الرواية والقصة القصيرة:الغــيـــــــــاب والحــضــــــــــور

الرواية والقصة القصيرة:الغــيـــــــــاب والحــضــــــــــور

هشام سعيد شمسان

«الراوئي - بالتأكيد هو قارىء نفسه، ولكنه قارىء غير كاف، يتألم منعدم كفايته، ويرغب كثيراً في الحصول على قارىء يكمله ولو كان قارئاً» (ميشال بوتور). ü
الرواية القصيرة (القصة الطويلة)، القصة القصيرة- الاقصوصة، كلها حلقات تراتبية تحدد انتماءها بجنس، أو شكل واحد هو الاب الاول (الرواية)، وتبدو بهيئتي التراتبية السابقة، وكأنها تمثيلاً تنازلياً للقص من خلال اللجوء الى استغناءات سردية معينة، أو تشمير بعضها، واختزال البعض الآخر، سواء كانت سرديات تنظيمية تتعلق بالحبكة، والشخوص، والحوار، أو سرديات مرجعية تتعلق بالموضوع التضميني حدثاً وفكره، أو سرديات شكلية تتعلق بالصياغة التعبيرية، والمجاوزية، وهي بذلك انما تبدو انشقاقية تنحو الى الاستقلالية الذاتية، كماً وكيفاً، واذا كانت القصة الطويلة مازالت تأخذ كثيراً من متعلقاتها من الأب (الرواية) الا ان القصة القصيرة هي الوحيدة التي تم لها الاستقلالية التامة بأدواتها، وقالبها الذي يحدد بدايتها ونهايتها (1) وهذا الاستقلال لم يأت من هباء وإنما جاء توافقاً مع زمن جديد متخم بالماديات، والصراعات، حيث الانسان اضحى هو المستهدف الأول، وهو الامر الذي جعله انكفائياً، وغريباً في نفسه وفي عالمه المتزاحم بالمتناقضات، والافكار الانحلالية التي زعزعت كثيراً من المفاهيم والفلسفات والمعتقدات وفي وسط هذا كله ولدت القصة القصيرة فاستحقت ان تكون ابنة القرن العشرين وما بعده بلاد منازع واذا كانت القصة القصيرة لم تلد عربية مائة% حيث جاءت الينا مع «تيار العلوم والآداب الأخرى التي وردتنا من الغرب» (2) فان ذلك ليس عيبا- باعتقادي- ذلك ان القص العربي بوجه عام، وان كان له جذوره التراثية- العربية لاسيما ذلك النوع الملتصق بالاساطير الشعبية، الا انه وعندما انتقل الى المدى الواقعي أواخر القرن الثامن عشر في اوروبا، فان العرب لم ينفصلوا بواقعهم المستقل، وانما جعلوا في القص الاوروبي زاداً لهم مروراً بترجمته الى العربية، ثم اقتباسه، او نقل افكار الروايات وصياغتها بمنظور عربي اسلامي كما لدى المنفلوطي- مثلاً، في رواياته: مجدولين، والفضيلة.. ولم يستقل النص كموضوع استقلالا ذاتيا الا بعد قرن ونصف تقريباً عن اوروبا، وهو الامر الذي جعل النقاد ينتقدون مثلاً- على أن أول رواية عربية تستقل بموضوعها استقلالا تاما عن الغرب في رواية «زينب» الصادرة عام 1914م لـ(محمد حسين هيكل) وكذلك قل عن القصة الطويلة، والقصة القصيرة حيث يعد خليل جبران «أول من حاول تأليف قصص قصيرة- موضوعة- في مجموعته «عرائس المروج» (3) والصادرة عام 1906م لكن كثيرا من النقاد يجمعون على ان اول من اكسب القصة القصيرة هويتها العربية، وذاتيتها المستقلة هو محمد تيمور، ورجال مدرسته (المدرسة الحديثة) كعيسى عبيد، وشحاته عبيد، وغيرهم (4) ومنذ العقد الثالث من القرن العشرين بدأت القصة القصيرة تستقل عن الرواية لوجود من يحاول ارساء دعامتها من الكتاب، ناهيك عن وجود مشجعين، واعوان من القراء الذين بدأوا يميلون إليها، وينصرفون عن الرواية الى حدٍ ما، لاسيما، وان الكثير منهم اعدها بمثابة «الرواية الملخصة».
أما في اليمن، فقد تأخر ظهور القص المنشور مقارنة ببلدان أخرى نحو مصر، ولبنان والعراق، وسوريا اذ نستطيع ان نقول بان اولى اكاديمية قد تفتحت آواخر الثلاثينات إلا ان مايميزه عن بقية البلدان نحو (مصر) مثلاً، انه لم يمر بمراحل الاستجرار الأولى كالترجمة، والاقتباس، وانما ولدت القصة في اليمن موضوعة مستقلة، وما جمعها بالقصة العربية آنذاك هو المضمون الاصلاحي، بالوعظ والارشاد الديني الذي ساد قصص الطور الاول من القصاص اليمنيين ومنهم على سبيل المثال : أحمد البراق- صاحب أول نص قصصي منشور عام 1939م - وعلي لقمان، ومحسن خليفة، ومحمد علي لقمان صاحب اول رواية يمنية- منشورة في نفس العام- كما ان الخط العام لهذه القصص كان جامعها «الرومانسية» العربي هو الخط الذي كان سائداً في العالم العربي اجمع آنذاك، ولم يتخلص منه الا في الستينات (في بعض الدول العربية) وبداية السبعينات في اليمن وباتجاه القص الى الواقعية، ومرحلة النضج القصصي في اليمن، ثم دخول القصة القصيرة مرحلة جديدة على مستوى الداخل والخارج.
ü القصة القصيرة.. لماذا؟
اذا كنا قد اعتبرنا القصة القصيرة ابنة القرن العشرين، وما بعده، فاننا لذلك انما نقر بكونها، «اقرب الفنون الى العصر الحديث» ونكون بذلك قد وضعناها في مواجهة مع الاب، او بموازاة معه انطلاقاً من خضورها الطاغي الذي يتنامى يوماً بعد آخر، وانطلاقاً من كتابها الذين يتناسلون يومياً، وقرائها المتكاثرين بها.
لقد كانت فترة السبعينات والثمانينات في اليمن هي فترة لازدهار الفن الروائي بلا منازع، مقارنة بالقصة القصيرة أو القصة الطويلة بتجاوز الرواية رقماً اعلى من القصة القصيرة هو الرقم «23» بينما انخفضت المجموعات القصصية الى الرقم «20» لكن ماذا عن الفترة التسعينية، الا يحق ان نقول عنه بانه زمن القصة القصيرة بلا منافس، بتراجع الراوية الى ادنى مستوياتها، وعلى وجه مخيف وسافر انما لايمكننا ان نعزي هذا التدني الا الى الاسباب الأتية أو احدها على الاقل:
أولاً: انحسار الروائي، وتراجعه بحيث لم نعد نسمع عن «فلان» الروائي المتخصص.
ثانياً: رفض الكتاب للرواية بمفهومها «الواقعي» الذي ساد في السبعينات على يد محمد عبدالولي- مثلاً- بتراجع هذا المفهوم الى السطح التقليدي للقص، لاسيما اذا ما علمنا بان الجيل التسعيني كله من الشباب.
ثالثاً: التهيب من الرواية الحديثة، لاسيما تلك التي تتخلص من متعلقات السرد كالحبكة، والعقدة، والشخوص الثانوية وتجعل من الوعي منطلقاً للكتابة الروائية.
رابعاً: الاستشعار بان ثمة نوعاً من القص يطغى على الرواية، كتابة وقراءة فيكون الاتجاه الى القصة القصيرة لديه من باب اولى.
وقد جعلنا من هذه الاسباب خاصة بـ«الكاتب اليمني» المعاصر، لايصح تعميمها على مستوى الوطن العربي، بدليل ان الرواية في بعض هذه البلدان تكاد تطغي- كتابة- على القصة القصيرة، ويعتقد البعض- من النقاد- بان هذا هو زمن الرواية، لا زمن القصة القصيرة، حيث استطاع بعض الروائيين ان ينتقلوا بالرواية الحديثة الى مستوى جديد من السرد الذي يتخلص من المتعلقات التقليدية، ليحل محلها مايسمى بـ«البعثرة المنهجية» كأن تحل الافكار والتأملات والاحلام ورسم الشخصيات محلاً، أو عوضاً للحبكة، وصارت العقدة في الرواية لا تتجسد إلا في الحالة النفسية للبطل، أو الشخصيات لا في الحدث الكلي، ولم يعد «الخبر والوصف اساساً للبناء الفني في الرواية، وانما استبدل بالتصوير الكامل العرضي السينمائي، أو المسرحي.. فاضحت العناية بتصوير الشخصية من الداخل اكثر من العناية بتصوير الموقف والحدث، والعالم الخارجي، بذلك نستطيع ان نقول بان الرواية الحديثة اضحت ذهنية، لا حسية، وصارت ظاهرة تفتيت اللغة من خلال «توسيع دلالاتها ومعانيها بانتقالها من الحيز الضيق الى عالم اوسع افقاً، واشمل دلالة» من المميزات الظاهرة على جسد الرواية، ناهيك عن ظواهر اخرى نحو استخدام تكنيك الذاكرة والتحليل العقلي وتداعي الافكار بعيداً عن قيود الزمن وغلبة التحليل على الانسجام والاتساق والفرد على المجموع والعقل الباطن على العقل الواعي، والرمز على الايضاح والالماح على الافصاح.
ربما يقول البعض بان جميع هذه الظواهر انما هي من سمات القصة الحديثة «القصيرة» لا الرواية وهو قول صائب، لاسيما واننا لم نجد حتى الآن رواية عربية تصدق عليها هذه الظواهر مجتمعة بينما ثمة عشرات من القصص القصيرة يمكن ان نطبق عليها هذه الظواهر لكن مايجب الآن ان ندركه ونعلمه بان القصة الحديثة انما استمدت كل ذلك من الرواية الجديدة المعروفة بـ«رواية التكوين النفسي والفكري» او تلك التي عرفت بـ «رواية تيار الوعي» الحديث، وكان من روادها «جيمس جويس» وفرجينيا وولف، وانتقل هذا التيار الى العرب في ستينات القرن الماضي، حيث نجد منه شذوات في بعض روايات نجيب محفوظ في مصر، وبعض شذوات لدى محمد عبدالولي في روايته «يموتون غرباء» والتي وإن ارتدت ثوب الواقعية المناقض لتيار الوعي، إلا ان اهم ما ما اخذته منه هو «المونولوج الداخلي» والرمز حيث مفهوم الوعي سواء في اليمن أو غيرها لم يكن قد تعمق بصورته الاوروبي آنذاك «الستينات- السبعينات» الا انه الان يبدو واضحاً ومتعمقاً الى حد كبير في بعض الروايات الجديدة نحو رواية «رامة والتنين» لـ«ادوارد الخراط» والتي نجد الاحداث فيها ليست اكثر من حالات سيكولوجية يبدعها مناخ العالم الروائي.. وكل شيء فيها سرعان ما يتخامد وراء الكلمات الجوهرية ليسود سياق شعري يسم الرواية ببناء معماري واضح.. الحوار الداخلي وتميزت الرواية بصيغة التأليف الجدلي الذي يجعل من الرواية مفتوحة ويأتي زمنها افقياً نازعة الى الصياغ التجريدية
لكن الحاصل الآ هو ان القصة اقصيرة اضحت متفردة على مستوى التفتيت اللغوي والتداعي الحر واستخدام تكتيك الذاكرة والتحيل العقلي والعناية بالتصويرية والرمزية وبروز ظاهرة التأمل والاحلام والهذيان ولانقطاعات وتداخل الزمان والمكان او تلاشيهما والعناية بالزمن النفسي، اكثر من الزمن الآلي.. الخ وهو مايؤهل القصة اقصيرة لاحتواء تعاليم هذا التيار اكثر في الرواية للاسباب الآتية:
اولاً: رفضها للحشو واللغو الكثير، والتفصيلات المتعددة الحملة احياناً.
ثانياً: هروبها من التناول الطولي للاحداث الى الافقية والعرضية فترفض قص حياة باكملها او حكي قصة شخصية كاملة وتكتفي بـ«تصوير جانب واحد من حياة الفرد، او زاوية واحدة من زوايا الشخصية الانسانية، او موقف واحد من المواقف، او تصوير خلجة واحدة او نزعة واحدة من خلجات النفس الانسانية ونوازعها.
ثالثاً: كسرها لمبدأ الحوار القاعدي، حيث تستطيع الاستغناءعنه كليا او احيانا عكس الرواية، التي لاتستطيع الاستغناء عن بناذية الحوار، كبرت او صغرت فصار- بالتالي- منطق القصة القصيرة هو الأقرب، الذي نستطيع من خلاله تجاوز الواقع المادي، بكل مايجعل به من غرابة ومتناقضات.. وبعيداً عن الاسباب السالفة، وبمنظور خارجي، فان اقصة قصيرة تسجل حضورها من خلال كونها الاسهل نشراً، والاكثر تداولاً وحميمية بين والى القراء انها معه في المنزل واثناء استراحته وفي مخدع نومه وعلى مكتبه في العمل تمتلىء بها الصحف، والمجلات والجرائد عند مروره على المكتبات والاكشاك، وتغزوه القصة القصيرة الى مائدة طعامه وهو يفترض ورقة من صحيفة هي اذا وجه لقارىء يحيا في زمن مغاير، وفي عصر مثقل بالحمولة، والقلق والتوتر ومفعم بتناقضاته وهمومه الخاصة والعامة، زمن وعصر انتجا قارئاً عجولاً يحيا الهرولة معظم يومه ولا وقت لديه للجلوس امام مائدة مثقلة باصناف الاطعمة المفيدة، وغير المفيدة ويكفيه رغيفاً واحداً يختزل مائدة متكاملة ليتابع بعده مشوار الركض بحثاً عن نفسه بين اكام سيرورة الوجود، فمن هو قارىء الرواية.. من ذات المنظور؟
انه قارىء مترف ويمتلك الوقت والزمن والكفاية المادية والمكانية الشاسعة يحب الثرثرة، والتفاصيل الحضوية، فهو قارىء ملول يقرأ ولا يقرأ اما كاتبها فهو كما يقول «ميشال بوتور» قارىء نفسه ولكن قارىء غير كاف، يتألم من عدم كفايته، ويرغب كثيراً في الحصول على قارىء آخر يكلمه، ولو كان قارئاً مجهولاً. واخيراً هذا مرصد بالمجموعات القصصية الصادرة منذ الستينيات للقرن الماضي وحتى العام 2002م نهدف من ورائه مقارنة النتاج الادبي في حقل اقصة القصيرة على مدار ثلاث عقود مضت ومرحلة العقد التسعيني تحديداً. وسنلاحظ ان نتاج مايسمى بـ«التيار التسعيني» في اليمن فاق مجموع ماانتج على مدار ثلاث عقود، وتحديداً منذ صدور اول مجموعة قصصية اواخر الخمسينيات وحتى اواخر الثمنينيات وهو مايعني ان الزمن الادبي في اليمن انما هو زمن القصة القصيرة الطاغية لا الرواية النائمة.
 

عودة
أعلى