التصفح للزوار محدود

مكانة مكة المكرمة لدى السلاطين العثمانيين وأوقاف نسائهم فيها

فارس عمر

مشرف منتدى القصص والرواياترياضات وإبداعـات متحدي ا
مكانة مكة المكرمة لدى السلاطين العثمانيين وأوقاف نسائهم فيها

بقلم: الدّكتورة أميرة بنت علي مداح (*)
othmanli.gif


"وقفنا ـ الثلاثاء 7 ربيع الثّاني 1428"
إن مكة المكرمة هي العاصمة الدينية والثقافية والاجتماعية لجميع المسلمين في كل زمان ومكان وهي مهوى أفئدتهم ومستقر وحدتهم ومجمع أخوتهم ، لذا كانت خدمة هذه البقعة المقدسة شرفا يحرص الحكام المسلمين في كل عصر من عصور التاريخ علي الظفر به .
فالعثمانيون حرصوا منذ قيام دولتهم علي التعبير عن مدي حبهم واحترامهم للحرمين الشريفين ، وذلك ببذل الكثير من الأموال والمساعدات لأهل مكة خاصة عند تعرضهم للكوارث والنكبات سواء كانت سيولا أو قحطا وغيرها ، وكانت هذه الرعاية لأهل مكة قبل وصولهم للعالم الإسلامي ، فأرسلوا الصرة (1)
إلى الحجاز من زمن السلطان بايزيد الأول 1389 م/ 1402 م(2) أي قبل أن يتشرف العثمانيون بخدمة منطقة الحجاز بأكثر من قرن من الزمان ، ثم أرسل السلطان مراد الثاني الصرة وكانت مقدارها عشرة آلاف فلوري (3) وتلاهم السلطان محمد الفاتح فأرسل سبعة آلاف ذهب ، وكذلك السلطان بايزيد الثاني الذي أرسل أربعة عــــشر ألف دوقة (4) ذهبا ، كما أنهم أوقفوا الكثير من حاصلات قرى نائية في الأناضول علي مكة المكرمة. فكانت مكة والمدينة تعجان بالحركة ويعمها الخير مع قدوم الصرة كل ذلك يدل دلالة واضحة علي مدى ارتباط العثمانيين وتقديرهم للحجاز عامة و لمكة المكرمة علي وجه الخصوص. وكان للسلاطين العثمانيين أعمالهم الخيرية في الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، ولهم تعميراتهم في الحرم المكي ، ورعاية أهله وتقديم كافة الخدمات والمرافق العامة لهم.
ويعتبر الوقف عند العثمانيين جزءا من ثقافتهم ، وقد طبقه العثمانيون بدقة وحسب الشرع الشريف ، الأمر الذي جعل السعادة والرفاهية تتحقق بشكل متكافئ بها(5) وبعبارة أخرى فقد أسهم الوقف بدور كبير في امتصاص التوتر الاجتماعي بما كان يقدمه من خدمات مجانية للفئات المحتاجة في المجتمع ، وإرساء نوع من السلام الاجتماعي الذي كان يخدم بطبيعة الحال النظام القائم.(6) وبما أن الوقف معناه حبس العين علي حكم الله تعالى ، والتصدق بالثمرة علي جهة من جهات البر وهو نوع من أنواع الصدقات الجارية بعد وفاة المتصدق فيعم خيرها، ويكثر برها وتتضافر بها الجماعات في مد ذوي الحاجات (7) ، وهو من التبرعات المندوبة لقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران آية (92) ] .لذا حرص العثمانيون علي الاهتمام به اهتماما بالغا.


ووثائق الوقف بمثابة الضوء الذي ينير لنا دراسة ماضينا حيث لم يقتصر الوقف علي الرجال فقط وإنما كان للنساء دور في تأسيسه وتامين التكافل الاجتماعي الذي ينهض بالمساعدات الصحية والعلمية والثقافية ، لذا انشأ العثمانيون في سنة 955/1587 م وزارة خاصة بالحرمين الشريفين عرفت باسم نظارة الحرمين ، مهمتها إدارة الأوقاف الخاصة بالحرمين الشريفين ويشرف عليها آغا دار السعادة (8)، وكانت مهمة هذه النظارة إدارة الأوقاف الخاصة بالحرمين الشريفـين وفق شروطها ، وقد ازدادت أهمية هذه النظارة بعدما تزايدت أوقاف السلاطين وزوجاتهم ، فأنشئت أربع إدارات تابعة لهذه النظارة .
ومن الملاحظ علي وثائق الوقف العثمانية أنّه يندر أن تكون هناك وثيقة وقفية إلاّ ويكون للحرمين الشريفين نصيب منها، وذلك يرجع إلى مكانة ومحبة الحرمين الشريفين لدى العثمانيين، وكان لأمهات السلاطين دور فعال في إثراء المجتمع المكي بالأوقاف التي قدمنها.

وقد أشار المؤرخ التركي المعاصر يلماز اوزتونا إلى "أن جميع منجزات المؤسسات الاجتماعية قد شيدت بفضل مؤسسة الوقف ، وبمشاركة السلاطين والولاة وبقية المواطنين ، وتنوعت الأوقاف في مجالات تفوق التصور منها : تجهيز الفتيات الفقيرات، وتامين حاجة البارود ، ورصف الأزقة ، وسداد ديون السجناء والمعسرين ، وعلي راس المؤسسات الخيرية ، الجوامع ، والمساجد ، سبيل الماء والمدارس ومؤسسات إطعام الفقراء والمستشفيات والخانات والحمامات ، ودور العجزة والمصانع وغيرها" (9) .
وبما أن المرآة شقيقة الرجل في حمل مسئوليات مجتمعها وأعباء النهوض به و إصلاحه ، وفق الضوابط الشرعية وبما يصون كرامتها ويحفظ عفتها فانه يمكن الاستفادة من طاقاتها لذلك تعتبر مؤسسة الوقف من أهم النماذج التي تبرهن على فعالية مشاركة المرآة في تنمية مجتمعها وذلك خلاف للمقولات الشائعة حول ضآلة إسهامات المرآة ، فأوقاف النساء في الدولة العثمانية تعطي مثالا حول استغلال المرآة للحاجة الاجتماعية للتأثير في مجتمعها ، فجاءت أوقافهن الضخمة التي ساعدت علي ازدهار الحياة العلمية والاجتماعية في مكة المكرمة.

ويأتي على رأس هؤلاء نساء القصر وزوجات السلاطين وبناتهم؛ فكن يتسابقن في أعمال الخير من سن السابعة حتى السبعين من أعمارهن، حتى أصبحن في مقدمة مؤسسو الوقف على مدار التاريخ (10).

وتوجد في أرشيف المديرية العامة للأوقاف في استانبول ستة وعشرون ألف وقفية تدل على الأوقاف وأصحابها منذ تأسيس الدولة العثمانية ، منهم ألفان وثلاثمائة وتسعة وقفية كانت من نصيب النساء أي أن من أسسته هن النساء ، ونجد أن في القرن 10هـ/16م وقفيات النساء تمثل حوالي 17% من الوقفيات ، وأما القرن 11هـ/17م نجد نسبة وقفيات النساء 30% من الوقفيات ، ولعل ما يظهر على تلك النسبة في القرن 11هـ/17م هو أن تلك الفترة عرفــــت في التاريخ العثـــماني باسم (( سلطنة النساء )) أي قويت وعظمت فيها ادوار النساء وبالتالي كثر الوقف عندهن (11) .

كان لوالدات السلاطين ونساءهم مكانة لدى أولادهن وأزواجهن، ويتمتعن بنفوذ سياسي في إدارة الدولة ، كما حققن ثراءاً واسعا بفضل الاموال المنقولة وغير المنقولة التي خصصت وملكت لهن ، وكان للسلطانة الوالدة أيضا إيرادات تأتيها من أماكن شتي في الدولة العثمانية ، من ريع أراضي الخاصة باسم ( باشْمقلْق ) ومخصصات أخرى كثير صيفية وشتوية ، كما كانت الهدايا التي تأتيها من الدول الأجنبية ومن رجالات الدولة العثمانية تشكل مقدارا كبيرا من الثراء ، لكنهن لم يستخدمن هذا الثراء في أغراض دنيوية ، بل سخرنه في سبيل إرضاء الله عن طريق وقفه على أعمال البر ، خاصة خدمة الحرمين الشريفين ،. وحققت هذه الأوقاف الكثير من الأعمال التي لم تستطيع الدولة أن تحققها ، فحظي الحرمان الشريفان بنصيب وافر من هذه الأوقاف وتعد الأميرة خاتون ابنة السلطان مراد الثاني 824هـ / 1421م أول من أوقفت على الحرمين الشريفين بين نساء العثمانيين ، فقد أوقفت عائد أوقاف لها تابع ليني شهر (( البلد الجديد )) في بروسه (12) على فقراء المدينة المنورة ، وبعد ذلك أوقفت كثير من النساء وعلي رأسهن والدات ونساء السلاطين الــعديد من الأوقاف (13) .

فإن زوجة السلطان أحمد الأول ماه بيكر كوسام ، وأم السلطانين مراد الرابع وإبراهيم الأول (14)، أوقفت أوقافا كثيرة للحرمين الشريفين مثل توفير احتياجات المياه في طريق الحجاج ، وتوفير الإبل اللازمة ـ وتوزيع الملابس علي المحتاجين وتوفير الطعام للمسافرين (15) وكذلك كانت السيدة مهر ماه ابنة السلطان سليمان القانوني تنافس والدها وزوجها رستم باشا في أعمال الوقف للحرمين ، ولم تكتف بذلك بل خصصت مبالغ باهظة من مالها الخاص لإعادة إنشاء عين زبيدة (16).

أما وقفية الوالدة خديجة طرخان سلطان والدة محمد الرابع المؤرخة بتاريخ 27 رجب 1073هـ 25/2/1663م تضمنت تخصيص أراضي أوقفتها للحرمين وذلك بمبلغ 7500 اقجة (18) لتأجير 65 جمل تحمل نصفها بالمياه لخدمة الحجيج لعدم توفر المياه ، وتحمل بقية الجمال الأخرى بأمتعة للحجاج (19) كما قامت بتنظيف الآبار الموجودة في طريق الحج مما أدّى إلى إمكانية استخدامه بصوره ميسره وحفرت آباراً جديدة في أماكن نزول المسافرين وخصصت في وقفيتها مبلغ 7800 ريال لتلبية احتياجات الحجاج والحرمين من المياه واشترطت في هذا الخصوص تعين شخص أمين متدين كبيرًا للسقاة براتب قدره 300 قرش.
كذلك خصصت السيدة خاصكي خُرم سلطان زوجة السلطان سليمان القانوني التي أنشأت مطعمين خيريين في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، تقدم الطعام يوميا لفقراء المسلمين ، وقد أوقفت علي هذين المطعمين الخيريين أوقافا كثيرة بعضها مما أهداه إليها السلطان سليمان القانوني من أراضي قري مصر ، والبعض الآخر عبارة عن عقارات تم شراؤها من أصحابها في مكة المكرمة (20) ويقع هذا المطعم الخيري بجانب مسجد الراية بالقرب من المدعى ، وبجوار المطعم الخيري مطبخ ومخبز وبيت للرحى ، بئر ماء وثلاث مخازن بالقرب من سوق الليل بمكة ، وكذلك أنشأت رباطاً يحتوي علي 48 حجرة وسبيل ماء. واشترطت أن يسكن الرباط العلماء العابدين والصلحاء الزاهدين ويقع هذا الرباط في مكان يقال له القشاشية.
و كانت السلطانة بزم عالم زوجة السلطان محمود الثاني و والدة السلطان عبد المجيد الأول قد شرعت في بناء مستشفي خيري بمكة المكرمة ، لكنها توفيت قبل تمامه فأتمه السلطان عبد المجيد الثاني (21).

بورتينيال والدة السلطان عبد العزيز واصغر زوجات السلطان محمود الثاني ، التي أدخلت إصلاحات وخيرات كثيرة لمستشفي الفقراء في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وأمرت بتوظيف أطباء وقابله وصيدلاني وجراح ، وتوفير كل ما يلزم المستشفي من خدمات (22).

أما أوقاف السيدة كولنوش والدة سلطان (23) فهي كبيرة نساء السلطان محمد الرابع و والدة السلطان مصطفى الرابع واحمد الثالث ، كان لها أوقاف وأحباس عظيمة ذات ريع وفير في استانبول وفي مصر ، احتوت حجة الوقفية على دار للشفاء بمكة ، ومطعم خيري ، وسفينة يطلق عليها ( بارحج ) وصندلين لنقل المحاصيل من مصر إلى ميناء جدة وعنابر في السويس وجدة وبولاق للحفاظ علي أموال الوقفية ، ومخازن ومخبزًا مجهزا وطواحين لطحن القمح والحبوب ، وخمسة أوعية كبيرة لطهو الطعام في المطعم الخيري وفرن بجوار المطعم لعمل الخبز ، ووعاء كبير لتخمير العجين ، 30 قطعة من الملاعق مصنوعة من النحاس ، وأوقفت كذلك 21 قرية في مصر للصرف علي دار الشفاء والمطعم والفرن . كما حرصت الواقفة علي تخصيص مبالغ للأعمال المعنوية كقراءة القران الكريم وختمه ، وكذلك الدعاء للواقفة ، كما أوقفت مبالغ لإنشاء أحواض للمياه وجسور وأسبله في طريق الحج وغيرها من ألاماكن .

ويتضح من دفاتر الصرة التي رتبت باسم الأميرة صفية 1014/1605م زوجة السلطان مراد الثالث أموال وقفيتها التي أقامتها بقصد ختم القرآن الكريم في مكة والمدينة في مختلف الأوقات ، ويحمل أول دفتر للصرّة خاص بها تاريخ 25 جمادى الآخرة 1047هـ/24 يناير 1664 م، وتتضمن إحساناتها مبلغ 14 ذهبا لشيخ الحرم و 308 ذهب لستين شخص من أهل القرآن لختم القران في صلاتي الصبح والظهر ، و 154 ذهبا لواحد وثلاثين شخص من أهل القرآن لختم القرآن في صلاة العصر و 204 ذهب لأربعين شخصاً للدعاء بدوام الدولة العثمانية بعد الصلاة كل صباح (24). ويدخل وقفها ضمن الأوقاف التي خصص ريعها بالكامل للحرمين الشريفين (25).

وقد أوفقت السيدة شمس رُخسار ( 1022/ 1613) إحدى زوجات السلطان مراد الثالث في أواخر ربيع الآخر 1022/يونيه 1613م الربع القائد من تشغيل مبالغ 1.100 سكة وهو ما يمثل ثلث أموالها على الحرمين الشريفين (26).
ومما هو جدير بالذكر أنّه كانت هناك أوقاف أسسها السلاطين العثمانيون وزوجاتهم بقصد التوكيل في أداء فريضة الحج ، فقد أدّى السلاطين العثمانيون وزوجاتهم ومعظم رجال الحكومة فريضة الحج الواجبة على كل مسلم مستطيع بواسطة غيرهم بطريق الإنابة ، وذلك لان الرحلة بين استانبول ومكة المكرمة كانت تستغرق في ذلك الوقت من ثلاثة إلى أربعة أشهر ذهابا وإيابا ، ولم يكن من الملائم ابتعاد السلاطين عن مركز الدولة هذه المدة الطويلة ، ولذا اصدر العلماء فتوى تجيز لهم الإنابة في أداء هذه الفريضة ، واعتمادا علي هذه الفتوى لم تكتف والدات السلاطين وزوجاتهم ، وبعض الوزراء ورجال الحكم بإنابة غيرهم في أداء فريضة الحج ، بل أسسوا أوقافا لأداء هذه الفريضة نيابة عنهم كل عام . وكان الشرط الأساسي في هذه الأوقاف هو أداء فريضة الحج من قبل أفراد قادرين علي أداء شعائر هذه الفريضة، كما اشترط أداء هذه الفريضة الواجبة علي الفرد مرة واحدة سنويا عن طريق الأوقاف (27).
ونخلص من هذا العرض لأوقاف بعض نساء السلاطين العثمانيون وتقديم كل ما يمكن لأهل الحجاز عامة ومكة علي وجه الخصوص إلى أن المرأة كانت تشارك الرجل في أعمال الخير وان وقفيات النساء لم تكن تختلف عن وقفيات الرجال من حيث الإجراءات وربما اهتم المؤرخون بإظهار دور الرجال في الوقف دون النساء في العصر العثماني نظرا لان الحريم العثماني كان لفترة طويلة عالم مجهول لا يعرف عنه احد شيء إلى أن ظهرت الوثائق ، وكتب بعض أغوات دار السعادة الذين كانت مهمتهم الكبرى داخل الحريم السلطاني عن هذه الأوقاف، وقد يرجع السبب في ذلك أيضا إلى أنّ الأموال لم تكن في يد الزوجة الأمر الذي جعل نسبة الأوقاف للنساء تسير بنسب أقلّ من الرجال إلاّ أنّه كان لهنّ دور فيها .
لذا قد بات لزاما علي نساء المسلمات المشاركة بفعالية في تقديم وإصلاح مجتمـــعاتهن ليس فقــط من خلال الأدوار الأســـرية وإنما أيضا بإســهامات اجتماعية مفــــيدة .
والله ولي التوفيق ،،،
 
مكة لها مكانه عظيمة في نفوس المسلمين حكاما ومحكومين على مر العصور
كل الشكر اخي فارس
موضوع مميز
 
شكــراً لك الأستاذ فارس على المعلومات
بارك الله فيك
 
مكة لها مكانه عظيمة في نفوس المسلمين حكاما ومحكومين على مر العصور
كل الشكر اخي فارس
موضوع مميز

نعم أختنا الفاضلة , لمكة مكانة عظيمة لجميع المسلمين وفي كل العصور .
لذلك نرى بوضوح كيف أن خادم الحرمين الشريفين من الأسرة المالكة السعودية ,دائماً يهتمون الاهتمام الكبير بها , وبالحرم النبوي الشريف , بما يتناسب مع مكانتهما الغالية على نفوس المسلمين .

شكراً لاهتمامك ومرورك الطيب وتعقيبك .
 

عودة
أعلى