التصفح للزوار محدود

رحلة رقم 1028

يوسف فضل - مصر
في رحلتي الأخيرة إلى مكة المكرمة استغلت الشركة التي أعمل لديها وجودي في جدة فقامت بتكليفي بأعمال خارج حدود الإجازة القصيرة.
لقد زرت جدة مرات كثيرة وبصراحة لم أحبها. فسخونتها ورطوبتها العالية تجعل الملابس الداخلية تلتصق بجلدى.
كانت صالة المغادرة مزدحمة بالمسافرين، والمطار دائم الازدحام طوال العام، كنت حاصلاً على رقم حجز مؤكد، وعلى بطاقة صعود الطائرة من ماكينة إصدار التذاكر الذاتية، حتى أنني قمت بتقديم المساعدة لآخرين في كيفية الحصول على تذاكرهم من هذه الماكينة التي لا تتذمر مثل موظفي المطار.
بقيت ساعة على موعد إقلاع الطائرة فهيأت نفسي بتناول كوب من الشاي لممارسة عادة القراءة، وجلست في صالة الانتظار أقرأ ما تيسر لي مما أحمله من مواد (تسمم) الأفكار.
سمعت النداء بالتوجه للبوابة رقم خمسة للذاهبين إلى الرياض، ولم أنتبه إلى رقم الرحلة، فخلت أن النداء موجه لي، لملمت أغراضي وحشوتها داخل المحفظة اليدوية وأخذت مكاني في طابور المسافرين. وعندما وصلت لموظف المطار فاجأني بقوله:«هذه رحلة رقم 1028». أجبت : «أعرف أنها رحلة 1028 أليست الرحلة متجهة إلى الرياض؟». فأوضح لي أن الرحلة المتجهة إلى الرياض حالياً هي برقم 1030 والتي كان موعد إقلاعها الساعة السابعة والنصف صباحاً، بينما رحلتك هي التي بعدها. ثبتني موظف المطار على حالة من اليقين بأن رحلتي سوف تتأخر، ولم يعلمني عن موعد الإقلاع الجديد.
الآن أدركت سبب الازدحام في صالة الانتظار، إذ إن كمبيوتر المطار كان معطلا مما جعل إدارة المطار تلغي كافة الرحلات، فعجت الصالات بأعداد المسافرين الذين تاهوا مثل الغنم لافتقارهم لخطة بديلة وعدم معرفتهم كيفية الانتظار.
لم يكن أمامي من بد غير التصبر والانتظار مع هذا الحشد من الكرنفال الذكوري في صالة الانتظار إذ إن لباس الرجال من كل لون وطراز وبيئة، أما النساء فكن متشحات بالسواد.
خاطبني مسافر تائه: «هل هذه الرحلة متجهة إلى اسطنبول؟». أشفقت عليه بالرد: «أنت في صالات الرحلات الداخلية، اذهب إلى الدولية». ودعني بقوله شكراَ. سمعت طرفاً من حوار بنبرة صوت عالية بين موظف المطار ومسافر متأخر عن رحلته المتجهة إلى الرياض والموظف يقول: «يا أخي أقلعت الطائرة متأخرة عن موعدها بثلاث ساعات، ومع ذلك تأتي متأخراً؟! شكل المسافرون حلقات ليناقشوا ما يودونه في حوارات ارتجاليه عفوية لتمضية الوقت، على حين غفلة مني دفعت امرأة رضيعها لي: «يا خوي احمله شوي حتى أسوي الحجاب». حملت الرضيع وشكرتني المرأة.
استفسر أحد المسافرين مني ما إذا كانت هذه الرحلة لخطوط سما، وعندما أجبته بأنني «لا أعرف» رد: أنت مسافر مع سما؟ سؤاله المكرر رفع ضغطي فزممت شفتيّ ورفعت لساني إلى بداية سقف حلقي وأصدرت صوت: «تشك».
اشتكت امرأة من طول الانتظار فطلبت من ابنها ذي السنوات الثماني: «خذ شيل أخوك ومشيه. امسك ظهره كويس وروح اسأل موظف المطار عن موعد طيران الدمام؟» امتثل الولد لأمر أمه.
شنفت أذنيّ لحوار ضاحك حين قال مسافر: «طيب من أحسن بريده والا الدوادمه؟» أجاب متلقي السؤال: «بريده» لكنه بدوره رد بسؤال آخر: «مين أحسن الإسكندرية والا شرم الشيخ؟» جاء الجواب المتذاكي الضاحك: «الإسكندرية. الإسكندرية ما فيهاش حرام. شرم الشيخ كلها حرام».
في الركن بالقرب من البوفيه كانت محادثة طويلة لمسافر: «أهلا وسهلا أبو مالك. البيت بيتكم. أنا بانتظاركم. ما زلنا في المطار. اعمل لي معروفا. افتح الفايل (الملف) وابحث في الاوفرز (العروض) لأن الكستمر (العميل) يريد أن يركب الديفايز (الجهاز) قبل ما يرسل الدروينجز (الرسومات) وطلبت منه أن يرسل الدروينجز فول ديتيلز (كامل التفاصيل) أرجو الاتصال به واعمله فولو أب (متابع ) إحنا ون تيم (إخوة).
عدت أدراجي إلى البوفيه وجلست على كرسي وأمامي طاولة، وتناولت القلم ورحت أكتب على سجيتي. مر الوقت كالسهم وسمعت النداء رحلتي، قفزت على عجلة من أمري، تذكرت حالة الفلسطيني في داخل السلطة الفلسطينية الذي يضيع ربع عمره في استخراج وتجميع المعاملات الحكومية للسلطة والدول العربية، والربع الثاني من عمره في انتظار اجتياز الحدود العربية التي هي رجس من عمل الشيطان، والربع الثالث يتركه للجيش الإسرائيلي ليقرر ما يشاء أن يفعله به ما بين نهايتين: السجن أو الموت، والربع الرابع يوزعه في اكتشاف قيادته، لأنه منذ وجود المشكلة الفلسطينية لاتوجد له قيادة.
حسدت نفسي التي تتذمر من تأخر إقلاع الطائرة مدة ساعتين، ومع ذلك احتسيت الشاي داخل صالة مكيفة واستمتعت بوقتي، ولم يكن الوضع بذاك السوء، فإذا سارت أمور الرحلة على خير ووصلت بالسلامة فلن أضيف كلمة واحدة بعد هذه النقطة.
 

عودة
أعلى