي.
فقال له البواب: من أنت؟
قال: أراك ليس تعرفني؟ أنا الذي بعثوني أشتري لهم الأقداح.
ففتح له الباب, فدخل فأكل وشرب مع القوم, فلما فرغ أخذ الأقداح فقال:
يا بوّاب, افتح لي حتى أرد هذه.
فخرج فردها على البقال وأخذ خاتمه.

·وجاء بنان الى وليمة لرجل, فأغلق الباب دونه, فاكترى سلّما ووضعه على حائط للرجل, فأشرف على عيال الرجل وبناته,, فقال له الرجل:
يا هذا أما تخاف الله؟ رأيت أهلي وبناتي؟
فقال: يا شيخ, {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وانك لتعلم ما نريد}.
فضحك الرجل وقال له: انزل فكل.

·جاء طفيلي الى عرس فمنع من الدخول, وكان يعلم أن أخا للعروس غائب, فأخذ ورقة كاغد فطواها وختمها وليس في بطنها شيء, وجعل في ظاهرها: من الأخ الى العروس.
وجاء فقال: معي كتاب من أخ العروس.
فأذن له, فدخل فدفع اليهم الكتاب.
فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان, ليس عليه اسم أحد.
فقال: وأعجب من هذا أنه ليس في بطن الكتاب ولا حرف واحد لأنه كان مستعجلا!
فضحكوا منه وعرفوا أنه احتال لدخوله, فقبلوه.

·قال منصور بن علي الجهضمي:
كان لي جار طفيلي, وكان من أحسن الناس منظرا وأعذبهم منطقا وأطيبهم رائحة وأجملهم ملبوسا, وكان من شأنه أني اذا دعيت الى دعوة تبعني, فيكرمه الناس من أجلي, ويظنون أنه صاحب لي.
فاتفق يوما أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن بعض أولاده, فقلت في نفسي: كأني برسوله وقد جاء, وكأني بهذا الرجل قد تبعني, والله لئن تبعني لأفضحنّه.
فأنا على ذلك اذ جاء الرسول يدعوني, فما زدت على أن لبست ثيابي وخرجت, فاذا أنا بالطفيلي واقف على باب داره وقد سبقني للتأهب, فتقدمت وتبعني, فلما دخلنا دار الأمير جلسنا ساعة, ودعي بالطعام, وحضرت الموائد, وكان كل جماعة على مائدة والطفيلي معي, فلما مدّ يده لتناول الطعام قلت:
حدثنا درست بن زياد, عن ابان بن طارق, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" من دخل دار قوم بغير اذنهم فأكل طعامهم دخل سارقا وخرج مغيرا".
فلما سمع ذلك قال: ما من أحد من الجماعة الا وهو يظن أنك تعرّض به دون صاحبه. أولا تستحي أن تحدث بهذا الكلام على مائدة سيّد من أطعم الطعام, وتبخل بطعام غيرك على من سواك؟ ثم لاتستحي أن تحدث عن درست بن زياد وهو ضعيف, وعن أبان بن طارق وهو متروك الحديثىيحكم برفعه الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون على خلافه, لأن حكم السارق القطع, وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الامام؟ وأين أنت من حديث: حدثنا أبو عاصم النبيل, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" طعام الواحد يكفي اثنين, وطعام الاثنين يكفي الأربعة, وطعام الأربعة يكفي الثمانية", وهواسناد صحيح.
قال منصور بن علي: فأفحمني, فلم يحضرني له جواب, فلما خرجنا من الموضع للانصراف فارقني من جانب الطريق الى الجانب الآخر بعد أن يمشي ورائي وسمعته يقول:
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب
بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا

·صحب طفيلي رجلا في سفر, فقال له الرجل: امض فاشتر لنا لحما.
قال: لا والله ما أقدر.
فمضى هو واشترى.
ثم قال له: قم فاطبخ.
قال: لا أحسن.
فطبخ الرجل.
ثم قال له: قم فاثرد.
قال: أنا والله كسلان.
فثرد الرجل.
ثم قال له: قم فاغرف.
قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي.
فغرف الرجل.
ثم قال له: الآن فكل.
قال الطفيلي: قد والله استحييت من كثرة خلافي لك.
وتقدّم فأكل.

·وتطفل رجل مرة على رجل, فقال له صاحب المنزل: من أنت؟
قال: أنا الذي لم احوجك الى رسول.

·جاء طفيلي الى بيت رجل مع جماعة فقال له الرجل: من أنت؟
فقال: اذا كنت لا تدعونا ونحن لا نأتي صار في هذا نوع جفاء.

·عرّس طفيلي, فأتاه طفيليّان في أوّل الناس, فأدخلهما وجاء الى غرفة له يرتقي اليها بسلّم, فوضع السلّم وقال:
اصعدا لتبعدا من الأذى, وأخصكما بفائق الطعام.
فصعدا فلما حصّلا في الغرفة نحّى السلّم ووضع المائدة, وأطعم أصدقاءه وجيرانه, وهما مطّلعان عليه.
فلما فرغ القوم وضع السلم, وقال: انزلا. فدفع في أقفائهما, وقال: انصرفا راشدين قد قضيتما حق أخيكما.

·وقال طفيلي: اياك والكلام على الطعام الا أن تقول: نعم, فانها مضغة.
·وأوصى طفيلي غلامه, فقال: اذا ضاق بك الموضع, فقل للذي الى جانبك:" لعلي ضيّقت عليك, فانه سيوسّع لك المكان كموضع رجل آخر.
·وقال بنان: حفظت القرآن كله ثم أنسيته الا حرفين:{ ءاتنا غداءنا}.
وعطش رجل الى جنب بنان في دعوة, فقال بنان: ارفع نفسك الى فوق وتنفس ثلاثا, فانه ينزل ما أكلته من الطعام.

 
الفصل السّادس عشر في ذكر طرف من أخبار فطن الصّبيان

الفصل السّادس عشر في ذكر طرف من أخبار فطن الصّبيان



الفصل السّادس عشر في ذكر طرف
من أخبار فطن الصّبيان
·عن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لرأس الجالوت, أو لابن رأس الجالوت:
ما عندكم من من الفراسة في الصبيان؟
قال: عندنا فيهم شيء, لأنهم يخلقون خلقا بعد خلق, غير أنا نرمقهم, فان سمعنا منهم من يقول في لعبه: " من يكون معي؟" رأيناه ذا همّة وحنو وصدق فيه, وان سمعناه يقول:" مع من أكون؟"" كرهناه.
فكان أول ما علم من ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان, وهو صبي, فمرّ رجل, فصاح عليهم فروا ومشى ابن الزبير القهقرى وقال:
يا صبيان اجعلوني أميركم وشدّوا بنا عليه.
ومرّ به عمر بن الخطاب, وهو صبي يلعب مع الصبيان, ففروا ووقف, فقال له:
ما لك لم تفر مع أصحابك؟
قال: يا أمير المؤمنين, لم أجرم فأخاف, ولم تكن الطريق ضيّقة, فأوسع لك.


·عن سنان بن مسلمة_ وكان أميرا على البحرين_ قال:
كنا أغيلمة بالمدينة في أصول النخل نلتقط البلح الذي يسمونه الخلال, فخرج الينا عمر بن الخطاب, فتفرّق الغلمان وثبت مكاني, فلما غشيني قلت:
يا أمير المؤمنين, انما هذا ما ألقت الريح.
قال: أرني أنظر, فانه لا يخفى عليّ.
فنظر في حجري, فقال: صدقت.
فقلت: يا أمير المؤمنين, ترى هؤلاء الغلمان, والله لئن انطلقت لأغاروا عليّ, فانتزعوا ما في يدي.
قال: فمشى معي حتى بلّغني مأمني.

·حدثنا عبيد الله بن المأمون قال:
غضب المأمون على أمي أم موسى, فقصدني لذلك, حتى كاد يتلفني, فقلت له يوما:
يا أمير المؤمنين, ان كنت غضبانا على ابنة عمك فعاقبها بغيري, فاني منك قبلها, ولك دونها.
قال: صدقت والله يا عبيد الله, انك مني قبلها ولي دونها, والحمد لله الذي أظهر هذا منك وبيّن لي هذا الفضل فيك, لا ترى والله بعد يومك هذا مني سوءا, ولا ترى الا ما تحب.
فكان ذلك سبب رضاه عن أمي.

·قال الأصمعي:
بينا أنا في بعض البوادي اذا أنا بصبي معه قربة قد غلبته, فيها ماء, وهو ينادي:
يا أبت أدرك فاها, غلبني فوها, لا طاقة لي بفيها
قال: فوالله لقد جمع العربيّة في ثلاث.

·قال الجاحظ: قال ثمامة:
دخلت الى صديق لي أعوده وتركت حماري على الباب, ولم يكن معي غلام, ثم خرجت, واذا فوقه صبي, فقلت:
أتركب حماري بغير اذني؟
قال: خفت أن يذهب فحفظته لك.
قلت: لو ذهب كان أحب الي من بقائه.
قال: فان كان هذا رأيك في الحمار, فاعمل على أنه قد ذهب وهبه لي, واربح شكري. فلم أر ما أقول.

·قال رجل من أهل الشام:
قدمت المدينة, فقصدت منزل ابراهيم بن هرمة, فاذا بنيّة له صغيرة تلعب بالطين, فقلت لها:
ما فعل أبوك؟
قالت: وفد الى بعض الأجواد, فما لنا به علم منذ مدة.
فقلت: انحري لنا ناقة, فانا أضيافك.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فشاة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فدجاجة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فبيضة.
قالت: والله ما عندنا.
قلت: فباطل ما قال أبوك:
كم ناقة قد وجأت منحرها بمستهل الشؤبوب أو جمل
قالت: فذاك الفعل من أبي هو الذي أصارنا الى أن ليس عندنا شيء.

·قال بشر بن الحرث:
أتيت باب المعافى بن عمران, فدققت الباب فقيل لي: من؟
فقلت: بشر الحافي.

قالت لي بينيّة من داخل الدار: لو اشتريت نعلا بدانقين ذهب عنك اسم الحافي.

·وبلغنا أن المعتصم ركب الى خاقان يعوده, والفتح صبي يومئذ, فقال له المعتصم:
أيما أحسن: دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟
قال: اذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فهي أحسن.
فأراه فصّا في يده, فقال: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص؟
فقال: نعم, اليد التي هو فيها.

·بلغنا أن اياس بن معاوية تقدم وهو صبي الى قاضي دمشق ومعه شيخ فقال:
أصلح الله القاضي, هذا الشيخ ظلمني واعتدى عليّ وأخذ مالي.
فقال القاضي: ارفق به ولا تستقبل الشيخ بمثل هذا الكلام.
فقال اياس: أصلح الله القاضي, ان الحق أكبر مني ومنه ومنك.
قال: اسكت.
قال: ان سكت فمن يقوم بحجتي؟
قال: تكلّم بخير.

فقال: لا اله الا الله وحده لا شريك له.
فرفع صاحب الخبر هذا الخبر, فعزل القاضي وتولى اياس مكانه.

·قعد صبي مع قوم يأكلون, فبكى, قالوا:
ما لك تبكي؟
قال: الطعام حار.
قالوا فدعه حتى يبرد.
قال: أنتم لا تدعونه.

·قال الأصمعي:
قلت لغلام حدث السن من أولاد العرب:
أيسرّك أن يكون لك مئة ألف درهم وأنك أحمق؟
فقال: لا والله.
قلت: ولم؟
قال: أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب مالي ويبقى عليّ حمقي .

·أدخل على الرشيد صبي له أربع سنين, فقال له:
ما تحب أن أهب لك؟
قال: حسن رأيك.

 
الفصل السّابع عشر أخبار متفرّقة في ذكاء النّساء

الفصل السّابع عشر أخبار متفرّقة في ذكاء النّساء

الفصل السابع عشر أخبار متفرّقة في ذكاء النّساء

·حدّثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت:
قلت يا رسول الله, أرأيت لو نزلت وادياًَ فيه شجر أكل منها, ووجدت شجراً لم يؤكل منها, في أيّها كنت ترتع بعيرك؟
قال: "في الّتي لم يرتع منها".
تعني أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم لم يتزوّج بكراً غيرها.

·عن عبد الله بن مصعب قال: قال عمر بن الخطّاب:
لا تزيدوا في مهر النّساء على أربعين أوقية, وإن كانت بنت ذي الغصّة - يعني يزيد بن الحصين الصحابيّ الحارثيّ - فمن زاد ألقيت الزّيادة في بيت المال.
فقالت امرأة من صفّ النّساء : ما ذاك لك.
قال: ولم ؟
قالت: لأنّ الله عزّ وجلّ قال : { وءاتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً , أتأخذونه بهتاناً واثماً مبيناً }.
قال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ .

·عن عبد الله بن الزّبير, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قالت :
لمّا توجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمّل أبو بكر معه جميع ماله, خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم, فأتاني جدّي أبو قحافة , وقد ذهب بصره, فقال :
أرى هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه.
فقالت: كلّا يا أبت, قد ترك لنا خيراً كثيراً.
فعمدتُ إلى أحجار جعلتها في كوّة البيت كان أبو بكر يحصّل ماله فيها, وغطّيت على الأحجار بثوب, ثمّ جئت به فأخذت بيده ووضعتها على الثّوب, وقلت ترك لنا هذا.
فجعل يجد مسّ الحجارة من وراء الثّوب, فقال:
أمّا إذا ترك لكم هذا, فنعم .
ولا والله ما ترك لنا قليلاً ولا كثيراًً .

·قال أبو الحسن المدائنيّ :
دخل عمران بن حطّان يوماً على امرأته - وكان عمران قبيحاً دميماً قصيراً ، وكانت امرأة حسناء, فلمّا نظر إليها ازدادت في عينه جمالا وحسناً, فلم يتمالك أن يديم النّظر إليها, فقالت:
ما شأنك ؟
قال: لقد أصبحت والله جميلة.
فقالت: أبشر, فإنّي وإيّاك في الجنّة.
قال: ومن أين علمت ذلك؟
قالت: لأنّك أعطيت مثلي فشكرت, وابتليت بمثلك فصبرت, والصّابر والشّاكر في الجنّة .

·قال اسماعيل بن حمادة بن أبي حنيفة :
ما ورد عليّ مثل امرأة تقدّمت, فقالت :
أيّها القاضي, ابن عمّي زوّجني من هذا ولم أعلم, فلمّا علمت رددت.
فقلت لها: ومتى رددت؟
قالت: وقت ما علمت.
قلت: ومتى علمت؟
قالت: وقت ما رددت.
فما رأيت مثلها.

·حدّثنا عليّ بن القسم القاضي, قال: سمعت أبي يقول:
كان موسى بن اسحاق لا يرى مبتسماً قطّ , فقالت له امرأة :
أيّها القاضي, لا يحلّ أنت تحكم بين اثنين وأنت غضبان .
قال: ولم؟
قالت: لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال :" لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان".
فتبسّم .


·قال الجاحظ :
رأيت بالعسكر امرأة طويلة القامة جدّاً , ونحن على طعام, فأردت أن أمازحها, فقلت :
انزلي حتّى تأكلي معنا .
فقالت: وأنت فاصعد حتّى ترى الدّّنيا .

·قال الأصمعيّ :
أتي المنصور بسارق , فأمر بقطع يده, فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها
بحقويك من عار عليها يشبنها
فلا خير في الدّنيا ولا في نعيمها
إذا ما شمال فارقتها يمينها
فقال: يا غلام , اقطع. هذا حدّ من حدود الله, وحقّ من حقوقه لا سبيل إلى تعطيله.
فقالت أم السّارق : واحدي وكادي وكاسبي .
قال: بئس الواحد واحدك, وبئس الكاد كادك. وبئس الكاسب كاسبك. يا غلام! اقطع.
فقالت أمّ السّارق: يا أمير المؤمنين, أما لك ذنوب تستغفر الله منها؟
قال: بلى.
قالت: هبه لي, واجعل هذا من ذنوبك الّتي تستغفر الله منها.

·حدثنا العتيبيّ قال:
قال رجل لامرأته : أمرك بيدك.
ثمّ ندم فقالت :
أما والله لقد كان بيدك عشرين سنة, فأحسنت حفظه , فلن أضيّعه إذا كان بيدي ساعة من نهار, وقد رددته إليك.
فأعجب بذلك من قولها وأمسكها.

·كان شنّ من دهاة العرب, فقال:
والله لأطوفنّ حتّى أجد امرأة مثلي, فأتزوجها.
فسار حتّى لقي رجلاً يريد قرية يريدها شنّ , فصحبه, فلمّا انطلقا قال له شنّ :
أتحملني أم أحملك؟

فقال الرّجل: يا جاهل كيف يحمل الرّاكب الرّاكب؟
فسارا حتّى رأيا زرعاً قد استحصد , فقال شنّ :
أترى هذا الزّرع قد أكل أم لا؟
فقال: يا جاهل, أما تراه قائماًً .
فمرّا بجنازة فقال :
أترى صاحبها حياً أو ميتاً ؟
فقال: ما رأيت أجهل منك , أتراهم حملوا إلى القبور حيّاً؟
ثمّ سار به الرّجل إلى منزله, وكانت له ابنة تسمّى طبقة, فقصّ عليها القصّة, فقالت :
أمّا قوله :" أتحملني أم أحملك ", فأراد : "تحدّثني أم أحدّثك حتّى نقطع طريقنا ", وأمّا قوله :" أترى هذا الزّرع قد أكل أم لا", فأراد :" باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا ", وأمّا قوله في الميّت, فإنّه أراد :" أترك عقباً يحيا به ذكره أم لا".
فخرج الرّجل فحادثه, ثمّ أخبره بقول ابنته, فخطبها إليه فزوّجه إيّاها, فحملها إلى أهله, فلمّا عرفوا عقلها ودهاءها , قالوا : "وافق شنّ طبق".

·كان بعض قضاة الحنفيّة من مذهبه أنّه إذا ارتاب بالشّهود فرّقهم .
فشهد عنده رجل وامرأتان فيما يشهد فيه النّساء, فأراد أن يفرّق بين المرأتين على عادته, فقالت إحداهما : أخطأت, لأنّ الله تعالى قال:" {فتذكّر إحداهما الأخرى}. فإذا فرّقت زال المعنى الّذي قصده الشّرع .
فأمسك .

·غضب المأمون يوماً على عبد الله بن طاهر, فأراد طاهر أن يقصده, فورد عليه كتاب من صديق له مقصور على السّلام, وفي حاشيته "يا موسى". فجعل يتأمّله, ولا يعلم معنى ذلك, فقالت له جارية وكانت فطنة :
أراد : { يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك}.
فتيقّظ عن قصد المأمون.

·خاصمت امرأة زوجها في تضييقه عليها وعلى نفسه, فقالت :
والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحبّ الوطن, وإلّا فهو يسترزق من بيوت الجيران .

·أعطت امرأة جاريتها درهماً , وقالت: اشتري هريسة, فرجعت, فقالت :
يا سيّدتي سقط الدّرهم منّي فضاع.
فقالت: يا فاعلة, تكلّميني بفمك كلّه وتقولين : ذهب الدّرهم؟
فأمسكت الجارية نصف فمها بيدها, وقالت بالنّصف الآخر:
وانكسرت يا سيّدتي الزبديّة .

·بكت عجوز على ميّت فقيل لها :
بماذا استحقّ هذه منك ؟
فقالت: جاورنا وما فينا إلّا من تحلّ له الصدقة, ومات وما منّا ا
إلّا من تجب عليه الزّكاة .

·قال ابن قتيبة :
جاءتني جارية بهديّة فقلت لها :
قد علم مولاك أنّي لا أقبل الهديّة .
قالت: ولم ؟
قلت: أخشى أن يستمدّ منّي علماً لأجل هديّته .
فقالت: استمدّ النّاس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر, وقد كان يقبل الهديّة .
فقبِلتها, فكانت الجارية أفقه مني .

----------------------------------------------------

ملحوظة : تمّ حذف بعض القصص من الفصل هذا ومن غيره ممّا لا يصحّ ذكره عندي ...
وهنا ينتهي الكتاب ... وبانتظار أوّل قارئ له ... وانتظروني في الكتاب الثّاني بعد أسبوع بعون الله ...
بانتظار آرائكم وتعليقاتكم طيلة الأسبوع قبل البدء بكتاب جديد تختارون مادّته أنتم ... ( ديني ـ علمي ـ أدبي ـ تنموي ـ ثقافة عامّة .... ) ...
 
أشكرك أخي الكريم فرهاد ... وما أرجوه أن تقرؤوا الكتاب ومن سيشارك أوّلا بعد قراءته للكتاب سنعلنه القارئ الذّهبيّ في ساحة أخرى تابعة للحملة في المنتدى ... لتتمّ تهنئته فيها ...
 

عودة
أعلى