رمضان الوصل (ليالي ملهمة) بقلم د. أبو هنود

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع مهتمة
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
  • مميز

مهتمة

التميز
رمضان الوصل .. رمضان الأصل
سلسلة ملهمة مهمة
بقلم د. كفاح أبو هنود فتح الله لها

رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الأُولى

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


كانَ أولُ ما نَطقَ به الشّيخُ الّليلةَ قولَه تعالى "يا أيُّها الَّذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ"
ثم قالَ : يا بُنيَّ.. الإيمانُ عُمرٌ‘ والصِّيامُ امتِدادٌ
يَنحِتُ الصِّيامُ المَعنى فلا يَظَلُّ جُوعاً عارِياً لا يَليقُ ببابِ الرَّيانِ
لذا كانَ البَدْءُ في آياتِ الصِّيامِ بالنّداءِ "يا أيُّها الذين آمنوا"
حيثُ العبورُ مِن الجُوعِ إلى الصيامِ لا يكونُ إلا على قَنطرةِ الإيمانِ
الجائِعُ يا ولدي يَشيخُ‘ أمّا الصّائمُ فيمتدُّ في العُمرِ دُهوراً !
هل تَعلمُ يا ولدي أنَّنا نَنْبُتُ في الزَّمنِ الممتلئِ بالأَجرِ.
قال التّلميذُ: فما إيمانُ الصّائمِ ؟
ردَّ الشّيخُ:الإيمانُ هو النَّذْرُ المُقدّسُ أن لا نَغيبَ عن الغَيْبِ.
أن يظلَّ صوتُ الوضوءِ في ضمائِرِنا قوياً
أن تُمهِرَ الجنّةَ صَبرَك‘ وتَكتبَ مِن جِبّلةِ الطّينِ حرفاً سماويّاً كأنّه لافتةُ الفِردوسِ الأعلى
قال التّلميذُ: دُلّني كيف أبلُغُ الصّيامَ ؟
قال العالِمُ الربّانيُّ: احفَظْ للهِ نهارَك يحفظِ اللهُ لك لَيلَك
احفَظْ للهِ قلبَك يحفظِ اللهُ لكَ غَرسَك
فالبِذارُ الذي لا يُسقى بماءِ الطّهارةِ منذُ البَدءِ لا يُنبِتُ.

إنّ العبدَ يتردّى في داخِلِه قبلَ أن يَسقطَ من شاهِقِ الذّنبِ
يَهوي في عُمْقِهِ أولاً قبلَ أن يجترِحَ الذّنبَ
الذّنبُ هو جنازةُ القلبِ !
صلِّ الّليلةَ صلاةَ العائِدِ المُنيبِ وقُلْ:
" يا ربُّ إنّي أعودُ إليكَ مُعتذراً .. أُمطِرُ سِجادتِي دَمعاً فَتَسْقِيني
يا ربُّ إنّي أعودُ إليكَ مُغترباً .. أُسْرِجُ لكَ الرّوحَ أرجُو أنْ لا تُطْفيها "
قالَ التّلميذُ: قدْ غَلّتِ الخَطايا إقبالي، وأَبْقتْ لي إدباري
ربما يُطِلقُ الشّيطانُ الّليلةَ يا شَيخي الأُسارى، لكنّ انطفاءاتِ الخَطايا تَلهَثُ في الأرواحِ مثلَ أصواتِ الشّظايا
انتَفضَ الوَجَلُ في عيْنِ الشّيخِ ثمّ قالَ:
فـِرَّ إلى اللهِ في رمَضانَ
فَفي رَمضانَ لا مَسافةَ بينَك وبين اللهِ حتّى تطويَها.

قُمْ إلى اللهِ .. تتبّعْ سبباً مُوصِلاً إليه
ودَعْ رَمضانَ يَنزِعُ عنك أدرانَك.

يا ولدي..
(إنّ الرّجلَ لَيَنقَطِعُ إلى بعضِ المُلوكِ فيُرى أَثرُهم عليه فكيفَ بمنْ ينْقطِعُ إلى مَلكِ المُلوكِ)
وهذا زمنُ الانقطاعِ إليه. قلْ:
يا مَولى رمضانَ هبْ لي بِضاعةً غيرَ مُزجاةٍ
تُبلِّغُني مَقامَ الحالِّ في الإيمانِ بِلا ارتِحالٍ.

و نادِ :
يا أيُّها الطُّهرُ أدرِكْ خُطوتِي.
ثُمّ
تَضلَّعْ من رمضانَ فإنَّ الحسناتِ يُذهِبْنَ السيئاتِ
واعْلَمْ أنَّ التّوبةَ تَرُدُّ على عِقالِك ما شُرِّدَ مِن حَسناتِك
و تَرُدُّ عليكَ استغفارَ الأَسحارِ، ودَهشةَ الفرحِ إذْ يُجابُ
الدُّعاءُ
وتَرُدُّ عليك لِجامَ التَّقوى حتّى تنفِرَ من مَجالسِ الغِيبةِ
وتَشُمَّ مِن ريحِ الذُّنوبِ ؛ ما لا يَشمُّ القومُ إذْ يَخوضُون !
طُوبى لِمنْ أحسَنَ مَدَّ الحِبالِ في رمضانَ
وأطالَ زمنَ الوصْلِ
وعَبرَ مِن أثقالِ الثَّأرِ إلى صَلاةِ التَّسامحِ​


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثانية

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


قالَ الشيخُ:
(طَهِّرْ قَلبَكَ مِن العَيْبِ ، يُفتَحْ لك بابُ الغَيبِ)
تمَلملَ التّلميذُ في مَجلسِهِ كأنَّ الكلماتِ مَسّتْهُ بِنورِها.
فكرّرَ الشّيخُ ( يُفتحْ لك بابُ الغَيبِ ) ثمّ قالَ :
أيُّ غَيْبٍ تُرى هذا الذي سَتُشرَعُ لك أبوابُهُ يا ولدي ؟!
أهُوَ غيْبُ الإجابةِ.. حتّى كأنّك أنتَ منْ يُرتِبُ تفاصيلَ الحُلُمِ
تَلتقِطُه يُسَاقَطُ عليك ثمرُهُ رُطَباً جَنِيّاً.
أهُوَ غيبُ العِلمِ والفَهمِ حتّى كأنّك صاحبُ موسى
قَد آتاهُ اللهُ العلمَ من لدنْه هبةً عُليا !؟
أم تُراهُ دهشةُ الغيبِ المَكنونِ تَلمِسُهُ حتّى كأنَّه عِيانٌ مَرئيٌّ !
يا بنيَّ .. لا يَتيهُ صوتُ المَحزونين في رمضانَ
لا تَذبُلُ توَسُّلاتُهم المَسكوبةُ في السُّجودِ
لا سَرابَ يَلتَمِعُ في عيونِهم الباحثةِ عن فَيضِ الخَزائنِ الإلهيّةِ

أصغِ في عُمْقِ الأسحارِ لأصواتِ الأبوابِ وهي تُفتحُ
لِصّريرِ المُغلَقِ كيفَ يُشرَعُ، لزَحزحةِ الأبوابِ الثَّقيلةِ
يَرتفعُ صَدى صوتِكَ في السّماواتِ
وتَشتدُّ الملائكةُ على إثْرِ خُطواتِ الدُّعاءِ
تتحرّكُ لك سِلسلةُ الإجابةِ.
ثمّةَ لُغة ٌغَيبيةٌ للأبوابِ المُوصَدةِ يَهَبُكَ اللهُ إيّاها إنْ طَهَّرْتَ القلب
ثمّةَ لغةٌ غيْبيةٌ يَفيضُ بها لسانُك فتهتزُّ لها أبوابُ السّماواتِ
ثمّةَ لغةٌ لا يَنضُبُ ماؤُها تُسْتَمْطَرُ بها الرَّحَماتُ.
لا تَحملْ همَّ الإجابةِ يا وَلدي
إنْ وَهبَكَ اللهُ الدُّعاءَ.

طهّرْ قلبَكَ
ثمّ انظُرْ كيف يَفيضُ الغَيبُ عليك في رَمضانَ
قالَ التِّلميذُ :
يا للهِ .. كيفَ لقلبٍ أنْ يَطْهُرَ مِن صورةِ الذّاتِ
مِن جَذْبةِ الطّين .. مِن شَهْوةِ الكِبْرِ الخَفيّةِ .. مِن لذّةِ الرِّياءِ
ومِن شَهوةِ البُروزِ للأكوانِ !
دُلَّني كيف أرحلُ مِن أكداري !؟
قالَ العالمُ الربانيُّ:
اذكُرْ أنّ الأنفاسَ المَرويّةَ بالطّهارةِ
هي التي تستحقُّ الرُّؤى.
تعلَّمْ كيف تَغتسِلُ في رَمضانَ
كيف تَغمُرُ خَطايا قلبِك في غَيثِ الشَّهرِ فلا يبقى بعدَها شُؤمٌ ولا أثَرٌ .
تَضلَّعْ مِن
رمضانَ
حتّى كأنَّه ماءُ زَمزمَ يُشْرَبُ فَتُقضى به حوائجُ العُمُرِ كلُّها.
سلِّم قَلبَك من الكَدَرِ حّتى يَسلمَ لك
رَمضانُ
ويَتَسلّمُه اللهُ مِنك مقبولاً.
يا ولدي إنّ للهِ عباداً إذا سَجدوا أضاءَتْ أنوارُ قُلوبِهِم مدارجَ الدَّعواتِ
يَستهدي الدُّعاءُ في بُلوغِ العَرشِ بنورِ القلبِ الذي فاضَ بالطُّهْرِ

هؤلاءِ هُم منْ يَستحقونَ الرُّؤيةَ.
هؤلاءِ منْ عَمَرُوا باطنَهم بالمراقبةِ
هؤلاءِ مَن لم تبقَ لهم يومَ القيامةِ إلا المُكاشَفةُ !
فحدِّثْ حينَها عن المُناجاةِ كيف تَتدفّقُ
وعن المَلائكةِ كيفَ تَعْجَبُ.
إنّ نُورَ اللهِ لا يَهْبِطُ إلا في القُلوبِ المَصقولةِ
لِذا قيلَ: " من صَفّى صُفِّيَ له " حتّى يرى بنورِ اللهِ ما لا نَرى.
طهِّرْ قلبَك من دَبيبِ الرِّياءِ مِن مَحْمَدَةِ الناسِ
من صوتِ الجَماهيرِ في عُمقِكَ ، من عَتمةِ الكَراهيةِ،
ومِنْ وَسْوسةِ الحَسَدِ.
ثمّ قالَ الشيخُ :
إنْ سَلَبَتْكَ ذُنوبُك البِداياتِ فأذكرْ مَرارةَ النّهاياتِ.
مَرارةَ أن يَرمِدَ قلبُك أعواماً فلا تُعالجَه
ولو رَمِدَتْ عينُك يوماً لعَجِلْتَ إليها.
يا بُنيّ .. لو لم يَكنْ إلا أن يَرى اللهُ قَلبَك مُقيماً على بواطِنِ الذُّنوبِ
فَيُخْليكَ اللهُ وَما تُريدُ، و يَكِلَكَ إلى نَفْسِك، ثمَّ تَفقِدَهُ عِندَ مُفترَقِ الطّريقِ.
يا وَلدي.. خَطيئةُ القُلوبِ يَراها اللهُ بِعينِه
فَارحَلْ إليه الليلةَ بما يُحبُّ
ارحَلْ إليه مِثلَ ريشةٍ في الرِّيحِ
فبالطَّهارةِ تَبلغُ المُستحيلَ .​


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثالثة

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


كانَ الشّيخُ ظَمِئاً في دُعائِه فأطالَه حتّى ارتويْنا
ثم ظلَّ يُلحُّ على اللهِ أنْ يكتبَ الأمنَ لغزة
استدارَ الشّيخُ وقد تجمَّعَتْ دموعُ الثّكالى في عَينيه مثلَ الغَمامِ
ثمّ قالَ للجَمْعِ الخاشِع:

يا أبنائي.. فَرَدَ الإسلامُ جناحيه بِهَيْبةٍ في فُتوحاتِ العِراقِ والشّامِ
إلّا أنّ فِتنةَ احتكارِ القرارِ أصابتِ القائدَ فقُتِلَ الخِيرةُ
وانكسرَ الجيشُ كلُّه على " الجِسرِ " في العراقِ؟

وكُنّا مثلَ غَيمةٍ ترشُّ الحزنَ والدَّمَ على خارطةِ الإسلامِ !
كان يومَها " عُمَرُ " بينَنا وكانت مَهمّةُ عُمَرَ في الإسلامِ
أن
لا يأذَنَ للهزيمةِ أن تنبُتَ بيننا.
أن يكسِرَ الحِرابَ قبل أن تنغرسَ في آمالِنا
أن لا يأذَنَ للمعاركِ أن تهُزَّ المصاحفَ فينا.
فأمَر بمعركةِ ( البويبِ ) بالقرُبِ من الكوفةِ وسلّمَ الرايةَ " للمثنى الشَيْبانيّ "
ذاكَ الذي أعدَّ خطّةً مُحكمةً، وأصرَّ قبلَ المعركةِ أن تَصُفَّ الصُّفوفُ مثلَ صُفوفِ الصّلاةِ دونَ ثغراتٍ

ثم صاحَ المثنى في الصُّفوفِ حينَ استَوَتْ :
(لا تَفضحُوا المُسلمينَ اليومَ).

يا اللهُ !
أكانَ المثنى يرى خلَلَـنا في الصّلاةِ هو بدايةَ الفضيحةِ ؟
أكان يَرى ارتعاشتَنا في الوُقوفِ هو عتبةَ الفَضيحةِ !؟
أكان يرى غَفوةَ الأجيالِ خَيبةً
وفراغَ جُعْبتِنا من السِّهامِ الربانيّةِ فضيحةً !
نحنُ يا غزة .. من باعَ نفسَه في ساحةِ المزادِ للحُشودِ الفاسدةِ
يومَ قَبِلْنا تقاعسَ الخَطْوِعن القُدومِ للهِ .

فصفوفُ الصّلاةِ هي مِقبَضُ النُّورِ للنّصرِ

الواقفون في العزيمةِ لا يُرهقُهم نزيفُ الأقدامِ في القيامِ .
الحارِسون للحروفِ المَتلُوَّةِ يتهجّون منها معانيَ التغيير
ويكتبون بها خارطةَ الفتَحِ الجديدةَ.


أولئكَ الذين لا يترجّلُون عن القيادةِ.

قدرُنا أن تبدأَ جُذورُنا في الصّلاةِ
وأنْ يكونَ نَموُنا بالقرآنِ مثلَ نَبتةٍ في مَجرى النّهرِ.


كان " المُثنّى " يُدركُ رسالةَ صُفوفِ الصلاةِ فينا
يدركُ أنّ الثّغرةَ تبدأُ من المَسجدِ
مِنْ تخالُفِ قلوبِنا في مَوطِنِ الاجتماعِ على اللهِ
من مشهدِ صلواتِنا
يَسرِقُنا الشّيطانُ
فتَظلُّ الصّلاةُ أدَاءً لا يَبلُغ التَّحليقَ


قال الشّيخُ :
إنّ (الفُرسَ الكَفرةَ ) لا تصيدُ المُحلِّق نحو السَّماء
إنّ الفُرسَ تَبلُغُ فقط الخَافضينَ رؤوسَهم مثِلَ النَّعامِ

اهتزَّ التّلميذُ في حضْرةِ الكلماتِ فقالَ له الشّيخُ :
لا تَرتعشْ .. وامحُ عنّا تَلكُّؤَنا واسترْ عَورتَنا !
قالَ التّلميذُ .. كيف ؟!
فردّ الشّيخُ :
لا تفضحِ المسلمينَ !
لا تخشَ عِبءَ الحَمْلِ للقَولِ الثّقيلِ
وجاهِدْ رُوحَك كيْ تَستقيمَ

لا تُفاوِضْ على أن ترتديَ دينَكَ نِصفَ ثوبٍ
فلبِاسُ التّقوى لا يَحتملُ هذا التَّرقيعَ؟


رتّلْ تاريخَك .. واذكُرْ أنّ على ضِفافِ الفُراتِ في رمضانَ تمَّ تَصحيحُ الخَطيئَةِ
و أَوْقِفْ عُريَّ عَقلِكَ .. أوقِفْ عُريَّ رُوحِكَ .. وامتَشِقْ رمضانَ

رمضانُ .. يُعلِّمُكَ كيفَ تَمتطي الخيلَ للفردوسِ الأعلى
دون رجفةٍ أو خُمُولِ.


ثمّ أكمَلَ الشّيخُ الحكايةَ ..
جَمعَ المُثنّى كلَّ منِ ارتَدَّ عن الإسلامِ ، وعاد تائباً إلى الجَيشِ وقال لهم
( هذا زمنُ الكَفّارةِ )

وقد كانَ؛ إذ استَبسلَ المُرتدّون، واحتَضنَتِ السّماءُ خَطوتَهم الجديدةَ .
أقبلَ الفُرْسُ في ثلاثةِ صفوفٍ، مع كلِّ صفٍّ فيلٌ
ولهم زَجَلٌ وصِياحٌ فقال المُثنّى لأصحابِهِ :

" إنّ الذي تسمعونَ فَشَلٌ فالزَموا الصَّمتَ "

يا لَرَوْعةِ الفَهمِ !
لقد أدركَ المُثنّى أنّ للموتِ حَشْرَجَةً وتلكَ كانتْ أصواتُها
نحنُ إذا لم ترْتدَّ أيدِينا قبلَ ألسِنتِنا عن التَّكبيرِ
نحنُ إذا لم تَرتدَّ خُطواتُنا قبلَ أصواتِنا عن التّكبيرِ
نحنُ إذا وقفْنا في الصّلاةِ كأنّ الأقدامَ على الصِّراطِ
واللهُ يَسألُنا عن أمانةِ الدِّينِ.

نحنُ إذا نَزعْنا الوَهَنَ وأخذْنا معانيَ "الكِتابِ بِقوّةٍ " حينَها
سنَسمعُ صوتَ الفشَلِ في الرّاياتِ الظّالمةِ.

فالزَموا الصّمتَ
فأنتُمْ حينَها في صلاةٍ يَمدُّها اللهُ بالمَدَدِ !


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الرابعة

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙



رمضانُ تتبَعه المواسم والفُصول، ويظلّ يُزهر ما حَييت
وفي الموت هو الرّفيق ثمّ في القيامة يسقيك
كلّا وربّ الرَّيان إنَّه يرويك

فاكتُب تواريخ ميلادك مِن جديد
واقرأ فاتحة البَدء من عمرك في رمضان.


هنا أول الوصل
و رَوض يتضوّع من آلاف المِنَح


لا الصُّبح يُشبه رمضان
ولا النّجم ولا حتّى القمر
رمضان يا ولدي هو الجنّة.


لو كانَ قلبك حاضِراً
لرأى السّكينة والليالي بالملائك مُقمرة .


لو كان سَمعك عالياً لتناغم صوت اصطفاق
أبواب الجِنان في المَسامع واضحاً !


كاد التّلميذ أن يبكي فتداركه الشّيخ بقوله:

تعلم كيفَ تختم رمضان
فإنّ ما تختم به يُبعث معك كيْ يشهد لك وعلَيك.

قال التّلميذ ..
كيف أختم رمضان ؟!
قال الشّيخ : كمال النّهايات دلالة التوفيق في البدايات
فالخَواتيم المُشرقة؛ إنّما تكون لِمن "أسَّس بُنيانه على" التقوى

النهّاية دوماً هي قصّتك الحقيقية
فمن أشرَقت بدايته بإحكامِ أصولها
أشرَقت نهايته بالعُثور على مَحصولها.

و لقد قالها الصّالحون :
( قُرب بَيتك من الله في الآخرة
كَقُرب قلبك منه في الدّنيا
)


فاقتَرب منه اليوم حتّى لا يبقى بينك وبينه إلا قُرب الآخرة .
اسعَ إليه سَعياً واذكر أنّك لو جِئته مشياً لآتاك هَرولة
" لآتاكَ ".. أوّاه لو تتَملاها يا بُنيّ لَطِرتَ إليه
وطَويتَ الرّوح في جَنبيْه .. وبلَّلت قلبك بدمع المُحبّ
وإنْ ذُقت وصلاً به فَهِمتَ لماذا بكى إبراهيم
حتّى قال العَليُّ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ"


يابُنيّ .. قد قيل: " مأوى روحك ما هَويت "
فانظر بالله عليك ماذا عَشِقت

صَلِّ له اليوم بِهرولة القدوم على الحَبيب ..
صَلِّ له مُتوضئا بالشّوق
واعبُر من الفَرش المُسجّى تحتكَ
ماشياً، وراكضاً، ومتعجِّلاً

وقلْ له :"
وعَجِلتُ "

إيّاك أن تَحبو
إيّاك أن تتَعثّر
ربّما تبدو لك كلّ خَطوة ولادة عَسيرة

لا بأسَ يا بُنيّ .. فبعدَها ستلهَث الجَداول في إثْرِك
وسيَغيض البَحر اذا قورن بِفَيْض المُنى عليك
كأنّها جُود السّحائب مِن عليِّين إليك !


صدّقني ..
العابرون سنين القَحط لمْ يَعبروا إلى رَمضان
ربّما بلّغهم الهلال !
لكنَّهم حُجبوا عن لطائفِ وعطايا الشَّهر .!

فبالقلوبِ المُهرولة إلى الله
يمهرُ الله الأكفّ المُنتظرة
.


تمَلمل التّلميذ ثمّ اتّكأ على ركبَته
وفي العين سؤالٌ يخشى البَوح به

فأكمَل الشّيخ : يا ولدي أنت من أهل ( الذي دُمتٓ فيه )
وهو لا يحبّ الآفلين.

تنبّه لذلك
اذ التَقط إبراهيم المَعنى في الشّمس الرّاحلة .. والنَّجم إذا يغيبُ
فقال :" لا أحبُّ الآفلين"

فلا تكُن آفلاً .
وكُن مع الله يابنيّ دائماً


قال التّلميذ متوجِّعا:
قلبي يظلّ يتقَلّب !


قال الشّيخ : استغفِر الله مِن فِعل قَلبك ؛ يكفّك تقلُّبه ..
استغفِر مَن بِيَده قلوبُ العباد و دعهُ يسمع أنين استغفارِك.

يا ولدي .. فِعل القلب أصلٌ لِفعل البَدن.
فانظُر ماذا تغرِس !؟ وانظُر الغرس حينها ماذا يُثمر ؟

اجعل همَّك كلّ ليلة غرساً جديداً ازرعه في قلبِك
في خَفاء الّليل .. في يقينِ مَن يعلم أن البذار يُحصَد في حقولِ الفَرح

فذاكَ وعدُ الله
لِمن جعلَ شُغله قلبٌ يستحقّ تجلِّي أنوار الكَريم .


يا ولَدي ..
عينُ مَقامِك عندَ الله همّك
فانظُر كلَّ ليلةٍ ما أهمَّك ؟!


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الخامسة

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


"لعَلّكم تَتَّقُون" تَلا الشيّخُ الآيةَ ثمّ قالَ :
يا ولَدي ..
هل التّقوى أولويةٌ في حياتِك؟!
هل تشعرُ بالذَّنبِ إذْ يصيبُك مثلَ شَوكةٍ تَخدُشُك
حتّى يسيلَ الدّمعُ منك !

هل ترى الذنبَ انكسارَ السفينةِ والنأيَ عن المراسي
وطوقَ الظُلْمَةِ الذي لا يزولُ ؟!

هل تدري كيف وصفَ عمرُ التّقوى حين سُّئِلَ فقال:
" أرأيتَ لو أنّك بطريقٍ ذي شوكٍ ماذا تفعلُ ؟

فردَّ السّائلُ : أُشَمِّرُ وأَحذَرُ ..
فأجابَ عمرُ : تِلك التّقوى " .


التّقوى ..
أن تخشى أن يُصيبَك رَذاذُ المُستنقعِ ..
أن تحميَ بساطَ قلبِك مِن غبارِ التلوثِ ..
أن تُباعِدَ بين أنفاسِك وأنفاسِ الفِتنةِ !
أن تُشيحَ بعينِك عن وجهِ امرأةٍ حتّى لا يَشيخَ قَلبُك.


فالذّنبُ
وَهَنُ القلبِ !


أنْ تقبِضَ كفَّك أمامَ درهمٍ حرَامٍ حتّى لا ينقبضَ قلبُك
ولا تجدَ فيه للشّرْحِ مُتّسعاً !

أن تتعثّرَ الكلمةُ مرّاتٍ ومرّاتٍ في فَمِك خَشْيةَ أنْ تهويَ بك في سَخطِ اللهِ
وحيِنَها لن ينْتَشِلَك أحدٌ !


التّقوى ..
أنْ تُدركَ أنّ الذّنبَ هو الخُذلانُ وأنّه العَتمةُ التي تَلتهمُ التوفيقَ
وتبقيك عارياً في التِّيهِ.


واحفَظْ عَنّي :
( إنّ عرَجَ الأرواحِ وحدَهُ
مَنْ يَمنعُ الأقدامَ مِن الوُصولِ )


إنّ الذُّنوبَ جِراحاتٌ
ورُبَّ جُرحِ وقَع في مَقْتلٍ .


فاحذَرِ الذّنبَ أن يكبُرَ فيك
فتموتَ به ولا تَدري.


أن تتشوّهَ
أو تتَبعثرَ به !

ومِن العسيرِ : أن تجدَ من يُلملِمُ بعدَها شَتاتَك !
وتنبَّهْ يا بنيَّ لآثارِ الذّنوبِ في خُطواتِك
فقد قيلَ:
إنّ (وقوعَ الذَّنْبِ على القلبِ كوُقُوعِ الدُّهْنِ على الثَّوبِ
إمَّا أنْ تُعَجِّلَ غَسْلَه وإلّا انبسطَ )


لذا
تعلّمْ حِميةَ الإيمانِ في رَمضانَ.
قال التّلميذُ : ما هِي ؟
فقال الشّيخُ: اجعَلْ بينَك وبينَ الحَرامِ حاجزاً مِن الحَلالِ
ودَعْ عنك ما تَشابَهَ مِن الإثمِ

واعلَمْ
أنَّه إذا غَرقَ القلبُ في التّوسّعِ في الحلالِ أظلَمَ
فكيفَ به إن غرِقَ في الشُّبُهاتِ والآثامِ.


و خَفْ ذنباً يَهدمُ حسناتِك
وخَفْ ذنباً يَبني ذُنوبَك
فإنّ للذنوبِ دبيباً لا يسمَعُه إلا عالِمُ السِّرِ وأَخْفى.
ولها تَبِعاتٌ خفيّةٌ تنخِرُ القَواعدَ !
حتّى إذا خرَّ ال
سّقفُ على صاحِبِه وسَقطَتْ (مِنسَأتُه ) تلَفَّتَ جَزِعاً
فلم يَجدْ إلا سُوسَ خَطيئتِه تأكلُ قوتَ أيّامِهِ.


وقد قالها عليٌّ _رضي اللهُ عنه_ مُنذُ زمنٍ :
(
تَعطّرُوا بالاستغفارِ، لا تفضَحنَّكُم رَوائحُ الذُّنوبِ )

فإنْ أبيتُم
كانَتِ الذنوبُ ريحاً تَهُزُّ العُروشَ ..

وربَّما البُيوتَ .. أو الأَرزاقَ .. أو العِيالَ.

ورَدِّدْ طوالَ لَيلتِكَ ..
اَللّهُمَّ .. اغْفِرْ لِنا الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ .
اَللّـهُمَّ .. اغْفِـرْ لِنا الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ .
اَللّهُمَّ .. اغْفِرْ لِنا الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ
اَللّـهُمَّ.. اغْفِرْ لنا الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ.

اغرِسْ في قلبِك بُذورَ التّقوى
حتّى تَلقى


قال التِّلميذُ .. ألقَى ماذا ؟!
قال الشّيخُ:
حتّى تلقَى رمضانَ
وما خَبّأ اللهُ لك في الّليلِ المَسدولِ من وعدِ الوصلِ
حتّى تَلقى فيضَ العَشرِ وتُكرَمَ بعَطاءِ الخَلوةِ
فَتفهمَ حينَها أنَّ
التَّقوى صفاءٌ وهي الدّربُ إلى الجَلْوةِ.
 
رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ السادسة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


اقترَبَ التِّلميذُ من الشَّيخِ سائلاً:
لماذا اختصَّ اللهُ رمضانَ بغايةِ التّقوى ؟!
لماذا لم تكُنْ غايةُ الصّلاةِ أو الحَجِّ "لعلَّكم تتّقوُن"

أجابَ الشّيخُ : في رمضانَ ُيوقَد جمرُ إرادتِك
ودوماً على حطَبِ النّارِ المشتعلِ تنطفئُ الشَّهواتُ
يُشعلُ لك رمضانُ عُودَ الثّقابِ، ويكشِفُ لبصيرتِك أنَّك قادرٌ على التَّرْكِ
على الاستعلاءِ عن متاعٍ طَالما أسقَطَك !
عن حبِّ العِجلِ في قَلبِك؛ فكلُّنا لنا عِجْلٌ خفيٌّ، وسامريٌّ اتَّبعناه.

رمضانُ يحمِلُك على الصّيامِ عن الكَبْوةِ
وإلا لماذا كانَ أفضلُ الدُّعاءِ فيه ( إنّك عَفوٌّ فاعْفُ عنّي )

التّقوى .. أن تَلمحَ أشباحَ الخطايا تتَراقصُ
وتُدركُ أنّ إصرارَ النّظرةِ يُعطيك عَذْبَ الغُوايةِ
لكنّه واللهِ ثِقَلُ الأحمالِ يومَ القيامةِ !

يا وَلدي.. " مِن العُودِ إلى العُودِ ثَقُلَتْ ظُهُورُ الحَطّابين
ومِن الهَفْوةِ إلى الهَفْوةِ كثُرَتْ ذنوبُ الخَطّائين
فافهمْ عنّي واعلمْ.. أنّ السّلفَ الصّالحَ فَقِهوا عن اللهِ
أنَّ ( اجْتِنَابَ السَّيِّئَاتِ أَشَدُّ على النفسِ مِنْ كَسْبِ الحَسَنَاتِ )
لذا قالوا:
(تمامُ التقوى أن تتقيَ ما يُرى أنَّه حلالٌ خَشيةَ أنْ يكونَ حَرَامَاً )

أتُحبُّ عُمَرَ ؟
ردَّ التِّلميذُ مُسارعاً : وأشتَهي رؤياه، وأشتَهي لو يُبعَثُ بيننا .
فقال الشّيخ: لو بُعِثَ لأَنكَرَنا وأنكَرْناهُ !
لقد كان عُمَر رضي اللهُ عنه – أيامَ خِلافتِه - إذا أُتِيَ بالعَشاءِ
أطفأَ السِّراجَ الذي أُشعِلَ بزيتٍ من بيتِ مالِ المسلمين وقالَ :
( لا آكلُ على سِرَاجِ العامّةِ ) !
خَشيةَ أن يَجمعَ اللهُ له قطراتِ الزّيتِ فيُثقَّلَ له به ميزانَ السيئاتِ.
فكيفَ لو رأى أحدَنَا وهو يَخلِطُ التّوسُّعَ في المكروهاتِ
ويبحثُ عن الرُّخَصِ وينتعلُ الآثامَ
وكلّما اشتَهى مِن سوقِ المعاصي اشترى.

قالَ التلميذُ : متى يبلغُ العَبْدُ سنامَ التقوى ؟
فقالَ : إذا وضَعَ جميعَ ما في قلبِهِ من الخَواطرِ في طَبَقٍ
وطافَ به في السّوقِ لم يستَحِ من شيءٍ فيه، إذْ قلبُهُ طاهرٌ مِن بواطنِ الإثمِ.

يا وَلدي .. ما زالتِ التّقوى بالمتَّقينَ
حتى تركوا كثيراً من الحَلالِ مَخافَةَ الحرَامِ.

قال التِّلميذ : دُلَّني كيفَ أبدأُ ؟
قال الشّيخُ: اجعَلِ اللهَ صاحِبَ سرِّك وخَلْوتِك، وخَفايا عمَلِك
يكُنْ صاحبَ علانِيتِك.
اجعَلِ اللهَ صاحِبَ وِحدَتِك، وهِجرتِك ودقائقِ تفاصيلِك
يكُنْ صاحبَ جَمْعِك.

يا وَلدي ..مَنْ لازَمَ التّقوى لم يرَ في الضّيقِ إلا السَّعَةَ !
ومَن فارقَها سُلِبَ الإحساسَ بمرارةِ العقابِ.

وما العقابُ ؟
قالَ الشّيخُ : لو لمْ يكنْ إلا مَنْعُ المَزيدِ لكفاكَ
فتّشْ قلبَك .. وفتِّشْ عَينَكَ .. وفتِّشْ كلِماتِك .. وفتِّشْ حَواجزَك كمْ خُرِقَ فيها
وأينَ استعذبْتَ المكروهاتِ .. وكيف ساقَتْك إلى بعضِ الحرامِ ؟
ثمّ قلْ : ربِّ إنّي "مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ​".





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ السابعة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

​​
قالَ الشّيخُ : جعلَ اللهُ من رمضانَ مِعيارَ قِيمَتِك، فلا تُوهِنْ مِقدارَك.
قالَ التّلميذً : كيفَ ؟!

قالَ الشّيخُ: هل انتبهتْ في رمضانَ
كيف يَصيرُ قطرُ النّدى ماءَ الجَداولِ ؟
وكيفَ يتضاعفُ كلُّ شيءٍ في رمضانَ !
تُطوَى لك فيه المسافاتُ ..
وتَلمَحُ عندَ الفجرِ هديلَ السّنابلِ
إذِ النّافلةُ تنبتُ لك في الأجرِ مثلَ فريضةٍ، والفريضةُ بِسبعينَ فريضةٍ
ثمّ الأجرُ غيرُ معلومٍ
لأنَّ الصيامَ عطاءٌ مفتوحٌ.

تَتفجّرُ نسيمُ تَراتيلِك في القِيامِ ريحاً
( تجري بكَ رُخاءً حيث تشاءُ )
تعرُجُ بك إلى عوالمِ النّورِحتَّى ينخفِضَ الضوْءُ حياءً أمام أنوارِك
تَخْلُصُ إلى روائحِ سِدرةِ المُنتهى ؛ وتذوقُ طعمَ الوَصلِ
حتى كأنّكَ الطّائفُ حولَ العرشِ !

يا ولدي .. هذا زمنٌ يسبقُ الزّمانَ .
قال التّلميذُ .. لستُ أفهمُ ؟!
قال الشّيخُ: ألستَ أنتَ أنتَ، ولكنّك بسجودِك وتقواكَ
بلَغْتَ في شهرٍ ما لا تبلُغُه في آمادٍ
!
لذا .. تعلّمْ في رمضانَ كيف يرتفعُ منك إلى اللهِ المَعنى
كيف يرتفعُ منك البِّرُ ..
لا الصّخبُ، ولا ضوضاءُ الحَسناتِ، ولا علوُّ الصَّوت
فالزّهرُ يُنبتُهُ دَفْقُ المَطرِ لا صوتُ الرّعدِ .

إن البّرَ ليَنْبُتُ في القلبِ ضعيفاً مثلَ النّخلةِ
يبدو غُصناً واحداً، فإذا شقَّها عابرُ طريقٍ ذهبَ أصلُها
وإن شقّتْها عَنزةٌ ذهبَ أصلُها
إلا أنّ صاحبَها يظلُّ يَسقيها
حتى تَنتشرَ.. حتّى يكونَ لها أصلٌ يُوطَأُ وظِلٌّ يُستَظَلُّ به، وثمرةٌ تُؤكَلُ .
فإنْ زادَ السَّقيُ والتّفقدُ
جعلَ اللهُ من بِرِّهِ بركةً على نفسِهِ ، ودواءً لغيرِهِ
ألا ترى في الأرضِ بعضَ الزّرعِ دواءً !
وتَنبّهْ للهِ وهو يقولُ لك " إليهِ يصعَدُ الكَلِم الطّيّبُ والعملُ الصّالحُ يَرفعُهُ "
كأنَّ عملَك المقبول هو منْ يَحِملُ صوتَك الصّاعدَ إليه.
وكأنَّ كلَّ هَمسةٍ في الدُّعاء تبتغي بساطَ عملِك الخالصِ ريحاً كي ترتفعَ إليه

فتفطّنْ لذلك كلِّه !
واجعَلْ عملَك معنًى لا صوتاً.

يا ولَدي .. ثمّةَ خطوةٌ أولى سأعلِّمُك الّليلةَ إياها
إذا تعلّمْتَها استَسْلَمَتْ لك باقي الخطواتِ

يا وَلدي : ثمّةَ ترتيلٌ زكيٌّ خفيٌّ في قيامٍ طويلٍ، يَتبعُهُ سجودٌ طويلٌ
سيجعَلُ العُروجَ الفلكيَّ إلى اللهِ مختزلاً في سُويعاتٍ.
وثمّةَ " نوحٌ " خفيٌّ في مزاميرِك الخاصّةِ ستجعلُ الذّرّاتِ تنَتظمُ حولَك
وربّما ستَفهمُ ساعتَها معنى كيف تمَّ " لداوودَ " التّسخيرُ.
ستلتقطُ حينَها معنى
"وألَنّا لهُ الحَديدَ" .. "والطّيرَ مَحشُورةً كلٌ له أوّاب"
بعدَ إذْ بلغَ مقامَ "يا جبالُ أوِّبي معهُ و الطّيرَ"
فقد حرّرَهُ البُكاءُ بينَ يدي اللهِ، وحرّرَ له كلَّ شيءٍ
ذلَّ للهِ فَذلَّتْ له الأكوانُ .. واحتَرقَ للهِ فانساحَ الحديدُ بين يديهِ
وغابَ عن رؤيةِ نفسِهِ فحُشِرَ الطّيرُ والخَلقُ له.


أوّاهُ .. كيف ابتلَّ الحصى، وَرملُ الجبالِ ؛ بالصّوتِ المَمدودِ من داوودَ
حتّى أوبَّتِ الجبالُ للهِ بتأوّهِ مَنْ لا يطيقُ !

يا وَلدي .. لا تظنَّ المسيرَ إلى اللهِ طويلاً
المَسيرُ إلى اللهِ يبدأُ بِخَفقةِ وجَلٍ خفيّةٍ.


وأعلَم ْ.. أنَّه لا يجدُ طَعْمَ العبادةِ ؛ من يَعصي ولا من يَهُمُّ بالمَعصيةِ.
فأَسِّسْ عبادتَك على تلكَ الخَفقةِ.
اسجُدْ وتشبّثْ به وردّدْ (سُبحانَ ربِّيَ الأعلى) حتّى تَعلوَ.

ثمّ قلْ: ثبّتْني يا ربُّ حتّى أرقى .
وعلّقْ عينَك بمقامِ "والذين اتَّقوا فَوقهم "
فَوقيّةٌ أنّى للعقلِ أن يبلغَ مِنها المَدى.

تودّدْ إليه وقُلْ له : مُشتاقٌ جاءَ على فَقر.
واعلَمْ .. أنَّه مَن وقفَ بينَ يديه فإنَّه بلغَ كنوزَ السّمواتِ والأرضِ.

فتَعلّمْ كيفَ تقتربُ منه
كيفَ تَقتربُ من أنفاسِ الملائكةِ وهي تَملأُ المِحرابَ بالبشارةِ على زكريا
"وهو قائِمٌ يُصلّي في المِحرابِ"

اِئْذَنْ لروحِكَ أن تَستريحَ مِن وَعثاءِ السَّفرِ في متَاهاتِ الحياةِ
ألمْ تسمعْه وهو يقولُ:" فإنّي قَريبٌ "
فلا تكنْ أنتَ البَعيدَ !​





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثامنة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙
​​
قالَ الشّيخُ: إنَّ عمرَنا صارَ باهِتاً، نَقطَعُهُ بنصفِ إغماضةٍ
أو ربّما براحلةٍ مثقوبةٌ سلالُ الزّادِ عليها.
نحن نَمضي إلى اللهِ فارغين من القُرآنِ، أو ربّما ناقِصينَ من الكلماتِ
مُحمَّلين بالصوتِ فقط !

هل تُدركُ .. أنَّ قَدرَنا كان أنْ نكونَ مع النَّصِ القُرآنيّ
ولا قَدَرَ لنا سِواهُ إلا هامشُ الإهمالِ.
كنّا قبل حَدثِ التَّنزيلِ نزحَفُ على حاشيةِ الحَضاراتِ و لا صوتَ لنا
إلا صوتُ الزَّحفِ الغائِبُ في القاعِ ..
فهل تَدري متى بُعثُنا من غيابِنا ؟!
ومَتى انفرَطَتْ عنَّا الأكفانُ ؟!

كان ذلك يومَ نَزلَ القرآنُ بغايةِ " لِمَا يُحْيِيكُمْ "
كانَ القرآنُ يُخلّصُ القومَ مِن بُعدِ المسافاتِ ، ويَجُرُّ لهم مِنصّةَ القِيادةِ
ويُعْلِنُ أنّ بينَ زمنِ الموتِ وزمنِ الحياةِ فقط فِقهُ القرآنِ
كان يُغلقُ لهم صَفحةَ الجَنازاتِ ويفتحُ لهم عواصِمَ الشّهود على التاريخِ
ويَزرعُهم في تُربةِ الخرائطِ دونَ رحيلٍ
وكانوا هم يومَها صامِتين في حضرةِ الصوتِ القرآنيِّ يَسمعونَه مِن مُحمّدٍ ﷺ
يسمَعونَه بإحساسِه و تفسيرِه التفاعليِّ
ويَصِفون قِراءَته بأنّها قراءةٌ حزينةٌ .. شهيّةٌ .. بطيئةٌ ..
مُترسّلَةٌ كأنّه يُخاطِبُ إنساناً.
وقَد كانَ .. إذْ كانَ يُخاطبُ روحَه وأمّتَه بكلِّ معنىً
و يأَذَنُ لنفسِه وأمّتِه أن تَخلُق خلقاً من بعدِ خَلْـقٍ بالقرآنِ
كانوا يَسمعونَه وأبو بكرٍ يشكو له ماذا حَلَّ به حينَ سمعَ "مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ "
قائلا ( فلا أعلَمُ إلا أنّي قد وجدْتُ انفصاماً في ظَهري حتّى تمطّيْتُ لها )
وكان ذلكَ لأنّه فَهمَ الأمرَ في قولِه "خُذِ الكِتابَ بقوّةٍ "
فكادَ ظهرُه ينفَصِمُ للفَهمِ والمَعنى.

وَرِثَ الجيلُ الأولُ الفِقهَ النبويَّ للتلاوةِ والقراءةِ ، والتّعاملِ معَ القرآنِ
وتوحّدوا معَ الآياتِ، وازدَحمَ القرآنُ في تفاصيلِهم.
كان يَفيضُ لهم ويفيضُ بِهم وتَشرَّبُوه
حتى صاروا جنانَ الذّاكرةِ البشريةِ .

انظُرْ إليهم في تواصِلِهم مع النّصِ كيف يَنبُتون !
فهذا ابنُ مسعودٍ يَمكُثُ زمناً مِن الليلِ لا يردّدُ سوى "رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا "
إذْ كان يَستَلهِمُ مِن الدُّعاءِ سببَ القُرْبِ مِن دماءِ الشُّهداءِ.

ويَذْكرُ أحدُهم أنَّه دخلَ على أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ وهي تقرأُ
" فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ" قال :
فوقَفَتْ عليها فجَعلتْ تستعيذُ وتدعو، فذهبْتُ إلى السُّوقِ
فقضيْتُ حاجَتي ، ثمّ رجعْتُ وهي فيها بعدُ تستعيذُ وتَدعو !
وكانَ ذلك تَذوُّقاً تُبنى به حياةٌ جَديدةٌ.

ويقولُ آخرُ: بِتُّ مع أحمدَ بنِ حنبلٍ ليلةً
فلم أرَهُ ينامُ إلاَّ يبكي إلى أنْ أصبحَ، فقلْتُ:
يا أبا عبدِاللهِ، كثُر بكاؤُك الليلةَ، فما السببُ؟
قال أحمدُ: ذكرْتُ ضَرْبَ المعتصمِ إيَّايَ، ومرَّ بي في الدرْس
قولُه تعالى :"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه"
فسجدْتُ وبكيْتُ، وأحللْـتُه مِن ضرْبي في السُّجُودِ.

وكانَ ذلكَ كلَّه توقّداً بالقرآنِ
إذ كانتِ الآياتُ في أرواحِهم كأنَّها كَفُ المَطرِ
لا تمضي دونَ أن تَزرعَ فيهم ربيعَ القُرآنِ.
كلُّ قارئ فِيهم كان يترُكُ شيئاً منه على سطورِ الفهم يترُك لنا بعضَه
وينشئُ لنا بالقُرآنِ مدائِنَ لنْ ينساها الزَّمانُ .

فهاهُو أحدُهم يقولُ :
بِتُّ مع الشّافعيِّ فكانَ يُصلّي نحوَ ثُلُثِ الليلِ
فما رأيتُهُ يَزيدُ على خمسِينَ آيةً !
وكان ذلك سببَ تلكَ المُصنَّفاتِ التي أخرَجَتْ لنا فهْماً مُبصِراً للإسلامِ.

كانَ أحدُهم يظلُّ مع القرآنِ تدبُّراً
حتّى يتعدّى بالآياتِ مواسمَ الحَياةِ ، ويُزهِرُ به موسِماً جَديداً
يتعدّى به أسرارَ الفُصُولِ.
وينْبَجِسُ مِن الحَجرِ ماءً ! كأنَّ عصا موسى تكمُنُ في الكلماتِ
فيغدو معها الجَدْبُ شلاّلَ حَياةٍ.
ثمّ كانَ وكان ...

وها نحنُ اليومَ ؛ نقِفُ على حافّةِ الصوتِ الجميلِ
تنطفئُ التلاوةُ بنا مُنذُ أنِ انْشَغلْنا بحركةِ الحناجرِ !
وظلَّ القُرّاءُ يدورون في فلَكِ الحَرْفِ حيثُ ماتَ صوتُ المعاني
وبقيَ صوتُ الهمسِ والجَهرِ دونَ إعلانٍ للرّسائلِ التي ثَقُـلَتِ الكلماتُ بها
قلْ لي بربِّك:
مَن يَسمعُ القُرآنَ اليومَ في النّوايا ؟!
مَن يَسمعُ القُرآنَ في الخَلوةِ والخَبايا ؟!
مَن يَسمعُ القُرآنَ في الخَطواتِ و في الحَنايا ؟!

هانحنُ نكبرُ في خَرابِ التلاوةِ
ونعيشُ بحاضرٍ مَنقوصٍ، متسمِّرين على أسوارِ الحُروفِ المُتقَنةِ.
ليسَ في تلاوتِنا أمْكِنةٌ آمِنةٌ لجيلٍ قد أرهقَهُ هَلَعُ التّيهِ.
تكادُ تَسقطُ أفواهُنا مِن شدّةِ الإحسانِ في القِراءةِ وعلى الجهةِ الأخرى
يكادُ يَسقطُ واقعُنا مِن شدّةِ الاهتراءِ !

تتجلّى الكلماتُ في فَمِ الجَماهيرِ ونفقدُها في ثيابِهم وعُيونِهم
وفي مَلامحِ الوُجوهِ ، وفي توقيعِ الحضورِ على مِنصّةِ التّغييرِ.
يقْتفي القادمون مِن بَعْدِنا خَطْوَ التّيهِ في أقدامِنا .
وتَضيعُ البَوصلةُ القرآنيةُ
إذْ بينَ إتقانِ الحرفِ وارتداءِ المعاني
تاريخُ أمّةٍ كانتْ تفْقَهُ ما معنى المُدارَسَةِ ..
كانتْ تفْقَهُ معنى "وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ"
لذا .. كانوا
( إذا تعلّموا عشرَ آياتٍ لم يُجاوزوهنَّ إلى العشرِ الأُخرى ؛ حتى يعلموا ما فيهِنّ)
فكان الأمرُ كما وَصَفوا ( نتعلّمُ القرآنَ والعملَ به )

ثمَّ ماذا ؟
ثمَّ كانَ ما تنبّأَتْ به فِراسَةُ الإيمانِ
( وسَيرِثُ القرآنَ بعدَنا قومٌ يشربُونه شُرْبَ الماءِ)
لا يجاوزُ تراقِيهم التي تتغنى بالأحرفِ المقامةِ على أوتارِ الحناجرِ
وليسَ على أوتارِ الحياةِ !
تنزفُ السطورُ من ألمِ الهجْر و فَـقْدِ الراحلين إليها !
إذْ ما أصعبَ الهَجْرَ لآبارِ المَعاني.

نحنُ ننسى أنّ الاستعما كان يُشجِّعُ مراكِزَ الحفظِ ، ويقْتُلُ العلماءَ
إذْ ما قيمةُ النّصِّ إذا فَرَغَ من الفَهْمِ ؟!
وهانحنُ على خطى التوجيهِ نحتشدُ على القراءةِ وجَمْعِ القراءاتِ
و نغيبُ عن تفعيلِ مَدارسِ الفِقهِ، والتّدبرِ، والتّفسيرِ
فيَبقى صوتُنا مُتهدِّماً أو مُتهَدّجاً أو مُرتجفاً بينَ الأممِ
ولن يستقيمَ .. إلا إذا عُدنا إلى (فاتَّبِعْ قُرآنَه)
لهذا يا سَيّدي كانتْ هذهِ الرّسائلُ
مُحاولةً لإضاءةِ قنديلٍ في فِقهِ المُدارَسَةِ
بعدَ أن ذَبُلَ زَيتُ القناديلِ في صُحونِ مَساجدِ الأُمّةِ .





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ التاسعة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

​​
قال الشَّيخُ: لماذا كانَ القيامُ في رَمضانَ بهذهِ الكَثافةِ ؟!
صمَتَ التِّلميذُ كأنَّهُ على حافّةِ المَجهولِ ثمّ قال :
لا أدري !؟

قال الشّيخُ: لأنَّ القيامَ واحةُ النُّورِ، وصمتُ السَّكينةِ، وهَمسُ المَلائكةِ
تَـرِفُّ الأجنحة فينتثرُ النُّور يتدفَّـقُ فينا فنشعُرُ بأنفُسِنا خِفافاً ومُشتاقين
اسْتَغرِقْ في العبادةِ حتّى تسْمعَ يقظةَ قلبِكَ
حتّى تذوقَ لذَّةَ الحديثِ مع ربِّك .. حتى تودَ لو أنَّك لا ترفعُ رأسَك مِن السُّجودِ أبداً
ذاكَ حالٌ تنهمِرُ له دُموعُ المحبّينَ فقد اختبَرُوه !
اسمَعْ للسَّلَفِ وهُم يقولون:
" لذّة ُالمناجاةِ ليستْ من الدُّنيا إنَّما هي مِن الجنّةِ
أظهَرَها اللهُ تعالى لأوليائِه لا يجدُها سِواهُم
".

أغمِضْ سمعَك عن ضَوضاءِ الحَياةِ
رتِّلِ القُرآنَ على رُوحِكَ المُتعَبةِ
فهي عَطشى لصوتِ الشّفاءِ.
أحْييِ فيكَ ألفَ ابتهالٍ، و دَعْ عيونَك تنهَمِلُ
مُدَّ الصّوتَ بالقرآنِ حتّى كأنَّه مَشبوبٌ بالشّوقِ والجَذَلِ.
تَأوّهْ مع كلِّ غنَّةٍ في تراتيلِك حتّى كأنّكَ الباكي مِن الوَجلِ .

في رمضانَ
تعلّمْ كيف تُمارسُ القُربَ عبر المُناجاةِ.


لا تَكنْ لحوحاً مثلَ صبيٍّ صَغيرٍ قَعدَ يبكي لأجلِ حوائِجِه
وأمُّهُ قادرةٌ أن تَقضيَها !
بل كُنْ مِثلَ عبدٍ يَدري أنّ شُجونَه عندَ اللهِ مَعلومةٌ
فيرحلُ إلى اللهِ بالحُبِّ لِعلمِهِ
أنّ جنّانَ العطاءِ الإلهيِّ بعد ذلك غيرُ محصيّةٍ ولا مَعلومةٍ
اجعَلْ طلبَك
بعدَ ثناءِ الحُبِّ، وحديثِ الوصْل
واستغراقِ اللَّهجِ بالأسماءِ الحسنى.

في الخَلوةِ .. تنفلِتُ الأحاسيسُ، وتتبعثرُ التّعابيرُ
وهكذا هو الّلقاءُ بالحَبيب .
فانفَلِتْ من ذاتِك، واعبُرْ إليهِ بنبضِ القلبِ.

انفُضِ الَّليلَ عن وجهِك
انفُضْ هالاتِ الذُّنوبِ عن بَصيرَتِك

ربّما تبدو مُناجاتُك مِثلَ قَطرةِ ندًى هائِمةٍ ...
لكنَّها في القيامِ تتضاعفُ حتّى تلتَقطَك من الجَدْبِ وتَسقيكَ النَّماءَ.

تَكبُرُ
بقَبُولِ اللهِ
فإذا هي جَارفةٌ.

لذا قال أحدُ السّلفِ : ( إنّي لأفرحُ بالليلِ حين يُقبِلُ )
ففيهِ فقطْ يمكنُك "مُلامَسةُ السّماءِ بِقلبِك "

يا بُنيّ .. رَمضانُ جاءَ كيْ ينجوَ بك من نَفسِك
كيْ يَمنحَك العِتقَ مِن ذاتِك ، مِن استغراقِك في ضجيجِ الكونِ
من نارِ تيهِك وضَياعِك .. مِن احتراقِك كلَّ يومٍ بعيداً عن اللهِ.

رمضانُ يَعبُرُ بك مُحيطاتٍ مِن البُعْدِ
فأعمارُنا إنّما هي صَدْعُ ضوٍءٍ صغَيرٍ بين صَمتينِ وعَتمَتينِ
وفي رَمضانَ يهَبُك اللهُ بقاءً لا غيابَ فيه.

يا وَلدي.. أنتَ تقفُ على عَتبةِ الأبديّةِ، على عَتبةِ الجنّةِ
يومَ تَجِدُ لذّةَ المُناجاةِ مع اللهِ
.

قالَ التّلميذُ: إنّي لأقومُ في رَمضانَ ولكنْ..
ليس كما وصفْتَ يا شَيْخي !


قال الشّيخُ: سأصدُقُكَ وربّما سأوجِعُكَ
يا ولدي.. إذا لم تَجدْ للعملِ حلاوةً في قَلبِك، وانشراحًا في صَدرِك
فاتّهِمْ نفسَكَ ..
فإنَّ الربَّ تعالى شَكورٌ
حاشاهُ أن تلتقيَ بهِ ثمّ لا يُكرمُك
الذّنبُ هوَ الحِجابُ !

هل تَدري أنّ بعضَ أحبارِ بَني إسرائيلَ قال :
يا ربِّ .. كَم أعْصيك ولا تُعاقبُني؟
فقيل له :
كم أعاقبُك وأنتَ لا تدري؛ أليسَ قد حرمْتُك حلاوةَ مُناجاتي.
وكانَ ذلك يَكفي.

يا وَلدي .. الصّيامُ مَدرسةٌ، والقِيامُ بعضُ معانِيها

فلا تَغفَلْ !​

رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ العاشرة


ˇ▽˙ˇ˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙
​​​
قالَ الشَّيخُ سائلاً: هلْ بدَتْ عليكَ آثارُ الشّهرِ ؟!
التصَقَ التِّلميذُ بِثيابِهِ و ودَّ لو تَوارى عن عينِ الشّيخِ وقالَ :
أَنّى لي مَعرفةُ ذلكَ !؟

فابتَسمَ له العالِمُ وقالَ :
يا ولدي .. النّحلُ يَهتدي إلى الرَّحيقِ ..
فرائِحةُ الزّهرِ لا تُخْطِئُها سِلالُ النَّحلِ ولو بدا أثرُ الشَّهرِ لَـلَمحْتَ ذلك
فالنّورُ إذا تلأْلأَ لا يَفنى !
ألمْ تَعلمْ .. أنّ ثمراتِ الطّاعاتِ عاجلاً ؛ هي بَشائرُ العامِلين

إنّ لياليَ رمضانَ يا بنيّ هي ليالٍ بيضاءُ "مُسَلّمَةٌ لا شِيَةَ فيها"
تُخبرُك من شدةِ نورِها على أيِّ قارعةٍ أنتَ !
هل أنتَ مِنِ أهلِ "يتَذبذَبونَ" أمْ أنتَ ممن "صدَقوا ما عَاهدوا اللهَ علَيه"

يا ولَدي .. مَعرفتُك مَنْ أنتَ
هي قاعِدتُك التي لا تَنهدمُ.


لقد كانَ " ابنُ حَزمٍ " العالمُ الأندلسيُّ الموسوعيُّ
يُحصْي مَعايبَه ، ويَعُدُّ أخطاءَه مِن الحَوْلِ إلى الحَوْلِ
وكان ذلك مِن معرفتِهِ بِنفسِهِ !

نحنُ اليومَ تُشَكِّلُنا ضَوضاءُ الواقِعِ
تبعثرُنا .. أو تهدمُنا .. أو تقتلُ بعضَ ما فينا
حتّى كأنَّنا مَن قِيلَ فيهم
( كمْ مرّةٍ مِتُّ ولمْ أنتَبِهْ ) !

قُلْها لِنفسِكَ :
كمْ مرّةٍ مِتُّ .. يومَ أذِنتُ للعَجزِ أن يقطِفَ أحْلامي !
كمْ مرّةٍ مِت ُّ.. يومَ أهدرْتُ ذاتي في سِباقٍ ليسَ لخيلي !
وكمْ مرّةٍ مِتُّ .. يومَ استعَرْتُ ريشَةَ غيري ؛ فرَسمْتُ بها بقيّةَ عُمْري !

ثِقْ أنّ لليقظةِ ضَريبةً
لكنَّها أهونُ مِن رائحةِ الموتِ المُتكرِّرةِ؟
لذا جاءَ رمضانُ
فرمضانُ في الخَلوةِ يبعثُكَ .. يوقِفُكَ في الصّمتِ
وأوّلُ الطّريقِ يا ولدي
الصّمتُ
ثمْ يكشِفُ لك رمضانُ صوتَ أعماقِكَ ، ودَبيبَ مَلامِحِكَ من الدّاخلِ !
تُصَفَّدُ الشّياطينُ فيه
فنكتَشِفُ أنّ عدوَّنا يُمسي ويُصْبحُ فينا !

حذارِ يا ولدي .. أنْ تموتَ وأنتَ واهِمٌ
أنَّ بعضَ الغبارِ فقطْ عَلِق بِك !

حذارِ أن تموتَ دون خَلوةٍ ؛ تحْصي فيها شُموعَك
أو ربّما عددَ انطفاءاتِكَ !

هذا الضّجيجُ البشريُّ مِن حَولِك
يُشبِهُ الطّوفانَ ..
يَقودُك مِن حيثُ لا تَدري !


ثقْ أنّهم يصنعونَ بينَك وبينَ السّماءِ فَجوةً
وقـدْ كان بينَك وبَينَها لو انتبهْتَ ؛ خطوةٌ !
لذا
يا ولدي ..

ادفِنْ وُجودَك في أرضِ الخُمولِ
فما نبتَ ممّا لمْ يُدفنْ ؛ لا يتمُّ نَتَاجُهُ .. ولنْ يتمَّ نَتاجُهُ !
إنّ شَجرةَ " أصلُها ثابتٌ وفَرعُها في السَّماءِ " تكونُ لمن تجذّر طويلاً
واعتكفَ على ذاتِه حتّى طالتْ قامَتُهُ و قَبَضَ السّحابَ !

يا بنيّ ..
اظهَرْ في رمضانَ في حِليةِ أسمائِهِ عبداً للهِ ربانياً
ألمْ تسمعْ عيسى في المَهدِ يقولُ :"إنّي عبدُ اللهِ"
ولا تَظهرْ في حِليةِ ذاتِك وتُشابِهِ الشّيطانَ يومَ قالَ :"أنَا"
ولنْ تَبلُغَ ذلكَ حتّى تبلُغَ أنْ تعرفَ نفسَكَ وتبلغَ معنى "ما كذبَ الفؤادُ ما رأى"
فالقلبُ المصْقولُ
تنعكسُ فيه الحَقائقُ جليّةً
!

هل تَدري .. كمْ هو الفارقُ بينَ أن يكونَ همُّك
أن تكونَ بينَ العبادِ مَرئيّاً .. وبينَ أنْ تصيرَ عِند اللهِ مَرضيّاً ؟!
الفرقُ .. هو بينَ هُوّةِ الضَّياعِ وقِمّةِ الاكتمالِ !

ثِقْ يا بنيّ .. أنّ الذين يهتَدونَ للخَرابِ الذي في داخِلِهم ؛ همْ مَن يَكتَمِلون ..
ورمضانُ جاءَ يُخبرُك .. وينهي لك مَعاذيرَك ..
ويُبقي الحَقيقةَ لك ناصِعةً

أنّ ثمّةَ حُطامٍ كثيرٍ فينا !
لا تَعتذرْ لنفسِك ولا تَتشبِّثْ بالخُيوطِ الواهِنةِ
تِلكَ الخُيوطُ هي حبالُ مِشنقَتِك !

قالَ التّلميذُ :
دُلَّنِي كيفَ أعرِفُ مَقامي عندَه ؟!
قالَ العالمُ الربانيُّ :
إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ في ماذا يُقيمُك َ
فهو لا يُقيمُ أولياءَه إلا على مَدارجِ الوُصولِ.

يا ولدي ..

إنّ الخُذلانَ كلَّ الخُذلانِ أنْ تتفرّغَ من الشّواغلِ
ثمَّ لا تَرحلُ إليه !
وتَقِلُّ عوائِقُك ثمّ لا تُهَروِلُ إليه !


قال التّلميذُ : لكنّي فعلاً مَشغولٌ !
قال الشّيخُ :
أنت مُزْدَحِمٌ ولستَ مشغولاً
انفُضْ عنكَ تُرابَ الغِيابِ عنْهُ وسَتتَسِعُ لك الأوقاتُ والخطواتُ ..
ويَمُدُّك بسعيٍ ؛ تَفهمُ معها المَعنى الجَليلَ ؛ ( وكنتُ رِجْلَه التي يَمشي بها ) .. تبارَكَ في
عليائِهِ !

قال التّلميذُ :
فما إشارةُ أوّلِ السَّيْرِ ؟
قالَ الشَّيخُ :
كانَ السّلفُ الصّالحُ يقولون:
( ما أقبلَ عبدٌ بقلبِهِ إلى اللهِ .. إلا أقبلَ اللهُ بقلوبِ المؤمنينَ إليهِ ؛ حتّى يرزقَهُ وُدَّهم ) ..
وتِلكَ هي الإشارةُ .. فتنبّهْ .
​​​
 


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الحاديةَ عشرةَ


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قالَ التلميذُ : لمّا خلقَ اللهُ القلمَ قالَ له :
اكتبْ كلَّ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ ..
ثم جفَّ القلمُ ورُفِعَتِ الصُحُفُ !
ثمّ بَلَغَنا أنَّ عمرَ كان يدعو
( اللهمَّ إنْ كنْتَ كتبْتَنِي عندك شَقيّاً
فامْحُنِي بقدرتِكَ،وأثبتْنِي عندك سعيداً )

فهلْ تتغيّرُ الأقـدارُ يـا شيخي ؟

فأجابَ العالِمَ الربانيُّ :
أوَ ما بَلغَكَ أنَّ الدُّعاءَ يُصارِعُ الأقدارَ !
وأنّ
ثَمّةَ دعاءٍ من قوّتِهِ ، وكثرةِ إلحاحِ صاحِبِهِ ، وشدّةِ توسُّلِهِ
يَغْلِبُ أقداراً تنزَّلَتْ ، و شارفَتْ على الوقوعِ !
يا بُنيَّ ثمّةَ من يُتقنونَ الدّعاءَ بكثافةٍ حتى تتنادى لدموعِهم ملائكةُ العَرْشِ !

يـا بُنيّ ..
إنّ الدعاءَ بعضٌ من إرادةِ اللهِ
فتعلّمْ كيفَ تفِـرُّ من قَـدَرٍ يُرهقُك إلى قَدَرٍ يرحمُكَ ..
تَعلَّمْ كيفَ تَفِرُّ من رماديّةِ الأيامِ ؛ إلى ألوانِ الفرحِ ومـواسمِ الشـتاءِ ..
ولن يكونَ ذلك إلا إذا عَلَّمْتَ رُكبتَيْكَ كيف تجثو في الأسحارِ !

يا بُنيّ ..
في لحظةٍ ما .. ربّما تُبعِثرُ الريحُ مِنْ حولِك كلَّ شيءٍ .. حتى سقفَ بيتِك
لكنّها في الحقيقةِ ؛ تكون مأمورةً بذلك؛ فهي تعيدُ ترتيبَ كلِّ شيءٍ لك !

إنّ كلماتِك في السُّجودِ تشتدُّ كلَّ ليلةٍ كَسِياجٍ
حتى يتطاولَ لك البُنيانُ ..
وفي لحظةِ اكتمالٍ .. سيبدو لك جليّاً
أينَ كانتْ تذهبُ تلكَ الأنّاتُ وتلكَ الدعواتُ !

يـا ولدي ..
ثقْ أنَّ الدُّعاءَ يعيدُ ترتيبَ المشهدِ
فاغتنمْ شهرَ رمضانَ​





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثانية عشرةَ


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قالَ الشّيخُ: وقد سبَقَتْ أنوارُهُ حُروفَـهُ، وبدا البِّشرُ على وجهِهِ
ما أعذَبَ ليالي رمَضانَ
وما أعذَبَ الحديثِ مع اللهِ
وما أعذَبَ طَرْقَ الأبوابِ


يا وَلدي ..
إنّ مَنْ يُدمنُ قرعَ البابِ يُوشَكُ أن يُفتحَ له
فَقِفْ على سِجادتِك
وتناولْ ناصِيةَ الأمنياتِ
دَانيةً لك ظلالُها.

ألقِ دُعاءَك إنْ خِفْتَ أمراً مثلَ عَصا موسى "تَلْـقَـفُ ما يَأْفِكُون"
ألقِ دُعاءَك في الأرضِ اليَبابِ ؛ تَنبَجِسُ لكَ "اثنتا عشرةَ عَيناً "
على قَدْرِ ما قدّمْتَ في اثَنتَي عَشرةَ ليلةً
رَحلْنَ إلى اللهِ.

رَمضانُ يا ولدي

دُعاءٌ يَتبعُهُ عَمَارٌ.
دُعاءُ رمضانَ هو عَمَارُ البيوتِ، وَعمارُ الأيامِ، وعَمَارُ الأحوالِ .
لمْلِمْ إحساسَك؛ رُبّما كان مكسوراً
لَملِمْهُ بالدّعاءِ !

ينتهي الغَبَشُ ، و نَصحو مِن غَيبوبةِ الأحلامِ
إذِ الدّعاءُ في رمضانَ أقوى مِن كلِّ الأبوابِ المُشرَّعةِ للأحزانِ !

ما أعذبَ رَمضانَ
إذْ يجعلُ لكَ مع الغَيمِ المُمطرِ مِيعاداً

ما أعذَبَ ليالي رَمضانَ
تُشرِقُ بها وقد كنْتَ قِنديلاً على وشَكِ الانطفاءِ؟

تعلّمْ صَلاةَ الاستسقاءِ في رَمضانَ
تعلّمْ كيف تَنهمرُ السّماءُ بالدّعاءِ عليكَ مِدراراً .

تابِعْ .. لا زالَ رمضانُ في أّولِهِ
انفُضْ عن كاهليْكَ الذّنوبَ بِتوبةٍ نَصوحٍ
ثمّ انظُرْ كيفَ يذوبُ المِلحُ من أيامِك !
ألمْ تسمعِ السَّلفَ يُخبرْكَ عنه أنَّه يقولُ:
"
ادعُوني بلا غَفْلةٍ .. استَجبْ لكُم بلا مُهلةٍ " !

لا يُفسِدُ الدُّعاءَ يا ولدي إلا الغَفْلةُ !
لذا افتَتِحْ دُعاءَك بحسنةٍ خفيّةٍ .. بتوبةٍ عَميقةٍ
واذكرْ قولَ السّلفِ :
( مَثَلُ الذي يدْعو بغيرِعملٍ .. مَثلُ الذي يَرمي بغيرِ وَترٍ )

مثلُ رَمضانَ يا ولدي
مثلُ نهرٍ يَصبُّ في قلبِكَ .. جدولٌ صغيرٌ رقْراقٌ ينسابُ بالطّهرِ فيكَ ..
فاجلسْ على ضِفافِ ليالي رَمضانَ واستَمعْ له
إنّه جاءَ كي يهديَك أسرارَ العطاءِ
لو تعلَّمْتَ كيف تغيبُ في الدُّعاءِ.

قلْ للهِ في دعائك :
كم مرّةٍ زَللْتَ !.. وكمْ مرّةٍ فَشِلْتَ !.. وكمْ مرّةٍ تُهْتَ!
وكمْ أنتَ مُحتاجٌ لِعينه التي لا تَنام !
قلْ له: إنَّ يَدَكَ تَرتجفُ .. وعاجزةٌ عَن نزعِ التّرابِ عن بقايا رُوحِكَ ..
وانهمِرْ له بالدّمعِ ..
دَمعتُك تلكَ ستتدفّقُ كثيراً وتمورُ موراً وسيكون صُبحُك نظيفاً !
قلْ للهِ إنّ يدَكَ عاجزةٌ عن بيَعةٍ ليس فيها للشيّطان نصيبٌ
قلْ له إنَّ عُمرَكَ مليءٌ بالهَزائمِ !
قُلْ له كمْ مرّةٍ سجَّلتَ تاريخَ موتِك يومَ نخرَ الشّيطانُ في قلبِكَ مراتٍ كثيرةً !
مَرِّغْ وجهَكَ في تُرابِ الذّلِّ وقلْ له
نَبذتْنِي ذُنوبِي في العَراءِ
فأَعزَّني يا مولايَ بِطاعتِكَ عِزّاً لا يَفنى !

يا ولدي .. اسألْهُ تَذلُّلاً يُعطِكَ تَفضُّلاً
واذكُرْ مقامَ إخوةِ يوسُفَ إذْ قالوا:
" يا أيُّها العزيزُ مَسَّنا وأهلَـنا الضُّرُّ وجِئْنا ببضاعةٍ مُزْجاةٍ فَأوْفِ لنا الكَيلَ وتصدّقْ عَلينا"
ردِّدْها .. وابكِ فقرَك بينَ يديهِ !

يا وَلدي ..
دُعاءُ رمضانَ ينتَشِلُكَ مِن غَيابةِ الجُبِّ
دعاءُ رَمضانَ هو ما تُخَبِّئُ في سِلالِك لسَبعٍ شِدادٍ

رَمضانُ لو فَقِهتِ الأُمّةُ كان عُمُرُها منه أعواماً
فيها يُغاثُ النّاسُ وفيها يَعْصِرون .

قال التِّلميذُ : كيفَ أسْتَدرِكُ ما مضى مِن رمَضانَ ؟
أخشَى أنّي فَرَّطْتُ !

ردَّ الشّيخُ :
اعلَمْ أنّ عُمْراً ضُيِّعَ أَوّلُه حَرِيٌّ أن يُحفَظَ آخِرُهُ

فاحفَظْ إذنْ ما بَقيَ مِن عُمرِكَ من رمضانَ
احفَظْه بِوَرعٍ يرفَعُ لك الدّعاءُ
فقد قالها السّلفُ : ( بالوَرعِ عمّا حرّمَ اللهُ يَقبَل اللهُ الدّعاءَ)

رَمضانُ هو بُحورُ الفَضْلِ .. وماعدا ذلك زَيْفٌ
ومَا على الشاطئِ بعدَ رمضانَ غيرُ الزَّبَدِ .



رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثالثة عشرة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙​​
ما أعذَبَ الجنّةَ يا شَيخي
قال الشَّيخُ .. وماذا رأيْتَ مِنها ؟
قال التَّلميذُ : رأيْتُ
رمضانَ
رأيْتُ انفسِاحَ القَلبِ بالنُّورِ .. رأيْتُ فَرحةَ العافِيةِ مِن الذَّنبِ
رأيْتُ بعدَ الدُّعاءِ قِبْلتي بعدَ أنْ كنْتُ قدْ تشَظَّيْتُ في ألفِ اتِّجاهٍ !
رأيْتُ الملائِكةَ حَولي مِثلَ أسرابِ الحمامِ تَهمسُ لي
كلّما أمطرْتُ بالدُّعاءِ مكروباً " ولكَ بالمثلِ"
أكادُ أسمَعُهم وأرى السّنابلَ بالأُجورِ مُثقلةً

قالَ الشّيخُ :
صدَقْتَ.
نحنُ نَزدحمُ طُوالَ العامِ بالخَطايا فيأتي رمضانُ مِثلَ صُبْحٍ عَتيقٍ
يوقِفُ تناثرَ العَتمةِ فينا .. ويَفتحُ لنا طاقةَ الفَرجِ !

أوّاهُ يا رمضانُ
(يا بابَ ميلادِنا المَوصولِ ) بالسَّماءِ

قالَ التِّلميذُ : انصَحْنِي
فقالَ الشّيخُ : قدِّمْ رمضانَ بينَ يديْ العَامِ يَكفِكَ اللهُ كلَّ سُوءٍ !
الدُّعاءُ في رَمضانَ صَدىً يَرِنّ في بَقيةِ عُمرِك
يُلوِّنُ لك أيامَك.

لاشَيءَ يَسقطُ من هَمساتِك كلُّ الهَمساتِ المَقبولةِ تُحلِّقُ نحوَ سِدرةِ المُنتهى
تُدندنُ باسمِكَ حَولَ العَرشِ فيَسمعُه الملأُ الأعلى فَتقتربُ مِنك الجنّةُ
و تَقتربُ مِنك غاباتُ النّورِ البيضاء
بعضُ الدُّعاءِ
يجيدُ الصّعودَ إلى عوالمِ الإجابةِ


قالَ التّلميذُ : عَلِّمني فِعلَ ذلكَ !
قالَ الشَّيخُ : افْهَمْ عَنّي ما قالَهُ السَّلَفُ:
( إنّ اللهَ لا يقبَلُ إلا النّاخلةَ مِن الدُّعاءِ )
..
أيْ التي نَخَلَها القلبُ ؛ حتّى كانتْ أجوَدَ ما صَعدَ إلى اللهِ !
إيّاكَ أنْ تُرسِلَ صَوتَك ملوثاً !
إيّاكَ أن تَسيرَ إلى اللهِ حافِياً !
إيّاكَ أن تُرسلَ دُعاءَك مِن بقايا ما رسَب فيكَ
من السُّمعَةِ أو الرِّياءِ ، أو ماضي الذُّنوبِ !
لَمْلِمْ كلماتِك وأحسِن أنّاتِها وابعَثْ مِنها ما يَليقُ باللهِ !
واذكُرْ قولَ حُذيفةَ بنِ اليَمانِ :
ليأتيَنَّ على النّاسِ زَمانٌ ؛ لا يَنجو فيه إلا من
دَعا بدُعاءٍ كدعاءِ الغريِقِ.
دعاءُ رُوحٍ تتَلوّى حولَها أمواجُ البحرِ .. وتحصي لها ما بقيَ من زمنِها
ويُنذرُها الطّوفانُ بالهَلاكِ !
رُوحٌ تستغيثُ مِن أخمصِ جِراحِها وتَهُزُّ السّماواتِ بِـ
" يا اللهُ .. لا تَجعلْـني غنيمةً للشيطانِ .. لا تجعلْـني غنيمةً للفَناءِ
لا تجعلِ السعيَ هباءً منثورا
"

هل تَرى نفسَك على حافّةِ الموتِ .. على حافّةِ الضّياعِ ..
على حافَّة الغِيابِ .. فتَهرَعُ إلى الدّعاءِ
ترجُوهُ أنْ لا يَخذُلَك !
تَرجُوه أن يَمُدَّ يدَك بحَبلِ النّجاةِ
تتوسّلُ له أن يَرحمَ هَشاشةَ أقدامِك فقد شارفَتْ على السُّقوطِ ..
ذاكَ يا وَلدي هو دعاءُ الغَريقِ !

ادعُ دُعاءَ مَن يثقُ أنَّ كلَّ شيءٍ بقُدرةِ الله
فهو القائِلُ:" يَمحو اللهُ ما يَشاءُ ويثْبت "
حتّى مدُّ الأعمارِ مِن ذلك
إذْ قدْ يكونُ طُولُ العُمُرِ في علمِ اللهِ مشروطًا بدعاءٍ مُجَابٍ
فتنبَّهْ لذلك !

وعامِلِ اللهَ بالأَدبِ في الطّلبِ
فقد قالَ السَّلَفُ :
( إذا بدأَ الرَّجلُ بالثَّناءِ قبلَ الدّعاءِ فقدْ وجَبَ
وإذا بدأَ بالدُّعاءِ قبلَ الثّناءِ ؛ كانَ على رَجاءٍ )

ولا تَعجَلْ !
فأفضَلُ الدّعاءِ هو الإلحاحُ على اللهِ
ربّما تُثقلُـنا فَجيعَتُنا ..ويُرهقُنا الخَوفُ ..
فإذا فاضَ لسانُك بالطّلبِ
فاعلَمْ أنَّ
اللهَ يُريدُ أن يعطيَكَ مفاتيحَ الدَّهشةِ
يريدُ أن يَسكبَ لك الإجابةَ ؛ كيْ تنْسابَ في أيامِك
و احْرِصْ على دُعاءِ الفّريضةِ
فقد قالَ السّلفُ :
(اجعلوا حَوائجَكم الّلاتي تهمُّكُم في الصلاةِ المَكتوبةِ
فإنّ الدّعاءَ فيها، كفَضلِها على النّافلةِ
)

دوماً
ابحثْ لك عن سَطرٍ في سِجلاتِ المؤمنين
لا تُضِعْ وَجهَك من صفوفِ صلاةٍ
رُبما تُشرقُ وُجوهُ الأولياءِ الأخفياءِ عليك ويُستجابُ الدُّعاءُ
أمَا سمعْتَ أنّه
( ما مِن أربعينَ، يمُدّون يَدَهم إلى اللهِ يَسألونَه
لا يسألونَه ظُلماً، ولا قَطيعةَ رحمٍ ؛ إلا أعْطاهم اللهُ ما سَألُوه )


لا تُغادرْ دُونَ دُعاءٍ
ربّما بكرامةِ تَقيٍّ تَندملُ الجِراحُ وتُورِقُ الدّعواتُ
بعضُ الأكفِّ إذا ارتفعَتْ ؛ يَعلَقُ بها النّورُ فينتَثرُ على من يُجاورُها
يتسَلّلُ الفَجرُ مِن بينِ أصواتِهم .. فلا تُغادرْهم دونَ أن تلتقِطَ منهم شُعاعاً !

قال التِّلميذُ :
عَلّمْني أجملَ الدّعاءِ !
ردَ الشّيخُ :
لو عَلِمْتَ ما في الرّؤيةِ لأدركْتَ أنّها فوقَ الجنّةِ
إنَّ العبدَ إنْ كانَ ذا اتّصالٍ أبصَرَ في العـُلا النّورَ مُتلالياً

يا وَلدي .. إذا هشَّ رمضانُ الليلَ مِن عينَيكَ .. اتّسَعَتْ لك الرّؤيةُ ، وقارَبْتَ مقامَ
" أذِقْنا لذّةَ النَّظرِ إليكَ "
فأكثِرْ مِن قولِك : وأذِقْـنا لذّةَ النَّظرِ إلى وجهِكَ الكريمِ
فذاكَ هو زمنُ الجنّةِ الذي ما خَطرَ على قلبِ بشَرٍ !


لا تتأخّرِ الليلةَ ..
نظِّفْ مَوطنَ الدُّعاءِ فيكَ
نظِّفْ لِسانَكَ مِن جِراحاتِه وآثامِهِ
نَظِّفْ قلبَكَ مِن نِكاتِهِ ..
ثمّ ارتشِفِ الدّعاءَ واغتَسِلْ بالوَصلِ
وقُل : يا واصِلَ المُنقطعين أوصِلْنا إليكَ.​


رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الرابعة عشرة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


قالَ الشّيخُ في مجلِسِه : ماذا يفعلُ بنا رمضانُ ؟
إنَّه يُعلِّمُنا أنّ فينا طاقةً مَدخورةً
لكنَّنا نحنُ منْ نَجعلُها طَوالَ العامِ طَاقةً مَهدورةً !

انظُرْ إلى نفسِك وأنت تَبْلُغُ أعلى القُرْبِ ؛ وقد كنتَ قُبيلَ رمضانَ في هُوّةِ الضّعفِ !
نعيشُ طوالَ العامِ على السّكونِ في انتظارِ شيءٍ ما ..
وقد كنّا قادرين أنْ نجعلَ لخَطْوِ أقدامِنا صدىً في الجنّةِ مثلَ بلالٍ !

رمضانُ يعلِّمُكَ كيف تَفِرُّ من دربِ العطِشِ إلى بابِ الرّيانِ
أتدري ما مَعنى الرَّيانِ ؟!
الرّيانُ في الُّلغةِ / هو المُمتلِئُ .. هو مَنِ ارتَوى من كلِّ شوقٍ
هو من شَبِعَ من كلِّ فضْلٍ ..
وهو العُودُ الذي اخْضرَّ حتى صارَ ناعِماً مِن كثرةِ الرَّيِّ
و دلالِ الفَضلِ ، وجمالِ السُّقيا !

فيا للهِ ..
حينَ جعلَ بابَ الرّيانِ مدخلَ الصّائمين لحِنّاءِ الفرحِ وشلّالاتِ الأُنْسِ


قال ﷺ : ( إنَّ في الجنةِ باباً يُقَالُ له الريّانُ ، يدخلُ منه الصّائمون يومَ القيامةِ
لا يدخلُ منه أحدٌ غيرُهم ... فإذا دخلوا أُغْلِقَ فلم يدخلْ منه أحدٌ )
هل تَفهمُ مَقصِدَ نبيِّكَ من الحديثِ ؟
هل تدري أنَّه يُخبرُك أنَّ العَبدَ يَقبِضُ ميراثَه في الآخرةِ ..
يتدثّرُ بجوعِه ، ودَمعِهِ وصَمتِهِ ، وفَقْدِهِ ، وكلِّ أسمالِ الوَجَعِ والجُوعِ
ويُصبحُ بها نَجمةً في الفِرْدوسِ الأعلى !
ووحدَهُ المؤمنُ من يُتقِنُ صِناعةَ الميراثِ !

تمسكْ برمضانَ ..
تمَسّكْ بكلِّ النورِ ..
تمسّكْ به ؛ وانْفُضِ الخَطايا عن أصَابِعِك
سيَثبُتُ الشهرُ حينَها في يَدِك ولنْ تسقطَ !

تعلّمْ كيف تَقْبِضُ على ذاتِك .. على وُقوفِك بينَ يديه .. على صوتِ القرآنِ دوماً في الليالي !
احْفِرْ في قلبِكَ بعُمْقٍ .. ستُفاجَأُ أنّ فيك حقولاً من الياسَمينِ المَخبوءةَ

أنّ فيك ربيعاً لكنّه محرومٌ من ضَربةِ فأسٍ تَنبِشُ عنه غَوائِلَ الذّنوبِ !
الذّنبُ عجْزٌ .. الذّنبُ ضَعفٌ ..

رَمضانُ يُطَهِّرُكَ .. ثمّ يُحرِّرُك .. ثمّ يَكشِفُ لك أنَّكَ لو شِئْتَ لكُنْتَ من أهلِ
"السّابقون السّابقون أولئِك المُقرّبون"

رَمضانُ يقولُ لك: حذارِ أنْ تموتَ عاجزاً .. حذارِ أن تموتَ بقامةٍ مَحنيةٍ ..
بل مُتْ سامقاً.

يا ولدي ..
لقد كانَ الصّالحون يستَحوُن من اللهِ أن يكونَ يومُهم مثلَ أمسِهِم !
يَتفقَّدُونَه .. فيضعونَ فيه و لو مِثقالَ شَعيرةٍ حَبّاً ، ليَرجَحَ ميزانُ اليومِ عن ميزانِ الأَمسِ !
رُبّما تبدو الحبّةُ خفيفةً
لكنَّ النّهارَ بها أصبحَ مختلِفاَ ولو قليلاً !
فكيفَ كان حالُهم مع زمنٍ هو من أَحَبِّ الأزمانِ إلى اللهِ ؟!
لقد كان الحياءُ في نفوسِهم يَشتَدّ أن يَلقُوا اللهَ بصحيفةٍ..
تُشابِهُ في ملامِحِها صحيفةَ العامِ الذي مضى .. أو تُقاربُهُ ..
إذْ
للقُرْبِ خطواتٌ لا يجوزُ أن تَتكررَ !
لذا كانوا يُردّدون :
أَشعِلُوا السُّرُجَ في لياليكُم
عسى أن تُشْعِلَ لكم أَنوارَكم على الصِّراطِ .

لقد كانَ السّلفُ يعلمون أنَّه لكلِّ قرنٍ سابقٌ
ولكلِّ رمضانٍ سابقٌ .. ولكلِّ مِضمارٍ سابقٌ
فكانوا يوُصُون قائلين:
إذا استطعْتَ أنْ لا يَسبِقَك إلى اللهِ أحدٌ فافعَلْ.
و لَئِنْ نازَعتْـك نفسُك فَقلْ لها:
لا مُستراحَ للعبدِ إلا تحتَ شَجرةِ طُوبى

قالَ التّلميذً :
كيفَ أّصِلُ ؟!

ردَّ الشّيخُ :
منْ صَحَّ فِرارُه إلى اللهِ ؛ صحَّ قرارُهُ عندَ اللهِ !
لا يَتقلَّبُ إلا المَخذُولونَ ..
منْ نبتتْ في قلوبِهم أعشابٌ سوداءُ ..
وقدْ قالَها ابنُ القيمِ :
(حالُ العبْدِ في القبرِ ؛ كحالِ القلبِ في الصّدرِ
سِجناً ونعيماً وفُسْحةً )

كادَ التّلميذُ أن يهتزَّ للكلماتِ
إذْ في الصدرِ ضِيقٌ تلوحُ أعلامُهُ بينَ الحِينِ والآخرِ
أيكونُ هذا حالي في القبرِ يا شيخُ ؟!

قال الشّيخُ :
لقد دلَّـنا الصّالحون من قبلُ حينَ قالوا

اصحَبِ اللهَ إليه .. تَصلْ إليه !
استغرِقْ في قولِهِ :" إنّي مَعكُما أسمعُ وأرَى "
إن شئتَ أن يكفيَكَ عجْزَك .. فبها كُفِيَ موسى أمرَ فِرعونَ


إذا عَرَاكَ أمرٌ فَكِلْهُ إليه
يكْفِكَ عُقباهُ وعَاجِلَتَه

هو لما عَـرَاكِ خيرٌ من فِكْرِكَ وهو على ما طَرَقَكَ أقوى من دَفْعِكَ
لا يُعجِزُهُ إصلاحُ نفسِكِ إنْ توقفَتْ عنِ الصعودِ المتخاذلِ.

يا بنيَّ ..

اصحبْ رمضانَ في عمرِكَ
و توقفْ عن مغادرتِهِ كلَّ عامٍ





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الخامسة عشرة


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙


في الزّمَنِ المُبارك نَشْتَمُّ في الأرضِ رُوحانيةً عَجيبَةً
كأننا نَسمعُ دَبيبَ الملائكَةِ وهيَ تلتَقِطُ الحَسَنات !

تَلتقطُ الآياتِ مِثلَ الشَّمسِ تَجري في الأفْواهِ ..
تَلتقطُ التَّسابيحَ مثلَ الفَجرِ يَمتَدُّ لنا على طولِ الصِّراطِ.
تَلتقطُ النَّجوى تَفيضُ بالوجْدِ ّ! كأنها بُرْدَةُ الحسنِ
يَبلغُ بعدَها العَبدُ أن يُذكرَ في المَلأِ الأعْلى !

تَمشي الطَّاعةُ في عوالِمِنا وتَختالُ في خواطِرِنا
ويعلو الشوقُ حتى يَكادُ العَبدُ أن يقولَ:"ربِّ أَرِنِي أنْظُرْ إلَيك"
هكذا كان حَالُ مُوسى بعدَ أنْ خَلا باللهِ ثلاثينَ يومًا.
عَرَجَ به الحبُّ إلى الأعَلى .. وشَفَّ الغَيبُ في روحه
حتى كادَ أن يَرى !

دَمَعَ التِّلميذُ ، و تحرّكَ منه الفؤادُ فقالَ الشيخُ :
يا وَلَدي .. هذا طَعمُ الخَبرِ فكيفَ بطعمِ النظَرِ !

قالَ التّلميذُ :
كيفَ السَّبيلُ إلى مقامِ مُوسى
كيف السبيلُ إلى الحُبِّ لله ؟!


قالَ الشيخُ :
اسمعْ قولَ السَّلَفِ:
إنَّ اللهَ يُخلِصُ لكم من بِرّه حَسْبَ ما خَلُصَ إلى قلوبِكم من ذِكرِه.
إن كنتَ تَشتاقُ إلى تَوَهُجِ الرّوح .. إلى عُرسٍ أزَليٍّ مَشهودٍ في الفِردوسِ الأعلى
فاعْمُرْ قلبَكَ بُذكرِه فهو القائلُ :"فاذْكرونِي أذْكُرْكُم"
يا للهِ يا بنيّ !
هنا آيةٌ .. هنا وَعدٌ إلهيٌّ
هنا سِرُّ انفتاحِ جهاتِ الكَونِ وبَواباتِ العُبورِ للخلُودِ
هنا حُقولُ القَمحِ تَظلُّ إيمانًا لك يُثمرُ ..

هنا اللهُ يَذكرُ اسمَك !
ويا للهِ بعدَها .. كيفَ يُشِعُّ النّورُ من عُمقِك !
ويا للهِ .. كيفَ يَغيبُ الحزنُ عن عمرِك !
ويا للهِ .. كيفَ يُطِلُّ الخيرُ في وجهِك !
يا ولدي لو سَمِعْتَ صَريرَ الأقلامِ في المَلأِ الأعلَى
وهيَ تكتبُ اسمَكَ عندَ ذِكرِكَ للهِ لَـطِرْتَ فرحًا !

قالَ التلميذُ :

من أينَ أبدأُ الذكرَ ؟!
قال َالشيخُ : من حيثُ قالَ اللهُ تعالى :
"إنّ الذينَ يَتلونَ كِتابَ اللهِ .. يَرجونَ تِجارَةً لنْ تَبُور"
لا شيءَ يَبلغُ العَرشَ أحبُّ إلى اللهِ من القُرآنِ
يَنبُتُ الزّنبقُ في صوتِ القارئِ ثمّ نراهَ جنانَ الخُلدِ ..
يَسهرُ الغيثُ على الزرعِ ؛ حتى يَموجَ به المَدى
و يُنادى على صاحبهِ في الجنةِ ذاكَ ما عليهِ عَكَفْتَ !

لقد كانَ ابنُ تيميةَ يُكرِّرُ الفاتحةَ كلَّ يومٍ حتى شُروقِ الشمسِ
يَفتحُ بها خزائنَ العَطايا و يَقفُ بها على كلِّ مشاهدِ الفَتح !
وكان يُرابِطُ على عشقِها.

قال التلميذُ :

كيف أنالُ نورَ القرآن وفتحِه ؟
ردَّ الشيخُ :
ألمْ تسمَعْه يقول :" لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون "
من اكتملَ في الجوهرِ أمْطرتْ عليه سَحائبُ المِنَنِ !

قالَ التلميذُ :
في قلبِي لهفةُ الوَصلِ فَدُلَّني على خيطِ النّورِ
دُلّـني كيفَ أبلغُ عَيشَ القرآنِ !
قال الشيخُ : انْهُجْ طريقَ السَّلفِ
اسمعْ وصيتَهُم .. يُوجِزُها لكَ أحدُهم في قوله :
" تَكبدْتُ القرآنَ عشرينَ عامًا .. وتَنَعّمْتُ به عشرينَ عاماً "
لقد جَاهدُوا بالقرآنِ "جِهادًا كبيرًا "
لقد أعْلنُوهَا ..
أنَّ القرآنَ رسائلُ أتَتْـنا من ربِّنا لنقفَ عليها في الخَلَواتِ !
لِـتَخْلُـقَ فينا مواسِمَ خضراءَ ..
لتُولِّدَ بها أمةً ؛ كانت تَحيا في شَوْكِ الزَّقومِ ..
لتُطلِقَ روحَ أُمّةٍ إلى أعراسِ التّاريخِ !

يا ولدي ..
لما مات أبو جعفرٍ القارئُ رُئِيَتْ في صدره فقط دونَ جسدِهِ غرةٌ بيضاءُ مثلُ اللبنِ
وكانَ ذلك نورَ القرآن ..
وكان يُقالُ فيه :
رجلٌ خالطَ القرآنُ لحمَهُ ودمَهُ .. رجلٌ أضاءَ صُبحُ القرآنِ على صدرِهِ !
فلمّا كُفِّنَ انتقلَتِ الغُرَّةُ بينَ عينيه كرامةً للقرآنِ الذي امتزجَ به !

يا ولدي .. بالقرآنِ لن يُدركَكَ الليلُ إنْ سَكبْتَ نورَه في قلبِك !
اغْمرْ روحَك فيه .. اغمِسْهَا في فَيضِه !
انظرْ إلى فقهِ السّلَفِ مع القرآنِ إذ يقولُ أحدُهم:
( إنّي لأتْلو الآيةَ فأقيمُ فيها أربعَ ليالٍ..
إقامَةَ مَن يدرِكُ ؛ أنَّه بالقرآنِ يَحرُسُ زحْفَهُ نحو الفِردَوسِ الأعْلى !)
يقولُ أحدُهم ؛ ( إنّي لأعيدُ الآيةَ إنْ تَلَوتُها غافلاً ؛ خَشيةَ أن يُكتبَ أجرُها لي مَنقوصًا ( !
ويقولُ آخرُ :
( آيةٌ لا أتفَهّمُها ولا يكونُ قلبِي فيها لا أُعدُّ لها ثوابًا ) !
يا اللهُ !!
هل كانَ هؤلاءِ من خَارجِ الزّمنِ البَشريِّ
أمْ أنّهم كانوا مقيمين على عِشقِ الأُجورِ فاستنارَتِ الأرْواحُ منهم
فأبصَروا كيفَ يكونُ إلى اللهِ المَسِيرُ !!

يا ولدي ..
كانَ " نافعٌ " إذا قرأَ القرآنَ ؛ يُشَمُّ من فَمِهِ رائحةُ المسك ِ..
فسُئِلَ في ذلكَ .. فقالَ :
إنّي ما أَمسُّ طَيبًا ولكنَّي رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّمَ - في المنامِ يقرأُ في فَمي
فَمِن ذلكَ الوقتِ أَشُمُّ المِسكَ "َ ..
كأنَّ القرآنَ بُستانٌ عَصَر كلَّ عِطرِه فيه !

تَعلّمْ كيفَ تَتلو القرآنَ بمزامِيرِ رُوحِك
لامِسْ به منكَ القَعْرَ إنْ شئْتَ أن يتفجَّرَ منه النَّهرُ
ما بينَ البدايةِ بالقرآنِ والخِتامِ في دَرجاتِ القُرْبِ
أن تُتقنَ عَيشَ الخَلْـوَةِ بالقُرآنِ ..لا هَـذَّ الألسُنِ بالقرآنِ .







​​​
 

رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ السادسة عشرةَ

ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙​


قال الشّيخ : وتمَّ فتحُ مكّةَ في رَمضانَ.
قال التّلميذ : عِبارتُك توحي بأنّ الفَتحَ سُبقَ بِمراحلَ فهلْ كانَ ذلك ؟!
اعتدَلَ الشّيخُ في مجلِسِهِ ثمّ قال :
فتْحُ مكّةَ سُبقَ بميلادِ أمّةٍ ...
إذْ كان القُرآنُ يستلُّ مِن عباءَتِهم خُيوطَ الجاهليّةِ .. ويَنْسُجُ لهم ثيابَ الانعتاقِ ..
ثياب تليق بفتح مكة !
كان يُنظِّفُهم مِن اعوجاجِ الذَّنبِ إذْ تَعلو الرّاياتُ فقطْ باستقامةِ أيدي الفَاتحين !
و كان النّبيًّ في مسجده يعْلمُ أنهم إذا استقرّتْ صُفوفُ الصّلاةِ في عُمقِهم
وثاروا على تقْسيمِ الجاهليةِ فإنَّهم سينتصبون للفتح صفّاً "كأنّهم بُنيانٌ مَرصُوصٌ"
إذْ مِن أولِ صلاةٍ كانَ مُحمّدٌ يهيئُ جَيشَ الفَتحِ لمكّةَ.

كانت مدينةُ مُحمّدٍ .. بيئة الإيمان الجديدة
مدينة ليسَ فيها ليلُ الشَّتاتِ .. واضِحةٌ مَعالِمُ القِبلةِ فيها "لا شَرقِيّةٍ ولا غربيّةٍ "
البُوصَلةُ تؤشِّرُ على العلوِّ ..
المِئذنةُ تُعلنُ فيهم
اللهُ أكّبرُ .. من ذواتنا ومتاعنا ومعاركنا الدنيوية
وكان القرآن يتنزل فيَلبسُهم ثيابَ " أحسَنِ تقْويمٍ "
وقد كانوا قبل القرآن كومة بشرية نَثرتْهُا معارِكُ الصّحراءِ
فعلّمَهم مُحَمّدُ أنّ الرّاياتِ المُنقسمةِ هي براكينُ مَوتِنا هي قُيودُ الأسرِ المُبكرِ
تتنزل الشرائع في المدينة وتصبح الخَمرُ مُحرّمةً عليهمُ لأجلِ عقولِهم ..
ومعها محرّمةً عليهم نِداءاتُ الجاهليّةِ .. محرّمةً عليهم :
يا لَلأوسِ .. ويا لَلخَزرجِ لأجلِ بقائِهم !

يا ولدي .. ينتفض وعيهم ويدركون
أن الذين تحدَّوا طَعناتِ يَهودٍ في المدينةِ
كانوا قادِرين على كسرِ هُبَلٍ ،والّلاتِ ، و مَناةَ الأولى !
وحدَها العُقولُ الهادرةُ على حِيَلِ بني قُريظةَ ، والنّضيرِ
كانت قادرةً على كتابةِ ألحانِ الفتحِ لمكّةَ !

يا وَلدي .. من يَفرُطُون عُقَدَ اليهودِ ؛ يَفرُطُون عُقَدَ الأصْنامِ !
وكلُّ سَيفٍ في صَدرِ أخيك طَريحٌ قابلٌ للكَسرِ
و تنتَفضُ لك البَيداءُ فقط يا ولدي إن صَقلْتَ سَيفَك للعدوِّ !

تُصفِّقُ الهزيمةُ لنا إذا تَباعدَتْ جُذورُنا
ويبتَعدُ بعدَها فتحُ مكّةَ !


تظلُّ جِراحُنا تنزِفُ على الرّمضاءِ بلا مقابل
إن صَهلَتِ الخَيلُ للعنصريّةِ أو لرايةٍ غريبّةٍ


كان النّبيُّ ﷺ يكتُبُ رُوايةَ الأسطورةِ يشدُّ سطورَها بخيوطِ الأُخوَّةِ
فيَغدو كلُّ صحابيّ منارةً في الذّلِ على إخوانِهِ ..
وفي انسيابِ العَطاءِ للجَسدِ الواحدِ
كانت جِنسيتُهمُ الإسلامَ والإسلامَ فَقط !

كان القرآنُ يتَغلْغلُ فيهم ؛ فيُخرجُهم مِن حظُوظِ نفوسِهم إلى حظِّ اللهِ
كيْ يُخرجَهُم من ضَميرِ الغائِبِ إلى عُنوانِ التّاريخِ !
وتكْتملُ حكاية النصر
إذ ظلّتِ الخيلُ تصهَلُ لقتالٍ مُنقىً من الغنائمِ !

راجِعْ سورةَ الأنفالِ
فقد كانتْ تهيئُ لفتحٍ نقيٍّ .. لفتحٍ غنيمتُه نصرٌ أو شَهادةٌ .
هاهم يولَدونَ في غزوةِ أُحدٍ مِن جِراحِهم .. مِن بَصيرةِ "قُلْ هوَ مِن عندِ أنفُسِكم"

يصنَعُ لهم القرآنُ وعياً ربّانياً
أنْ نقِّبُوا في تضاريسِ أنفُسِكم .. في كلِّ شَرخٍ
لا تُعِّلـقوا معاذيرَكم على جُذوعِ الآخرين !

بعدَ غزوةِ أُحدٍ .. ضاقتِ المسافةُ إلى فتحِ مكّةَ
يومٌ ردّدَ الصحابةُ فيه بشجاعةٍ
" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويعفو عن كثير"
ثمّ كانتْ غزوةُ الأحزابِ درساً عاصفاً
إذِ اشتدتِ الرِّيحُ .. واشتدَّ الجَمعُ عليهم .. واشتدّتْ المَعاولُ عليهم ..
وفهِموا...
أنّ مَن يريدُ أن يرسمَ للإسلامِ خارطةَ الكونِ
فليخرجْ من متاهةِ الجُرحِ .. من خارطةِ ضَياعِنا
إذْ أولُ الجُرحِ أن لا تَشُدَّ "عَضُدكَ بأخِيك"
أنْ تنقسمَ أحزاباً
وتشُدَّ خَصرَك بالكوفيّاتِ الملوّثةِ.
" لنْ يحمِلَ الفأسَ في الخندقِ إلا أَخوك
سيخذُلُـك اليَهودُ والمُنافقون
" !
لذا اقبِضْ على يد أخيك وعلى ثوبِ نبيِّك فقطْ !

و إذا رأيتَ مِعْوَلَك يكسِرُ صخرةً أعاقَتْك في الخَندقِ
ورأيْتَ مِن بريقِها مفاتيحَ "رُوما " تُهدَى إليك
وإذا رأيْتَ مِعولَـك في صَقيعِ الوحدةِ يُشعِلُ الشّراراتِ لتُضيءَ لك طُرُقاتِ الفَتحِ المَوعودِ
وإذا رأيْتَ رِيحَ الأحزابِ تعصِفُ بكَ وتَـقلِبُ القُدورَ مِن حوْلِك
وليس لك إلا عَباءةُ النّبيِّ، فتدثّرْ بها
ثمّ تدثّرْ .. ثم تذكّرْ
أنّ سُورة الأحزابِ .. هيّأَتْ لسورةِ الفتحِ
وأسرَجَتِ الخُيولَ لكلِّ قُصورِ كِسرى وفارِسٍ
لقدْ كانتِ الأحزابُ تخْلِقُ لهم اليَقينَ أنَّه "ما يَعْلَمُ جُنودَ ربِّك إلا هُو"
إنْ تمَسَّكْتَ بثيابِ النّبيِّ فقط .

يا ولدي .. لا يَكْنُـسُ الأسيادَ والأربابَ حولَ الكّعبةِ
إلا مَنْ تحرّرَ مِن السّبي لغيرِ اللهِ .. من عبوديّةِ الباطنِ !

كمالُ الوَعي ..
يومَ لا نرقصُ لطَاغيةٍ .. ولا نهتزُّ لبريقِ المناصبِ
يومَ نتطاولُ عن مائِدةِ الدّراهمِ .. يومَ لا تَركعُ الأعماقُ إلا لوَحي السَّماءِ.

عَشرةُ أعوامٍ ..
مِن دأْبِ التّربيةِ النبويةِ العَميقةِ .. عزَفَتْ بعدها سُيوفُ الصّحابةِ ألحانَ النّصرِ.
عَشرَةُ أعوامٍ ..
انقضَّ الجُهدُ النبويُّ فيها على بناءِ إنسانٍ ؛ كلُ واحدٍ كان يَنتهي في أمّة !
عَشَرةُ أعوامٍ ..
مِن مواجهةِ الذّاتِ التّفتيشِ على الصّغائرِ والكبائِرِ في سُورةِ التّوبةِ
حتى خَشِيَ عُمَرُ مِنها وظنَّ أنّها ستَفضَحُهُ وتُعلِنُ اسمَهُ في المُنافقين !
عَشَرةُ أعوامٍ ..
مِن الاغتسالِ ، والأَوْبَةِ ، والبِناءِ المَتينِ !
عَشرَةُ أعوامٍ ..
كانت كافيةً ؛ كيْ يرسُمَ بها مُحمّدٌ صلى الله عليه وسلّمَ خارِطةَ الفَتحِ لِمكّةَ.

تشتدُّ أقدامُ الفَاتحين، يكسِرون المَسافاتِ ..
الغيمُ خَلاخلُ النّساءِ .. إذْ علَتِ المَرأةُ في الزّمنِ النّبويِّ ؛ّ حتّى لا تُبصرُها إلا سَحاباً ..
شكَّلَـتْها سُورةُ النّور وعلَّمَتْها :
أنّ العِفّةَ تَصنعُ في ثِيابِها أمّةً .. تَصنعُ مِنها علوّاً لا يُدانى !

يشتَدُّ الجَيشُ وهو يُنْشِدُ :
جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ !
وفي قَرارةِ كلِّ مُقاتِلٍ .. أنّه لو لمْ يكُنْ هوَ الحقَ ؛ لمَا زهـَقَ الباطِلُ .





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ السابعة عشرةَ

ˇ▽˙
ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قال الشّيخُ : في مِثلِ هذهِ الليلةِ من تاريخِ السماءِ
كانت سُيوفُ الملائكةِ تُؤوي أحلامَ الصّحابةِ العاملين
وتتهيأُ ليومٍ صبيحتُهُ معركةُ بدرٍ
كانَ الوعدُ من اللهِ في نفوسِ الصحابةِ إيماناً
لكنّ الوعدَ يتنزّلُ بسلاسلِ الأسبابِ !

يا بنيَّ .. تَميلُ الشّمسُ إلى جهتِكَ
تُنبِتُ لك زَرعَك .. أو تَزاوَرُ عنك حتّى لا تحْرِقَكَ
أو ربّما تتوقّفُ ساعةً تحسِمُ لك المعركةَ مثلَ يوشَع ..
تفعلُ لكَ ذلك .. إنْ كنتَ بدريّاً في اكتمالٍ !

قالَ التّلميذُ :
كيفَ أكْتَمِلُ في معاني بَدْر

قالَ الشّيخُ :
لقد كانتْ معركةُ بدرٍ معركةَ إقرارِ الحَقائقِ
إذ كشَفتْ علانيةً عن أسبابِ المدَدِ الإلهيِّ ..
وكيفَ تُقطَفُ الأحلامُ ويُحَصْحِصُ بين يديكَ الفَجرُ !

لقد كشفتْ معركةُ بَدرٍ أنّ طاقةَ المؤمنِ مثلُ زِنادٍ يبلغُ المُستحيلَ
إذْ يقولُ اللهُ :"إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ "
فالمُؤمنُ في طاقةِ إنتاجِه يَفوقُ عشرة
وهذا بعضُ معنى الحديثِ ( وكنتُ يدَه التي يبطِشُ بها )
فإنْ تدَنّى العبدُ كان الواحِدُ باثنين "فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ"
ولا أقلَّ من ذلك ..

لقد كشَفتْ معركةُ بَدرٍ
أنّ التّوحدَ بينَ الروحِ البشريةِ والروحِ المَلائكيةِ يُشْرِعُ الأبوابَ للتنزًّلِ العلويِّ
ويَمنَحُ الأيدي المُقاتلةَ سُيوفاً سماويّةً ..
فحينَ تجاورَتْ أرواحُ أهلِ بدرٍ مع أرواحِ الملأِ الأعلى
استَحقوا اختلاطَ الأنفاسِ في القتالِ !

كشَفَتْ معركةُ بَدرٍ
أنّ ترسانةً تعكِفُ على صناعتِها بكلِّ ما تملِكُ يُمدِّها اللهُ بما يُحيلُها حديداً
ولو كانتْ ضُلوعَك التي بين جَنبيكَ !
لذا
أطلقْ صهيلَك حتى يبلُغَ المدى
عندها تَتنادى لك الملائكُ بالأثرِ !
صَلِّ باشتعالِك .. وهروِلْ إلى اللهِ بثوْرةِ الإيمانِ
صَلِّ صلاةَ تائبٍ عن خيانةِ الجهادِ !

قالَ التّلميذُ :
ماذا تقصدُ ؟!
قالَ الشّيخُ : الجهادُ أن تبذلَ وُسْعَك
وسورةُ الأنفالِ تُخبرُك أنّك قادرٌ أن تمتدّ على كلِّ أطرافِ السّواحلِ بسَعِيكَ
فأنتَ بروحِ عشر مُقاتلين !
لرَكعةٌ يا بنيَّ في جِهادِ الوُسْعِ تَنْصِبُ لك أمواجاً من الأجرِ
أحبُّ إلى اللهِ من رَكعةِ جَسدٍ
كان قادراً أن يصنعَ الفُـلْـكَ .. لكنَّه تركَ الطّوفانَ يَغْمُرُ المآذِنَ !
لا تخشَ الحَربَ فالسّيفُ لا يَسلِبُ الرّوحَ
إنّما يَسلِبُ الرّوحَ الوَهنُ
!
الوَهنُ .. يضعُ لك فواصِلَ في وثيقةِ العبورِ إلى الفِردوسِ الأعلى
ويَظلُّ بكَ حتّى تصيرَ في هامِشِ الشَّرفِ !

لقد كشَفَتْ معركةُ بدرٍ يا ولدي عن بصيرةِ المؤمنين ؛ فرأوا الملائكةَ على خيلٍ بِيضٍ
كلُّ حبّةِ رملٍ تنتفضُ في أيديهم قهراً على الظّالمين ..
كانتِ الكائناتُ تصلّي لأجلِ بَدر .. وترتّلُ الملائكةُ سُورةَ الأنفالِ
و "يُهزمُ الجَمْعُ ويُولّونَ الدُّبُر "
يومَها كشَفتْ معركةُ بدرٍ عن الإيمانِ الثائرِ
أنَّه وحدَه منْ يمتَصُّ لُهاثَ العَجزِ فينا !

ترى كمْ مِن الإيمانِ نحتاجُ
كي نكونَ مثلَ بَدرِيٍّ

مثلَ شلّالِ سنابلَ .. خطوتُهُ في الأرض تُكتَبُ بخَطوةِ عِشر مُجاهدين !
" أَعـــــــــــدُّوا "
هكذا كانَ الأمرُ فأَعَـدّوا كلَّ الوُسْعِ .. ثمّ قَـلَّ العددُ فاستحقوا المَدَدَ !
كانتِ السّماواتُ مَلأى بالوُعودِ وعلى الأرضِ علاماتُ مَصارعِ القومِ
كلُّ الجهاتِ كانتْ حُبْلى بغيمِ النّصرِ ..
" لكنَّ الأبوابَ لا تُفتَحُ دونَ طارِقٍ "
لذا ظلَّ النّبيُّ جاثياً على رُكبتيه في ليلةٍ كانتْ تَصْهَلُ خيلُ الملائكةِ فيها في عُرْضِ السّماواتِ كلِّها
وتنتظرُ دعوةَ النّبيِّ كيْ تَدنوَ وتتجلّى
مثلَ بَرْقٍ خاطِفٍ .. يقلِبُ الموازينَ لصالحِ مَن أعدُّوا !
لصالحِ من سَقطتْ عَباءَتهم مِن شدّةِ الدّعاءِ عن المَناكبِ !

يا ولدي ..
بالإِعدادِ ، والدُّعاءِ
اكتملَ الترتيلُ ؛ فاستحقوا التّنزيلَ

الإيمانُ الواعي
تِلكَ هي قصّةُ بَدرٍ
لا الإيمانُ الباكي.


ثمّ انظرْ إلى هذا المعنى في نبيِّك وهو يُؤوي أسرى بَدْرٍ
يَمنحُهُم لحظَةَ الإنسانيةِ المَفقودةِ إذْ يجلسون إلى أطفالِ المسلمين
يُعلِّمُ كلُّ أسيرٍ عشرةَ أطفالٍ القراءةَ والكتابةَ ثمّ يتحررُ !
كان يومَها .. يخلِقُ وظيِفةً جديدةً للأسيرِ لا تعرفُها البشريّةُ
يَعتِقُ بها أبناءَنا من الجهلِ ؛ ويعتقُ أولئك الأسرى من وَحشيةِ نفوسِهم

كان يترُك المقاتلين مع الأطفالِ ليتعلَّموا فِطرةَ الحَياةِ و براءَةَ المشهدِ الأصِيلِ
ويصنعَ لهم مَهمّةً جميلةً بديلةً عن السّيفِ والدّمِ !
كمْ مرةٍ ضَحكوا مع الصّغارِ ؛ وهم يكتشفون القراءةَ والخُطوطَ
ويتلَعثمونَ .. ويَنجحونَ .. ويصفِّقون فرحاُ بما فعلُوا !
وكيف غادَرَ المُقاتلون مدينةَ النّبي وقد تَركوا بِضعةً لهم فيها
وذِكرياتٍ صَاخبةً حَميمةً !
كيف كانَ يخلُقُ الحياةَ .. ويُعيدُ بناءَ الإنسانِ
ويَمنحُ الحياةَ مذاقاً جديداً !
مَنْ سِواكَ يا رسُولَ اللهِ ؛ يصنعُ مِن السّيفِ قلماً !
مَن سِواكَ يَخلُقُ مِن المُقاتلِ مُعلِّماً !

وتنبّهْ .. أنَّه عُوتِبَ في توقيتِ الفِعْـلِ
ولم يُعاتَب في الفعلِ !

بدْرٌ هي بدرُ الحقيقةِ .. أنَّ النّصرَ ربانيُّ السِّماتِ والشّمائلِ
فإنْ فهمْتَ يا ولدي فأعرِضْ عَن هزيمتِنا ولا تُجادلْ​.





رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ الثامنة عشرةَ


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قال الشّيخُ : هل دارَتْ ساقِياتُ الشّهرِ عليك
فأنبَتَتْ فيك " النّخلَ باسِقاتٍ "
قال التّلميذُ : كأنَّك تقولُ: هل غَيَّرَك الشهرُ ؟!
يا شَيخي ..
لقد تحسَّسْتُ مَكنونَ ذاتي فرَأيت فيه عطراً وجُرحاً ..
شمَمْتُ التّسبيحَ في روحي ولمَحْتُ في رمضانَ نَزيفَ الغُواياتِ القديمةِ !

قال الشّيخ :
أحْييِ مناسِكَ التّوبةِ و شُدَّ خطوتَك بالمعراجِ
وانفُضْ مِن أمتعتِك كلَّ أسبابِ العذاباتِ !

قال التّلميذ : أنّى لي ذلك ؟!!
وكلَّما اشتَدَّ حرُّ الهوى، واشتدَّ هَجيرُ الذّنبِ ( خانَتني مِظلّاتِي )

قال الشّيخ : كنتَ في الرّعيلِ الأولِ ؛ فما الذي ردَّك إلى العامّةِ !!
أنتَ تُؤتَى كلَّ مرّةٍ من غفَلاتِك وقدْ قالَها السّلفُ :
" لنْ تَصِلَ .. حتّى تجعلَ بينَك وبين الشّهواتِ حائِطاً مِن حديدٍ "
صُمْ عن الزَّلاتِ فهي خيباتُ القِيامةِ
وافطرْ كلَّ يومٍ على أنّاتِ الأَوبةِ
وارفَعِ الصّوتَ في داخلِك " إنّي تُبْتُ إليكَ "

هذه الآثامُ أحجَارُ الطّريقِ
فاكتُبْ على رمْلِ السّفرِ انّك توقَّفتَ عن مَوتِك في ممْشاكَ
إذِ الذُّنوبُ انطفاءةُ كلِّ خيرٍ.
ولا تتّخِذْ في السَّيرِ رِفقةَ قاعِدٍ !
اِنْأَ بصدرٍك عنهم

و أوقِفْ سُقوطَك بألفِ توَسّلٍ
وشُدَّ جِذعَك إلى نخيلِ الجنّةِ بألفِ ابتهالٍ !
و اصحَبْ بدلاً مِن العاجزين مَنْ يعِظُك بلحظِهِ قبلَ لفظِه
مَن يروي قَحْطَك باخضرارِ روحه
مَن إذا صافحْتَه صارَ رمضانُ لكَ (ريّانَ بالوصل ) لا ينتهي
إلا وفي الأيْدي مفاتيحُ بابِ الرَّيانِ .
تهتزُّ شوقاً وتَفيضُ عليك في الدّنيا قبلَ أن ترحلَ إليها !

قال التّلميذ :
أنّى لي بِمثلِهِ ؟!
قال الشّيخ : إذنْ طالِعْ سِيَرَ السّلفِ وابحثْ في أرشيفِ حدائقِهم
تجدْ رَبيعَهم لم يمسَّهُ حريقُ تِيهِنا
ستُضيءُ مِشكاتُك نوراً .. وسيتَّقِدُ الزّيتُ في ذُبَالاتِك
تلكَ حقولٌ سُقِيَتْ بالتَّبتلِ للهِ فلا تَذبُلُ
ومَن قاربَها أزَهرَ وأنْوَرَ

تَعلُّمْ مَن سِيَرِهم مراتبَ الأعمالِ عندَ الله
إذ يَجيئُك إبليسُ وأنتَ في شيٍءٍ من الخيرِ
فيشيرُ عليك دونَه ليربحَ عليك شَعيرةً
ويفوتُ عليك أجرُ السَّبقِ وينقُصُ مِن ثوابِ المَسيرِ.

اجلِسْ إليهم ، واسمُ في مَعارجِهم
إنّهم يبلّغونَك نهاياتِ السّعي.
يعلَّمونَك كيف تنبتُ رياحينُ الجَنّةِ مِن صدى خَطواتِهم
يرحلونَ بك إلى فضاءاتٍ علوُّ المغفرةِ بعضُ مدارجِها
هؤلاءِ من يستحقونَ الصحبةَ !

كيف ترى سعيَك حين تسمعُ
أنَّ ابنَ القيمِ كتبَ " زادَ المعادِ " وهو مسافرٌ !
وشرحَ القرطبيُّ " صحيحَ مسلمٍ " وهو على ظهرِ السّفينةِ !
وكتَبَ ابنُ تَيميّةَ كلَّ كتُبِهِ وهو في السَّجنِ محبُوسٌ !

إنَّهم يكسِرون لك قيودَك.. ويشدّون حبِالَك بـ
"مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ"
لو كانَ بينَك وبينَ اللهِ جِبالٌ مِن ذُنوبِ البُعدِ
فتذكّرْ قولَه "فَلو صَدَقوا اللهَ"

ابنِ من صمْتِ التّوبةِ طريقَ العَودة
وخُذْ بحظِّك مِن العُزلةِ.


يا وَلدي ..
إذا رُزقْتَ اليَقظةَ فَصُنْها في بيتِ العزلةِ فإنّ أيدي البَشر نهّابةٌ
و لا يَمنعْك عَجزُك فتتوجَّعَ يومَ القيامةِ على ما فاتَك مِن السّبْقِ
وارفَعْ سقفَ هِمّتِك ..
وَضِّىءْ طموحَك بعلُوِّ الهِمّة
وتوقَّفْ عَنِ الانحناءِ ..
واذكُرْ همّةَ " رَبيعةَ " الذي قالَ :
( كنتُ أبيتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ فأتيْتُهُ بوَضوئِه وحاجتِه فقالَ لي:
سَلْ .. فقلْتُ أسألُكَ مُرافقتَكَ في الجنّةِ !
قالَ ؛ أَوَ غيَرَ ذلك !!
قلْتُ ؛ هو ذاكَ !
قالَ : فأَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السّجودِ )

واذكُرِ الأعرابيَّ إذ جاءَهُ سائلاً حفنةَ شَعيرٍ !
يا وَلدي ..
مَن لمْ تبكِ الدّنيا عليه لمْ تضحكِ الآخرةُ إليه

"
امْخُرْ صَباحَ السَّبقِ مُنْفَرِداً ..
واختَرْ هواكَ على هواكْ
عساكَ أنْ تلقى هُناك إلى الطِّريقِ رَفيقاً
"



رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ التاسعة عشرةَ


ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قال التّلميذ : حَدِّثْنا يا شَيخي الّليلةَ عن الشُّهداءِ !
قال الشّيخ :
الشُّهداءُ يا ولدي هُم الذين لاتُغريهُم الّلحظةُ الرّاهنةُ
الذين لا يتوقَّفون عند لقْطةِ الكاميراأو نُقطةِ مَجٍدٍ عابِرةٍ !
الشُّهداءُ هُم مَن يبحثون دوماً عن لحظةٍ مُتجذِّرةٍ في العُمقِ
مُتجذِّرةٍ في مَلامحِ الكون وفي ضَميرِ الوُجود !
الشُّهداءُ هُم من يَعرفون كيف يحفرون حُضورَهم بإتْقانٍ مُذهلٍ
عبرَ نقطةِ دَمٍ سَخيّةٍ تظلّ تفورُ في تضاريسِ الفعلِ البَشريِّ
حتى تُصبحَ شلّالا أو ربّما طوفاناً غامراً .
الشُّهداءُ هُم الذين تتغيّرُ بَعدَهم الكثيرُ مِن المُعادلاتِ
ويحتارُ الشّيطانُ في بَصيرتِهم و لا تَبقى ذاكرةُ التّاريخِ بَعدَهم كمَا هي
الشُّهداءُ دوماً لهم مِنصّةُ الحياةِ ولا يَقبلون بالعتَبات !
لذا يُغامرون كثيراً بِما يملِكون من أوراقِ عُمرِهم .
لكنّهم دوماً هم الرَّابحون
!
يَرسِمون خَطواتِ الصُّعودِ إلى المقاعدِ الشّاغرةِ بجانبِ النَّبِيين
ويَبتسمون في ألقِ الشّهادةِ ؛ إذْ يُقَلَّدون الجَزاءَ قبلَ العُروجِ !

قال التّلميذ :
وأين يَفطرُ الصّائمون مِن الشّهداءِ ؟

قال الشّيخُ : هناك..
هناكَ حيثُ لحْظةُ اكتشاف الخُلودِ، والغَيبِ، وَتفاصيلِ الفرحِ الأزَليِّ.
هناكَ حيثُ النّعيمُ ينتَثرُ فوقَ رؤوسِهم كَحبّاتِ المَطرِ ..
حيثُ أيدِيِهم تلمَسُ النّورَ وتقطِفُ المُستحيلَ ..
دانيةً لهم حَقائقُ الآخرةِ !
هُناك تبدأُ كلِّ البداياتِ .. وهُناكَ يتَضاعفُ الزّرعُ والحَصادُ
وهُناك يسمَعون حرُوفَ أسمائِهم في غِناءِ الحُورِ العِينِ
وهُناك يَذُوقون دَهشةَ الفرَحِ على مائدِةِ النّبيّ
هُناك يُدركُ الشّهداءُ عِظَمةَ الألمِ ورَوعةَ البَذارِ
في مِثلِ هذهِ الّلحظاتِ .. تتَنادى أرواحُ الشّهداءِ في حواصِلِ طيرٍ خُضْرٍ ..
وحولَ العرشِ تتَهادى ؛ في فَرحٍ أسطوريِّ !
هُناك يُدركُ الشّهداءُ
أنّ ما وراءَهم كانَ رُكاماً مَنقوصاً ياولدي !
يا ولدي .. إنّ الأُمنياتِ المُستحيلةَ هي التي تَصنعُ النّهاياتِ المُستحيلةَ .
الأُمنياتُ التي تَبدو كأنّها وُلادةٌ من الّلامَعقولِ هي التي تُوقفُك على شَاهقٍ مِن الجبالِ
حيث تستَقرُّ هُناك دوماً القِلّةُ .. حيث يستقرُ الشهداءُ.

من شهداءِ فِلسطينَ .. تُعَلِّمُنا السّماءُ أنّ الإمامةَ في القيادةِ فوقَ المَشرقِ و الَمغربِ
و فَوقَ كلِّ الأقاليمِ الضَّيقةِ !
في فِلسطينَ يا ولدي تُعادُ رَسمُ الخَرائطِ .
فَمِن مكّةَ إلى الأقصَى تُصبح المَسافةُ للسّماءِ أقربَ عندَ نُقطةِ الصَّخرةِ !
وفي سوريا والعراقِ و بقيةِ جراحِنا
تصبحُ كلُّ خَطوةِ للشهداءٍ هي الحَياةَ.

لا رُوايةَ للموتِ في عالمِ الشهداءِ
إمّا الحَياةُ ؛ وإمّا الشّهادةُ !
الشّهداء ياولدي لا يَشيخُون .. و لا يَهرمون .. و لا يَموتون
هي رُوايةٌ واحِدةٌ
في الشهادةِ الحَياةُ تكْتمل !
في عالم الشهداء فقطْ تُعادُ كِتابةُ الأسْطرِ بالمَعاني الحَقيقيّة
حيثُ يُصَحِّحُ الشهداءُ الكَلماتِ
يضعون في أول السّطر البُطولةَ و النُّقطةُ هي الشّهادةً !
في عالمِ الشّهداءِ ضلوعُهم مَوسومةٌ بالأدلةِ
أقدامهم مُغْبرَّةٌ وبِرائحة تُراب المسك يُبعَثون !

يا ولدي ..
كلّ مَن سِوى الشّهداءِ مِمن عاشَ لغايةٍ دِنيوية ينتَهون إلى العَد
ولا يمتلِكون حتّى أدنى مسَاحةٍ في ذاكرةِ التّاريخِ أو الوَطن.
يتحاشَاهم الخُلودُ في الفِردوسِ الأعلى
ربَّما تَبكيِهم بضعُ نِسوةٍ في مكانٍ ما ..
ربّما تُعَلَّق صورةُ لأحدِهم على حائطٍ ..
ربّما يقتَرحُ أحدُهم ذاتَ يومٍ أن تُنزَع صُوَرُهم لأنّها أصبَحتْ باهِتة.
و ربّما يشتَهون لو أنّهم تناوَلتْهمُ الحِرابُ حين يسمعون صوتَ صريرِ
الأبواب تُفتّحُ للشُّهداءِ ليدْخلُوا على اللهِ في عليِّين !
ربّما إذ يعلَمون أنّ اللهَ يضْحكُ لهم
و أنّ ثمّةَ الكثيرِ مِن النِّعيمِ المَخبوءِ ينتَثِر في عَوالمِهم !
حينها ..
يتمنَّون بعضَ جِهادِهم .. وبعضَ خواتِيمِهم .. وبعضَ عذاباتِهم في الدّنيا​



رَمَضانُ الوَصْلِ
الَّليلةُ العشرون

ˇ▽˙ˇ
▽˙ˇ▽ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙ˇ▽˙

قال الشّيخُ : حَديثي الّليلةَ كلَّه مُقتبسٌ مِن كلماتِ السَّلفِ الصّالحِ
التي جعلَ اللهُ عَليها نوراً من نُورِه
تسْمعُها .. فَترى فيها آثارَ النّبوةِ، ورَوائحَ الصِّدقِ المُباركِ !

اعتَدلَ الشّيخ في مَجلسِه
وأقبَلَ بصوتٍ كأنّه آتٍ مِن أبعَدِ مَدى
مِن زمنٍ كان النُّورُ فيه لا ينطفئُ
ثُمّ قال : يا وَلدي علَّمَنا السّلفُ الصّالحُ
( أنّ مُقيمَ جسَدِ الفقيرِ بأسبابِ صِلاته ؛ مُشارِكٌ له في ثوابِ صَلاتِه)

قال التّلميذ :
كأنَّك تَعني الصّدقةَ إذا اختَلطتْ بلحمِ الفَقيرِ وأعانَتْه على رُكوعٍ مُطمَئنٍّ.

قال الشّيخ : نعَم .. لقد كانَ إبراهيمُ التَّيميُّ
يَجمعُ الفُقراءَ ثمّ يقول: تعبَّدوا الّليلةَ مِن رَمضانَ وأنا أكفِيكُم حَوائِجَكم.
رغبةً مِنه أنْ ينالَ أجرَ صَلاتهم
فأيُّ فقهٍ سَلَفيٍّ مباركٍ هَذا ؟!

و تأمَّلْ مَعي ما قَدرُ لُقمةٍ تُعطِيها إذا كانَ الرّبُّ يُربيِها
فَيراها صاحِبُها مثلَ جَبلِ أُحدٍ
أفَيرغبُ عن هذا الخيرِ أَحدٌ ؟!

البَخيلُ يا ولدي ماتَ وذَهب
وأمّا الكريمُ فعاشَ بعدَ الموتِ بِما وَهب


إنّ الُّلقمةَ إذا أُكِلتْ صارتْ أذىً في الحشّ
وإذا تصَدَّقْتَ بها صارتْ مَدائحَ عندَ العَرشِ.
هيهاتَ أن يَسمَنَ لك المَدحُ عند اللهِ
حتّى يهزَلَ الكِيسُ !

يا ولدي .. إنّ الصَدقةَ إذا خرجَتْ مِن نفسِ تقَيٍّ فإنّها عن مِيتَةِ السّوءِ تَقي !
أمَا سمِعْتَ ( أنّ صنائعَ المعروفِ تقَي مَصارعَ السّوءِ )

يا ولدي ..
إنّ الصّدقةَ سَريعةُ الخَلَفِ وهي حافظةٌ بعدَ الموتِ للخَلَفِ
أنْفِقْ يُنْفَقْ علَيك
انظرْ وتنبهْ ألمْ تَرَ كيفَ أنّ النّعمَ اتّسَعَتْ
وعلى المُنفِقِ سَبغتْ وَوفَّرَتْ
ألمْ تَسمع أنّ اللهَ آخِذٌ ( بِيَدِ السَّخِيِّ كلَّما تعثّر )

يدٌ طابَتْ بالنَّفقةِ للهِ
فاستَحقّتْ أنْ تكونَ في يَدِها يدُ الله .


إنّ خيرَ الأعمالِ ( أنْ تُدخلَ على أخِيك المُؤمنِ سُروراً )
وقدْ قالَها " عبدُ القادرِ الجِيلاني " حينَ سَمعَ هذا الخَبرَ
فتَّشتُ الأعمالَ كلِّها ، فما وجدتُّ خيراً مِن ذلك
ومِن يَومِها وكَفِّي للخيرِ مَثقوبةٌ .
وقالَها أيضاً " حكيمُ بِن حِزام "
إذا رأيتُ بِفَنائي طالبَ حاجةٍ .حمدتُ اللهَ عليه

بلْ إنّ بعضَهم كان يُردّدُ :
مَن أصابَه غُبارُ طَحيني فقدْ وجبَ الّليلةَ عليَّ شُكرُه !
أتَدري لماذا ؟
لأنّهم فَقِهوا قولَ السّلف : ( لا تَنهرْ سائلِا
فلو عرَفْتَ ما يحملُ مِن البرِّ لك يوم الِقيامة لحَملتْه في فُؤادِك
)
لقد كانوا يا ولدي يُسَمُّون السَّائلَ رسولَ المَقابِرِ !
وكانوا يوصُون بعضَهم بالقَولِ ؛ بادِروا بالصّدقةِ المَواريثَ
وتصَدّقوا في السِرِّ بالمَحبوبِ المَصونِ حتّى تكونوا مِن أهلِ
"لنْ تَنالوا البرَّ حتّى تُنفقوا ممّا تُحِبّون"
لو قدَّمَ المرءُ خيراً لِنفسِه ؛ لنَفعَهُ في رَمسِهِ
إذِ الجُنونُ أنْ لا تكونَ ممّن
"ومُن يُوقَ شُحَّ نفسِه فأوُلئك هُمُ المُفلِحون"
لذا .. كان غالبُ دعاءِ السّلف
الّلهمّ ارزُقني مالاً وفِعالاً نكتَملُ بها عِندك

نحنُ مِثلُ حبّةِ رَملٍ.. مِثل هباءَةٍ
لكنّنا نصبحُ رَبْوةً تنسابُ مِنها مياهُ الخُلود
إذا اطلَقْنا أنفسَنا بالعُطاءِ !

يا ولدي ..
في عام ألفٍ و تسعِ مئةٍ و اثني عشرَ كانَتِ العِراقُ أغنى دولةٍ في المَنطقة
وكان يَصِفها الشّعراءُ بأنّها غابةٌ لا تُحَدّ وانهارٌ لا تُعَدّ !
كانت توصَفُ بأرضِ السّوادِ ؛ لكثرةِ نَخيلِها وتُرابِها المَرويِّ
إذْ في البَصْرةِ وحدَها ؛ كان تعدادُ النَّخلِ ثلاثةَ عشرَ مِليونَ نَخلةٍ !
وفيها ثلاثُ مئةٍ و خمسون صِنفاً مِن التّمرِ
وكان يُقالُ عن أهلِ العِراق قومٌ لا يَجُوعون !
اليومَ ..
تَعبَ نخيلُ العِراقِ وغاضَ حتّى جاعَ أهْلُه
وجاعَتِ الأمّةُ كلُّها مِنْ بَعدِهم !
منذُ أن كُسِرَ نخيلُ العراقِ ونحنُ ننكسرُ كلَّ يومٍ.

يا ولدي ..
هل تَدري أنّ عُلماءَ الصّومالِ
كانوا يوصون أهلَ الصّومالِ بِصَرفِ زَكاتِهم لأهلِ نَجْدٍ.

هلْ تَفهمُ مَاذا أقصِدُ .. هلْ بلغَكَ المَعنى !!
تدبرْ و اعلمْ أنّ النعمةَ تسألُ حفظَها !
إيّاكَ أنْ تَشتري جُوعَك بِوَجعِ التّبذيرِ

أنفِقْ مالَك لله
يُنفَقْ علَيك


وكلُّ نفَقةٍ في غيرِ الحقِّ مِثلُ الفَخرِ والسُّمعةِ
فاعْلَم أنّ مآلَها نقصٌ لا يرْتُقُه أحَد.

و إيّاك أنْ تضَعَ مائِدةً فيها أيدي الشّياطين
إذِ المُبَذِّرون إخوانُ الشّياطين !

وأغلِقْ على مالِك بالصّدقةِ ..
وطَهّرْ بيتَك مِن التّبذيرِ ..
وأنصِتْ إلى صوتِ التّاريخ فينا .. أنصتْ إلى صوتِ الخيامِ حولَك
فإنّي أخشَى على المُبذِّرينَ فجأةَ الطُّوفانِ
واندفاعَ الرّيحِ تَحمِلُهم إلى حيثُ انكسارِ الفَرحِ !

يا ولدي .. الصَّدقةُ لكَ .. والتّبذيرُ علَيك
فاصنَعْ خيْمَتك مِن مالِك، مِن حبّةِ الحِنطَة
وبادِرْ .. قبلَ أن يَهبِطَ الجُوعُ عليك فَيطحَنَك !​





 

رمضان الوصل
الليلةُ الحادية والعشرون


ˇ˙ˇ˙ˇˇ˙ˇ˙ˇ˙ˇ˙

قال الشّيخ : ليلةُ القَدرِ هي ليلةُ العُمرِ
فيها تُزَفُّ لك عرائِسُ الجنّةِ مِن الثّوابِ ومِنَحِ المِنّةِ
.
ليلةٌ .. يَجفُلُ من عِطرِها الرَّيحانُ ويُعرف بها شَوقُ العبادِ إلى الجِنانِ !
يومِضُ لك أجُر عُمُرٍ بأكمَلِه في ليلةٍ زَمنُها سُويعاتٌ
يتكثّفُ لك الدّهرُ فيمتَدُّ عمرُك ثَمانون عاماً أو تَزيد
تنشقّ لك السّماواتُ بمطرٍ يشدُّك نحو نَسيمِ النّعيمِ

قال التّلميذُ :

كيف أستَبينُ بُلوغي ليلةَ القدرِ ؟

قال الشّيخ : شاءَ اللهُ في هذهِ الليلةِ أن يستبينَ العبدُ فلَاحَه إذا استبانَ له صباحُه !
فهي ليلةٌ تنَأى عن المراكِبِ الحَيرى وتشرقُ على الأَشرعةِ
التي قَطعتْ حِبالَ الهوى وشدّتِ الوَصلَ بالتّقوى !

ليلةُ القدر ..هي زمنُ الدّفءِ وتوقيتُ الكَرامةِ
إذ سَبقَ الإنعامُ في القِدَمِ على مَن هروَلَ للآخرةِ بالقلبِ والقَدَمِ
.

ليلةُ القدر ..تجعلُ عُمْرَك آماداً مَمدودةً وتَمنحُك زمناً فيه الدُّر يُنثَـرُ !

قِفِ الليلةَ بقلبٍ يُشهِدُ ربَّه " أنّي لم أخنْهُ بالغَيب "
عسَاه يفَتحُ لك كلَّ غنائِمِ الغَيبِ !
حتّى لو كنتَ مَيْتاً بالذُّنوبِ فَقُلْ: "كذلِك يُحي اللهُ المَوتى"
فإنّ اللهَ إذا اسَتصلحَ منك القلبَ قلَبَهُ لك بمحراثِ الفَضل
وبَلّغكَ أرضَ الوَصلِ وصَبّ عليك القُرْب صَبّاً.

" لا تَمُدَنّ عَيْنيْك " إلى غيرِه .
هذا زمانُ استعدادِك إنْ كنتَ مُستعدّاً
فتشَبّثْ يا ولدي ب " تَتــــجَافى "
والمَحْ فجرَالأجرِ يَهُن عليكَ ثِقَلُ المَهرِ.
واذكرْ قولَ السّلفِ :
" مازلتُ أسوقُ نفسِي إلى الله وهي تَبكي
حتى سُقتُها إليه وهي تَضحكُ "

يا ولدي .. هذه ليلةٌ لا تتكرّرُ فلا تَسهُ عنها
واحذَرْ مِن نفسِك على نَفسِك !
ليلةٌ .. جاءتْ تختَصِرُ لك الطّريقَ وتَطوي لك المَراحلَ !
ليلةٌ .. تمتدُّ حتى الفجرِ ولا تَرحلُ عنكَ إلا بِفَجرٍ علويّ يوقِفُك على أنهارِ نَعيمٍ أزليّ ..
فاهمِسْ لنفسِكَ : ( أنتِ في زمنِ الأماني فاعَملي )
ولا يكن أمرُك "فُرُطاً".

هنيئاً لِمنِ استَدرَك في ليلةِ القدرِ ما مضَى من أمسِهِ
قبلَ أن يكونَ في القَبرِ طولُ حبْسِه !
وهَيهاتَ هَيهاتَ للأماني العاجزةِ .

قالَ التّلميذ :
بَيّنْ لي كيف أفعلُ ؟
قالَ الشّيخُ :
إذا أرادَ اللهُ بالعبدِ خيراً أعانَه بالوَقتِ
ليلةُ القدرِعونُ السّماءِ لك
خُذْ بِزِمامِ كلِّ دَقيقةٍ فيها وقُلْ ما هي إلا ( أيامٌ مَعدودةٌ ) وعَن قليلٍ تَنقطعُ المُدّةُ
فلا تَدري أيَنكشفُ الغِطاءُ عن كرمِ النّظرةِ أمْ تكونُ مِن المَحرومين !

يا ولدي .. إنّ مِن عَلامةِ المَقتِ إضاعةَ الوَقتِ
فاذكُرْ وقتَ عرضِ ألواحِ "أوَ لمْ نُعَمِّرْكم"
فلا تَجعلْها خاليةً مِن ليلةِ القدر
فتِلك هي بِضاعتُك التي سَتبارِكُ لك أيامَ عُمرِك
فواعَجبي مِن مُضيعِ لحظةٍ في هذهِ الليلةِ .

يا ولدي
(إنّ للهِ في أيامِ الدّهر نفحَاتٍ فتعرّضوا لها
فَلعلّ أحَدَكم أنْ تُصيبه نَفحةٌ فلا يَشقى بعدَها أبدا ) !
وهاهي شمسُ رمضانَ اصفرّتْ
وسُبحان من جعلَ البدارَ فيها قبلَ الغُروبِ
فتعرَّضْ لما بَقيَ فإنَّ السِّرَّ فيما بَقي .
و إيّاكَ وقُطّاعَ الآخرةِ في هذه الليالي المُباركةِ
لذا فإنّي ناصحٌ لك بما قالَه السّلفُ :
" العُزلةُ عن الشّرِ حِميةٌ .. والحِميةُ سببُ العافية "
فتنبّهْ لِلَيلتِك ولا تأذَنْ لأحدٍ أن يخطِفَها منك !

يا ولدي :
إنْ لم تُحسن مَع رَمضانَ الاستقبالَ
فإيّاكَ أنْ لا تُحسِنَ مُنذُ الّليلةِ الوَداعَ.​



رَمَضان الوَصْل
الليلةُ الثانية والعشرون


ˇ˙ˇ˙ˇˇ˙ˇ˙ˇ˙ˇ˙


قال الشَّيخ : في هذهِ الَّليالي شيءٌ عَجيب
أشعُرُ كأنّي لا أملِكُ قَلبِي !
و كأنّ في المكانِ روائِحُ جبريلَ؛ وكأنّ مع كلِّ نَسمة مَلَكٌ عابِر
كأنّ في كلِّ ليلةٍ مفاتيحُ لأحلامِنا النّائيةِ
وكأنّ الأرضَ تَئِطُّ مِن دَبيبِ الملائكةِ.
تتَجاورُ أجنِحتُهم مع منَاكبِنا، مع كلِّ ريشةٍ تتَهادى بيننا يتَهادى النورُ ويَهبِطُ فينا !
تتوهّجُ الأرواحُ، وتَسمعُ صوتَ قرْعِ أبوابِ اللهِ بِوَجيبِ القُلوبِ !

في هذه الليالي ترى عباداً يَخْرُجون إلى اللهِ .. ويدخُلون على اللهِ
ويَنامون وفي العُمق وجْدٌ بحَجمِ الكونِ لله !

ليلةُ القدر .. أراها كأنّها هي بدْرُ حيثُ "يُفْرَقُ فيِها كلُّ أمرٍ حَكيمٍ"
وبَدرٌ في وصفِ القرآنِ يومُ الفُرقانِ
إذ كانَ الصّعودُ في بدرٍ صعوداً وَعِراً لكنّهم بلَغوا بعدَه خِفّةَ الضَوْءِ
وسَمعوا صوتَ حَفيفِ الملائكة !
في بدرٍ يتنَزلُ جبريلُ في كَوكبةٍ مِن الملائكةِ وَيكتبُ في السِّجلاتِ أسماءَ مَن غَيّروا قَدرَ أُمّةٍ
وفي ليلةِ القَدر يتنَزّلُ جبريلُ .. وتُسَجّلُ أسماءُ مَن غيَّروا أقدارَهم بِشَهَقاتِ الدُّعاء


ليلةُ القدر .. هي عُنفوانُ التّغييرِ .. هي صَدى العَطاءِ الإلهيِّ بِلا حَدٍّ ولا عَدَد !
تَحُفُّك ليلةٌ تَجتمعُ فيها مواسِمُ الجنّةِ ؛ كي تخلُصَك مِن موتٍ فانٍ
وتُقيمَ لكَ حياةً ؛ كأنَّها صَلاةٌ دائمةٌ !
أنّى للعبدِ أن تَهديَه السَّماءُ خَيطاً مِن الفضلِ الإلهيِّ
يَخيطُ به أعماراً تطولُ له في أجرٍ أزليّ !


ليلةُ القدر .. هي سِلالُ الفَجرِ المملوءةُ بصيامٍ وقيامٍ تفيضُ ثواباً و كوثراً
ويَنمو منها سَنابلُ تُؤويك فلا تَدري عن حكايةِ الّشقاءِ شيئاً !

ليلةُ القدر .. هي أنفاسُك النّدِيةُ بالذِّكرِ التي تَخلُقُ غَيمَ الفَضلِ كيْ يُساقَ إليك.
في ليلةِ القدرِ .. توْلَد أجنِحتُك تَقتربُ مِنك أقمارُ الوعودِ الخَضراءِ.

يا ولدي .. جاءَت ليلةُ القدرِ كيْ تُبَلِّغَك الجنّةَ.
فقد خلَقكَ اللهُ للجنّةِ وسَوّاكَ وإن استقرّتْ على الأرضِ قدَماكَ "فلا تَنسى"
اتخَذَتِ المَلائكةُ مواقِعَها، وانْبَرتِ الأقلامُ تَكتُبُ بمدادٍ يرقُصُ النّعيمُ فيه.
انبرتِ الأقلامُ تكتبُ وَقْعَ مَمشاك وتسجّلُ أيَّ نخلٍ هذه الّليلةَ تَطاولَ
فاحرِصْ أن لا تكونَ قد أنقَصتَ المَهرَ، وأسَأتَ الخِطبةَ.

تظلُّ الأجورُ عند الله لِتلكَ الّليالي مَذخورةً
و يظلُّ معنى إجابةِ الدُّعاءِ عندَ اللهِ مَستورا
سَتقطفُه وستراهُ يتمايلُ عليكَ مِثلَ غُصونِ الجّنةِ.

يا ولدي افهَمْ عنّي .. الجنّةُ تُزَفُّ لأهلِها في الدّنيا وتكتَملُ لهم في الآخرةِ
وَليلةُ القدرِ جاءَت تُوقِفُك على أوّلِ الجَداولِ !
ليلةُ القدر تَزَرعُك في سهولِ الجنّةِ فلا فقرَ ،ولا قحطَ ،ولا جَدْبَ
ويَغدو العُمرُ مِن العُقم عاطِلاً !

يا ولدي .. كلُّ ما سِوى الجنّةِ أضغاثُ أحلامٍ أو طيفُ مَنامٍ !
ينَتثرُ الدّمُ مِن رأسِ " ابن ملحانَ " وهو يُطعنُ في سبيلِ اللهِ ويُصيحُ وهو يموتُ :
فُزْتُ وربُّ الكَعبة !
فما الذي انتَثرَ عليه حتّى هَزِءَ بالموتِ من عِظَمِ مّا رأى !!

أتَدري أنّ أعلَى العِبادِ منزلةً مَن غُرِسَت كرامَتُهم بيدِ الله وخَتمَ اللهُ علَيها.
أيَّ كونٍ مِن زغاريدِ الجَمالِ تراهُ هُناك !
ليلةٌ .. ترفعُ لك عُشبَ الجنّة، وتَشتمُّ منها ربيعَ الفَيضِ فــــلا تَدَعْها يا ولدي
حتّى تَرفعَك إلى عوالمِ ما بعدَ السّماءِ السّابعةِ !
وردّدْ طُوالَ الّليلِ : "ربِّ ابنِ لي عندكَ بيتاً في الجنّة"
وتنبّهْ .. أنّه دعاكَ إلى دارِ السّلامِ
إنّك إن أجَبتَه مِن دُنياك دَخلْتَها .. وإن أجَبتَه مِن قَبرِك مُنِعْتَها !

يا ولدي .. كنْ عبداً يَذكُرُ في الخَلوةِ خَطيئَتَه ويَشكو إلى اللهِ غُربتَه
ويقولُ لربِّه : خُذني إلى جنّةٍ أرِحْ خَدّي على أعتابِها .
يَرتديني التَّعبُ وأنا أحبِسُ النَّشوةَ وأحاولُ فهبَني ليلةَ القدرِ
وأعِنّي على بلوغِ ثغرِ المَناجمِ
حيثُ الوَعدُ الإلهيُّ يتجلّى في كلماتٍ ظلالُها الأبديةُ .
" وجوهٌ يومئِذٍ نَاضِرة إلى ربِّها ناظِرة "
تلك لحظةٌ يسعى نورُها الأبيضُ في مطرٍ ممتدٍ في دلاءٍ عامرةٍ ..
في رؤيةٍ تغشى المؤمنينَ بسعادةٍ تَظلُّ ترفُّ فيها الدهشةُ
ما بقيَ " وجهُ ربِّك ذو الجلال والإكرام​"



رَمَضان الوَصْل
autosave
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ الليلةُ الثالثةُ والعشرون


ˇ˙ˇ˙ˇˇ˙ˇ˙ˇ˙ˇ˙


قال الشَّيخُ : بماذا يُجيبُ العاشِقون إذا رَأَوْا أعمَارَهم تُسورُها ليلةُ القدرِ بكلِّ فضلٍ !
بماذا يُناجون اللهَ إذا شَعروا أنّ ليلةَ القدرِ تطوفُ على حوائجِهم
تَمُدُّ لهم يَدَها لتشعلَ لهم تَنّورَ الخُبزِ للأحلامِ الغافيةِ !
بماذا يَهمسونَ إذا لاحتِ البُشرى بأنَّ النَّبعَ فارَ وانتَهت خَطوةُ الحِيرةِ
و مِن سِتارِ الغَيبِ تجَلَّتْ كلُّ الأمنياتِ !

أشْغَلتَ قلبي يا رمضانُ ..
أشْغَلتَ قلبي بَلْيلةٍ تَرعى الأحلامَ في روابِيها
وتتَحررُ الأُمنياتُ مِن أقفاصِ الانتظارِ.

أوّاهُ لو تَدرينَ يا ليلةَ القدرِ أنّي قادِمٌ إليكِ من سَفرِ الذّنوبِ الشَّاقِ
أنّي قادِمٌ إليكِ مِن نقضِ الغَزْلِ إلى زمنِ الوَصْلِ !
قادمٌ يا ليلةَ القدرِإلى ظِلِّ سَقفِك .. قادِمٌ إلى زَحمةِ الأعيادِ فيكِ !
قادِمٌ إلى انطفاءِ الَّلذاتِ .. إلى لذّةَ التَّسامي نحوَ الاصطفاءِ المُطلقِ !

تَداعى التِّلميذُ أو كادَ شَوقاً وقال بصوتٍ شَجيٍّ :

كيفَ أتسامى الّليلةَ يا مُعَلِّمي ؟

قال الشّيخُ : لا تُغادِرْ ياولدي نُورَ اليَقظةِ وتَوقَّفْ عن تِيهِ التّرَدُّدِ
وأَعلِنْها الّليلةَ بَيعةً للهِ ليسَ للشّيطانِ فيها نصيبٌ.

قالَ التِّلميذُ : ومَن يُطيقُ ذلك ؟!
قال الشَّيخُ :
تَعلَّمْ مِن هِمّةِ السلفِ
هذا " ابنُ عوْنٍ " يَصحبُهُ أحدُهم فيقولُ :
واللهِ ما أعلمُ أنّ الملائكةَ كتَبتْ عليه خَطيئةً في لسانِه.
هؤلاءِ قومٌ وهَبُوا اليقَظةَ نَبضَهم
وقطَعوا وريدَ الشّيطانَ فيهم !

ويقولُ آخرُ : صَحِبتُ " الربيعَ بن خَيثم " عِشرين عاماً فما سمعتُ منه كلمةً تُعاب
حتّى كأنَّه مَشهدُ تفَرَّدٍ في عشقِ الطّهارةِ حتّى أَسدلَ بنقائِه السِّتارَ على سَعيِ الشّيطانِ !
لقد صَحِبوا اليَقظةَ حتى انشقّتْ عنهم العَتمةُ فكانوا يقولون:
( لايكُنْ هَمَّ أحدِكم كثرةَ العَملِ ، ولكنْ إحسانَه وتزيِينَه لله
إذْ قد يُصلّي العبدُ وهو يَعصي اللهَ .)

وكان بَعضُهم يقول: لأنْ أدَعَ الغِيبةَ أحبُّ إليَّ من كذا من الصّلاةِ .
ولأنْ أغضَّ بصرِي أحبُّ إليّ مِن قيامِ الليلِ !
إذ كانتِ اليَقظةُ علَّمَتْهُم أنّ الإِيمَانَ يَسْمُنُ فِي الْخِصْبِ وَيَهْزُلُ فِي الْجَدْبِ ..
فَخِصْبُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَجَدْبُه الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي.

قالَ التّلميذُ : كيف فَعلوا ذلك ؟
قالَ الشّيخُ : لقد يمّموا شطْرَ قلوبِهم أولاً ومكَثوا هناك ..
يقولُ أحدُ السّلف:
حرسْتُ قلبي عِشرين سَنةً حتى استقامَ للهِ !
ثمّ جاهدوا في وزنِ أحوالِهم بالكتابِ والسّنةِ فلا تتُلَوَّثُ بخياناتٍ يُزيّنُها الشّيطانُ ..
تغوصُ رِماحُه في أعمالِنا، وتَسفِكُها
ونحنُ نظنُّ أنّنا نُحسِنُ صُنعاً !
ثم شُدّوا قَوسَ الأعمالِ بأوتارِ الجوابِ فقالوا :
واللهِ ما فَعَلنا فِعلاً إلا أعددْنا له جواباً !
فامكُثِ الّليلةَ في اعتكافِكَ ، قل :
( الّلهمَّ إنّي أستغفرُكَ على كثيرٍ ممّا أهدَرْتُ
أستغفِرُك استغفارَ من يَعلمُ أنّك أردتَ له شأناً
لكنّه بِجهلِه و عَجزِه اكتَفى بالعَتبةِ دونَ الدّارِ )

يا وَلدي .. الاستقامةُ هي طريقُ الكَرامةِ.
يا وَلدي .. كُنِ الّليلةَ عبداً فقيراً نفضَ ثيابَه من الهِمَمِ المَيتةِ
التي احتَشدَتْ خلال نومِه وغفلتِه
و تحرّكْ نحوَ بابِ الليلةِ يتلمّسُ منها النّدى يبَحَثُ في زمانِها عن رَشفةِ أمَلٍ.
عبدٌ يَعلمُ أنَّ كلَّ شيءٍ فيه غاِرقٌ في الجَفافِ حتّى اليأسِ و ليس معَهُ إلا دُعاءٌ
يواجِهُ به هذا التّصحرَ الهائِلَ في عُمرِه .
ومِن حولِه أصواتُ الخطايا َتعلو كلَّ دقيقةٍ و تُنذرُ بكارثةِ النّهاية !
فيُهرَعُ إلى الزّمنِ المباركِ ويزرعُ فيه تَوسّلَه
يَزرعُهُ بكلِّ الذّلِّ والفُقرِ لأنَّه يعلَمُ..
أنّ الغيثَ لا يَقِرُّ إلا على الأرضِ المُنخفضةِ لا فوقَ رؤوسِ الجِبالِ !
ويبكي بكفَّيه وهو يقولُ:

اللهمّ انّك عفوٌ كريمٌ تُحِب العَفو فاعفُ عنّي !​


رَمَضان الوَصْل
الليلةُ الرابعة والعشرون


ˇ˙ˇ˙ˇˇ˙ˇ˙ˇ˙ˇ˙


تَصْطَفُّ الحَقائقُ مِثلَ عُصورٍ زاهِيةٍ تُعلِّمنا في ليلةِ القدرِ
أنّ اللهَ أرادَ لك قَدْراً إذ مَنحك ليلةَ القدرِ.
أرادَ لكَ مُدنَ الأفراحِ في الدّنيا وفي الآخرةِ .. لذا وهَبَك ليلةَ القدر حتّى لا تظَلّ على الهامِشِ !

ليلةُ القدر .. هي قَفزةُ الرّوحِ إذْ ما ظنُّك بعمرٍ صارَ بعد ليلةِ القَدرِ أعماراً !
ليلةٌ .. جاءَتْ توقِفُ انهياَرك الدَّاخليّ وتَحمل لك أعباءَ الطّريقِ، تحمِلُ لك أُمنياتِك !
ليلةُ القدر .. هي ليلةُ السَّفرِ السّماويّ إلى مقاعِدِ الأحرارِ مِن سجنِ الصّلصالِ الطِّينيِّ
تنبهْ .. أَنّك كنتَ في ضميرِ الغيبِ حيناً " مِن الدَّهر"
وكنتَ في غبارِ الكونِ ؛ سَديماً مَجهولاً !
فلماذا اختارُ ربُّك تُرابَك أنتَ تَحديداً ؟!
لماذا أخرَجَك مِن حَيِّزِ الصّمتِ إلى "فَجعلناهُ سَميعاً بَصيراً" !؟

هل تَدري .. أنّ كلِّ شِبرٍ في السّماواتِ يَئِطُّ من ازدحامِ المَلائكةِ بالتّسبيحِ
فهل أرادَك نغَمةً إضافيّةً في لحنِ التّرتيلِ الهادِرِ !

دعني أسألُـك ما معنى "نَبتَليه" / "لِيبلُوَكم" / "ونَبلو أخبارَكم"
وكلِّ اشتقاقاتِها التي تَوالت ثلاثاً وثلاثين مرّةً في القُرآنِ ؟!


فماهُو ابتلاؤُك أنتَ تحديدا ً؟

لماذا لمْ يُبْـقِكَ ذرةً تائِهةً في غُبارِ الكَون ؟ّ!
ما المَغزى مِن وجودِك مِن نَفخةِ الرّوحِ في روحِك ؟!
ومما وهبَك في خريطتِكَ الوِراثيةِ ؟!

هل قَبضْتَ بين يَديكَ على رسالةِ اللهِ فيك ؟
على حِكمتِه العليا من خلقِكَ أنتَ ؟ على سَببِ قُدومِك للحياة ؟
وهلْ ستُنهِي مَهمَّتَك ؛ لتَسمعَ الصّوتَ الجَليلَ يقولُ لك:" وكانَ سَعيكُم مَشكوراً"

يا لضّيعَتِنا إن كانَ اللهُ يعلمُ أنّ بِيدِنا مِفتاحاً للخروج من المَتاهةِ
وبِعجزِنا وغَفلتِنا عن سرِّ خلقِنا لمْ ننتبهْ لِما وُضِعَ فينا !

يا ولدي .. كُـلُّ معرفةٍ بلا عِرفانٍ لا يُعوَّلُ عليها.
ينكشِفُ لك غِطاءُ الليلةِ ن توغّلْتَ في المَعنى.

فهل تُراكَ انتبَهْتَ .. لماذا سُمّيَتْ ليلةُ القدرِ بمعنى القدرِ ؟!

ليلةُ القدرِ .. هي بَوحُ السّماءِ لك أنِ انطَلِقْ مِن خارجِ حُدودِك ؛ كيْ تبلغَ أحلامَك !
فإنّ اللهَ قد رزقَك يداً تتّسعُ ليختبئَ فيها قدَرٌ جَليلٌ ؛ لو أردتَ !
خَلقكَ بطموحٍ ليس له سَاحلٌ لو سَعَيْتَ !

يا ولدي .. كمْ من مَلَكٍ في السّماوات لمْ تَغمُضْ له عينٌ
لم ينَلْ مرتبةَ "تَتجافى جُنوبُهم عن المَضاجِعِ" !
كمْ مَلَكٍ مِن حمَلةِ العَرشِ يستغفِرون لك " الذينَ يَحمِلون العرشَ ومَن حولَه
يُسبّحون بحمدِ ربِّهم ويُؤمنون به ويَستغفرون للُّذين آمَنوا"
فيالَ عقلِك لو أدركَ أعدادَهم لطارَ الـلُّبُ منكَ !

فاعرِفْ قدرَك عند ربِّك
ولا تُهِنْ نفسَك بإهدارِ مَقامِها.


اسمَعْ لحكمةِ السّلفِ إذ يحدِّثونَك عن مُرادِ اللهِ فيكَ :
أيُّها العَبدُ .. ألقِ سَمعَك وأنتَ شَهيدٌ يأتيكَ منّي المَزيدُ
وأصغِ بِسَمعِكَ فأَنا لستُ عنكَ ببعيدٍ.

يا للهِ .. يتوددُ لك كي يرفعَكَ !
يا ولدي انظُرْ إلى السلفِ كيف صنعوا قَدْرَهم عند ربِّهم !
فهاهو أبو أيوبَ الأنصاريُّ يغزو في جيشِ فتحِ القُسطنطينيّةِ
فيَمرضُ، فتكونُ وصيّتُهُ ( إذا مِتُّ فاحمِلوني .. فإذا صافَفْتُم العدوَّ فارموني تحتَ أقدامِكُم )
إذْ كان يَبتغي أن يكونَ عَتبةَ الفتحِ حتّى وهوَ ميّتٌ !
فأيُّ هِمّةٍ تلكَ !

وعبدُ اللهِ بنُ حرامٍ يُكلّمُهُ اللهُ كِفاحاً أيْ مُواجهةً.
وكان ذلك كَرامةً لِشَوقِ روحٍ ما تلكَّأَتْ في السّيرِ لله !

واسمَعْ عن ابنِ أبي حاتم الرازيِّ الذي كانَ يُقالُ أنَّهُ على رأسِه قُلنسُوةٌ من السّماءِ
إذ كانَ رجلاً لم ينحَرفْ عن غايته ثمانين عاماً
يُرابطُ على مكانَتِهِ ولا يُفرّطُ في الشّمسِ التي بينَ يديهِ !

يموتُ القاضي الطّبريُّ عن مئةِ عامٍ لمْ يتوقفْ فيها عن تَصنيفِ العِلمِ
إذ ْكان يصنعُ للكونِ إيقاعاً تُحِبّ السّماءُ لَحنَه !

فتَح موسى بنُ نُصيرٍ بلادَ المغربِ العربيِّ
وأسلَمَ على يديهِ تسعةَ عشرَ ألفاً، وأعدَّ جيشَ الأندلسِ
وكان في أواخرِ السّبعين من عمرِه وكان يقولُ:
لو انقادتِ النّاسُ لي لقُدّتُهم إلى رُوما !
فقد كان رجلاً يُبادرُ السؤالَ يومَ الحَشرِ بجوابِ العُمرِ.

قال التلميذُ :
فكيف أعْرِفُ قدْري عندَ اللهِ ؟
قالَ الشّيخُ: إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ في ماذا يُقيمُكَ ..
انظرْ بماذا أشغَلَ هِمّتَك .. وبماذا حرّكَ جوارِحَك .. وبماذا تَهمسُ يَداك !

قال التّلميذُ : وكيفَ أبلُغ قدْراً أشتهيهِ وأتمنّاهُ ؟!
قال الشّيخُ :
يا ولدي ما تَوَقَّفَ مَطْلَبٌ أنْتَ طالِبُهُ بِرَبِّكَ
وَلا تَيَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طالِبُهُ بنفسك
..
فإنْ رأيتَ عينَك تمتدُّ فوقَ حافَة الحاضِرِ فاجثُ على رُكبَتيك في الِمحرابِ ..
تَطولُ قامَتُك كثيراً وتبلُغُ بها ما تشاءُ
.

في ليلةِ القدرِ .. أشْعِلْ لهيبَ الدّعاء واعكفْ في خَباءِ نفسِك
واسألِ اللهَ أن تَبلغَ بكَ ليلةُ القدرِ قَدْرَك .


رَمَضان الوَصْل

autosave
wAAACH5BAEKAAAALAAAAAABAAEAAAICRAEAOw==
​ الليلةُ الخامسة والعشرون

ˇ
˙ˇ˙ˇˇ˙ˇ˙ˇ˙ˇ˙



قرأَ الشّيخُ قولَه تعالى :"سلامٌ هِي" ثمّ قال :
تهتزُّ كُرومُ الجنّةِ بالدّالياتِ دانيةً عُقودُها شوقاً لليلةِ السّلامِ.

تتنفّسُ الليلةُ في أفئِدتِنا التي أصبحَتْ فارغةً إلا من كَفافِ الحُبِّ لك يا الله !
فأوقِدْ زيتَ قلوبِنا يا ربَّنا بأبديةِ الشّوق لك واجعل سِراجَ عمُرِنا ليلةَ القدر

يا ربّ .. امنَحنا اصطفاءَك على رغم سَوءاتِنا المَكشوفةِ
وامنَحنا قلوباً لا تتَلعثمُ إذا همَسَتْ باسمِك في عُمقِ الدّجى !

يا ربّ .. يَهُزُّني الشّوقُ للسَّلامِ ، يَهزُّني أسىً وتِحناناً
يَهُزُّني إذْ ألمحُ سلامَ الّليلةِ فينا سلاماً عابِراً ومُسافرا
سلامَ هُنيهةٍ، سلاماً لا يُمَسِّدُ جِراحاتِ العامِ كلِّه !

يا ربُّ .. هذه ليلةٌ لو انفرَطَ عِقدُ النّعيمِ منها
لكانَ حبّاتِ قَدْرٍ ورديّةً مُطرّزاً عليها "سلامٌ هي حتّى مَطلعِ الفَجر"
أرى سلامَها يا ربُّ يَرعى في قَلبي يلْتَهمُ مَعاركِي ..
وأشتَهي لو يبتدئُ السّلامُ فيها ثُمّ يكتملُ لي في جنّةٍ يَقُول خَزنتُها:
"سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"

يا ولدي كان أوّلُ الحكايةِ صَوتَ المَلائكةِ لإبراهيمَ
" قَالوا سَلاماً قالَ سَلامٌ" فانتَهتِ الحكايةُ له بِبشرى الفَرجِ
وقولِ اللهِ له:"رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"
فيقولُ ابنُ عبّاس : " إنّ السّلام انتَهى هنا الى البَركة "
للهِ دَرُّك يا ابنَ عبّاس !
فهذا فقهٌ عالٍ في الإسنادِ؛ إذْ لمَحَ المَعنى حيث انتبهَ أنّ السَّلامَ بلَغَ بأهلِه دَرجةَ البَركةِ
والبَركةُ ؛ ثُبوتُ الخَيرِ ونَماؤُه فإذا حلَّ في بيتٍ صارَ مَهبِطَ عطاءٍ مُتوالٍ
كأنَّ الآيةَ تقولُ لك :
إنّ ساقَ البرَكةِ التي تجري بها هي السّلامُ فلا تَكسِرْها .

قال التّلميذُ : كيفَ تُكْسَرُ ؟!
قال الشّيخُ : إذا ظَهرتِ الجناياتُ ارتفَعتِ البَركاتُ !
يَغيبُ السّلامُ يا وَلدي
مثلَ نارٍ تُطفَأُ في شِتاءِ بيتٍ فَقيرٍ إذا جعَلْنا وَقودَها حطبَ ذُنوبِنا !

هل تعلمُ .. إنّ الرُّوحَ تأخُذُ شَكلَ الوِعاءِ الذي هي فيه ..
فإنْ كانَ سَالِماً مِن السّوءِ تنَفّسَ السّلامُ فيه أو سَقطَ مِن شروخِ الروحِ !

"
سلامٌ هِي"
فَيا اللهُ .. اجعَلْها سلاماً ينصَبُّ في بُيوتِنا
التي طَفَحتْ بالّلغْوِ ؛ كأنّه زبَدٌ وهَذيان !
وابتَعدتْ عن بهاءِ "إلّا قيلاً سَلاماً سَلاماً"
حيثُ " لا لَغواً" يقودُ إلى التّأثيمِ !

اجعلْها سَلاماً .. ينْصَبُّ بين أزواجٍ تَعلو وتَهْبِطُ بَينَهم حَرائِقُ وحَرائِقُ .
اجعلها سلاماً .. ينْصَبُّ بين أرحامٍ تَجوسُ بينَ أعراقِهم نيرانٌ ونيرانٌ !
اجعلها سلاماً .. ينْصَبُّ في كلماتِنا فَيرفَعُنا مِن دَرْكِ الغِيبَةِ و البُهتانِ
إلى طيبِ الكَلِم من الّلؤلؤِ والمَرجانِ !
اجعلها سلاماً .. يَملأُ كَيان العِبادِ حتّى يَكسو الأرواحَ سَكينةَ الإيمانِ.

يا ولَدي ..
ليلةُ القدرِ تأتِيكَ بالسّلامِ حتّى مَطلعِ الفَجرِ
أفلا تَعرِف كيفَ تغْرِف مِنه ؟!


تأتِيكَ بالسّلامِ .. فقدّم لها منك بعضَ القُربانِ
وَزحزحْ نفسَك عن نارِ الحُروبِ اليَوميةِ!

هذه ليلةٌ.. جاءَتْ توحدُك مع زمنِ الجنّةِ ، معَ زمنِ "دارِ السّلامِ"

يا ولدي .. نحنُ نتوبُ في شَفاهِنا لكنْ صدّقني
أنَّ صُدورَنا لمْ تتُبْ فيها الحَربُ عن الاشتعالِ !
أتُراكَ لو مِتَّ وجاءَك المَلكانِ فإلى أيِّ أرضٍ تُراكَ أقرَبُ
دارُ السّلامِ ؛ أم عالمُ الحَربِ !؟

صدّقني .. إنّ الحَربَ في لُجّةِ القيعانِ مِنّا
نَحرُسُها، نُوقِدُها، ونَشدُّ حَولَها السِّياجَ ..
الحَربُ وُلدَتْ مِنّا !
وبايَعناها بكلِّ كلمةٍ خرجتْ منا مِثل حطَبٍ يستَعرُ لها !
بايَعناها بكلِّ تَسامحٍ أطفأناهُ ونَفثْنَا التَّتَبعَ للعَوراتِ بيَننا دُخاناً
فمتَى سَنَصِل مَرتبةَ
"وإذَا خاطَبهم الجَاهِلون قالوا سَلاماً"
لَقد بايعْنا الحَربَ بكلِّ سرٍّ كشَفْنا فالتَهبَ الجَحيمُ بَيننا وأوَغرَ الصُّدورَ صِراعاً !
ولو رَحلنا إلى "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"
لَنَالَنا بعضُ أَمْنِها.

يا وَلدي .. لِتَكُنْ مَهمّتُنا "أفْشوا السّلامَ بَينَكم"
حتّى نشمَّ براعِمَ الغُفرانِ ، ويَليقَ بِنَا "إنّك عفوٌ تُحِبُّ العَفوَ فأعفُ عنّا"

ظامِئةٌ أوطَانُنا يا ربُّ للسّلامِ ..
ظامِئةٌ .. مثلَ خَيلٍ أجهدتْها المَعاركُ ، وغاَصتْ في الوَحلِ خُطوتُها الأخيرةُ !
ظامِئةٌ مَراكبُنا لسلامِ الشطآنِ فقد هدَّها المَوتُ في البحارِ

فيا قومُ
أفشوا السّلامَ
عسى اللهُ أن يَهديَ به "من اتّبع رِضوانَه سُبُل السّلام"

قال التّلميذُ : فكيفَ أبْلُغُها ؟!
قال الشّيخُ: صِناعةُ السّلامِ تحتاجُ صبراً !
أنْ تصبِرَ على استدراجِ السّفحِ لك .. على شَهوةِ القاعِ فيكَ للانتقامِ
على راياتِ الشيّطانِ في صَوتِك إذْ يهزُّها لك حتَى تُخرِجَ الغُثاءَ
على روحِ قابيلَ فينا؛ إذْ حرّكتْ يدَه نارُ الغَضبِ.
أما سَمِعْتَ قولَه: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ"

تحتاجُ أن تكسِرَ سِهامَ الحَربِ مِن جُعبتِكَ ..
سِهامَ الشّيطانِ فيك
حتّى يُقالَ لكَ: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ"

يا وَلدي .. إنّ قطَراتِ هابيلَ هي أقصَى ما تطَاولَتْ إليه مُخيّلةُ المَلائكةِ ..
واليومَ .. تَغيبُ كلِّ تَوقعاتِ المَلائكةِ أمامَ ما تَلتقطُهُ مِن أرواحِ الأطفالِ على طُرقاتِ الشّام !

يا ولدي .. يَكفي أوطَانَنَا هذا الخَريفُ الطّويلُ
يَكفينا اصفرارُ الأُمنياتِ ..

ولنكنْ نحنُ ليلةَ القَدرِ في أُمّتِنا

فيــــــــــا ربُّ
هبْنا سلاماً لأوجاعٍ أنهكَها النّزيفُ.

ردِّدِ الّليلةَ ..
" الّلهُمّ أنتَ السّلامُ ، ومِنكَ السّلامُ ، واليك يعودُ السّلامُ
فَحيّنا يا ربَّنا بِتَحيةِ السّلامِ ، واجَعلْنا مِن أهل ِالسّلامِ ".

 

عودة
أعلى