تركيا بعيون فلسطينية: أوطان ومسافرون ومغتربون

فارس عمر

مشرف منتدى القصص والرواياترياضات وإبداعـات متحدي ا
39098.jpg

- تركيا بعيون فلسطينية: أوطان ومسافرون ومغتربون
حضور فلسطين في المؤتمر كان مشرفاً، وكل حديث عن فلسطين في هذه الخاطرة هو حديث عن فلسطين المعنى والرمز، أي عن الأمة وليس عن 27 ألف كم مربع هي مساحة الجغرافيا الفلسطينية الضيقة.
23.12.2010 04:08

أخبار العالم
لا يا سيدي اسمك ليس موجوداً في قائمة النزلاء في فندق غازي في أنقرة، الستة الآخرون موجودون أما أنت فلا. هكذا قال لي موظف الاستقبال بأدب شديد وابتسامة جميلة. يا الله لقد جئت إلى تركيا أبحث عن مكان، فإذا أنا مرة أخرى في فضاء اللا مكان. ولكن مهلاً ربما أخطأ الموظف في قراءة الأسماء. سأساعده لعلِّي أجد اسمي هنا، هيا بسرعة قبل أن تتمكن مني المشاعر الفلسطينية المعتادة في مثل هذه المواقف، مشاعر الضيف الذي يطالبه أهل المكان بالرحيل.
بداية الرحلة: قلق وهواجس
هكذا كُتب علينا أن نبحث عن المكان تلو المكان كلما تغيّرت مفردات الزمان أو ضاق الناس بنا وبقضيتنا، ببساطة لأن الفلسطينيين دائماً يقولون إنهم مظلومون، ومع تعاطف أغلب الناس مع فلسطين، إلا أن أعينهم توحي بالأسف والشفقة لأنهم لن يستطيعوا غالباً تقديم ما يطلبه هؤلاء اللاجئون النازحون من مساعدة.
يا نفسي كفى عبثاً، أكلُّ هذه المشاعر لمجرد عدم وجود اسمي هنا. لماذا يبالغ الفلسطينيون في فهم الأمور بطريقة سوداوية، ثم ما الذي يستدعي هذا الاستغراق العدمي في تأويل الأمور؟ هل كل ملمة أو محنة عارضة تعني استحضار كل الألم السابق؟ وما معنى هذا الغباء الوجداني؟
لا بأس.. سأعيد قراءة الرحلة من أولها. لكن ما المقصود بالأول هنا ..من سنة مولدي عام 1973 بعدما خاض العرب حربهم على إسرائيل بشهرين؟، أم عندما ذهبت مع أبي وأخي الأكبر لندفع نحن الطفلين تبرعاً رمزياً لأبناء شعبنا الخارجين من جحيم الموت وأنيابه في صابرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982؟، أم من الحرب على العراق عام 1991 التي انقسم فيها بيتنا إلى معسكرين تماماً كالعرب الرسميين؛ البعض يسمع أخباراً من الإعلام الأردني لأنها تؤكد أن العراق صامد، وآخرون يسمعون البي بي سي لأنها تشير إلى قرب انتصار المتحالفين في النظام العالمي الجديد، الظالم كما القديم والكاذب بصورة أقبح.
تباً لذاكرتي السياسية.. ألا أستطيع إخراج نفسي من هذا الألم المتراكم؟، لماذا لم أذهب إلى قاعة الطعام في الفندق حيث دعاني أصدقائي المصريون بطيبتهم لمقاسمتهم وجبة عشائهم حتى تحل مشكلة الفندق؟ ولماذا لا أقرأ شيئاً من الكتب التي اصطحبتها معي في سفري؟ وفيم الإصرار على الحزن حتى في أوقات المرح؟
دقائق قلق قبل أن يقول موظف الاستقبال: مكانك في فندق إيلير بانكسي، ومنظمو المؤتمر وفروا لك سيارة خاصة لنقلك إلى هناك. فقلت في نفسي الحمد لله، وجدت المأوى ولن تكون هناك مخيمات أخرى، فالفلسطينيون يخشون دائماً من أن يكون مكان لجوئهم القادم أسوأ من الحالي. بيد أن الفكرة التالية كانت أجمل: باحث مبتدئ سيركب بمفرده سيارة خاصة، الحمد لله تغيرٌ استراتيجي.. من شخص بلا فندق إلى دبلوماسي كبير لأربعة أيام يمثّل فلسطين في تركيا، سفيراً للعلم ولفلسطين الطيبة.. هكذا دون اتفاق أوسلو ودون مرحلة انتقالية.. ياليتني أبقى في تركيا التي تقدر الباحثين الصغار قبل الكبار.
دقائق أخرى ويأتي السائق، لكن مهلاً هذا رجل أنيق، سائق يرتدي حلّة كاملة دون رابطة عنق، لا يمكن أن يكون سائقاً فحسب فهو مثقف جداً ويستطيع التواصل بالإنجليزية، يتحدث عن التغيّر الذي حدث في تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة أواخر 2002، ويرى أن الرؤية الاستراتيجية الجديدة وإصلاح الاقتصاد والانفتاح على الجيران هي السرُّ في تجدد النموذج التركي. كلام عميق، لا يصدر إلا عن عقل واعٍ، لم تصدمني هويته.. باحث يحضّر لنيل درجة الدكتوراة، وهو يحملني في سيارته الخاصة متطوعاً ليساعد في إنجاح المؤتمر العربي-التركي. وأهم من هذا يرفض أن يخبرني عن اسمه، ما معنى التفاني والإخلاص إن لم يكن متجسّداً في هذا الرجل؟
عشرون دقيقة من الحوار العلمي والثقافي الممتع قبل أن أصل فندقي شاكراً لهذا الزميل معروفه وصنيعه معي، آملاً أن أعرف اسمه في المؤتمر غداً.
التحام مصر وفلسطين في تركيا
أصعدُ إلى غرفتي في الدور الثالث حيث أشترك مع زميلين آخرين في نفس الغرفة التي كانت مسرحاً لحوار فلسطيني- مصري شعبي، فلسطينيان مقابل مصري واحد. كنّا أنا ومنير الفلسطيني الثاني في الغرفة "نحاصر" زميلنا المصري، لكننا لم نضع في طريقه معبراً ولا حاجزاً. شعور مدهش أن يكون الفلسطينيون في مكان ما أكثر من المصريين، والأجمل تلك المودة التلقائية التي تولّدت بيننا نحن الثلاثة في غضون دقائق لا تتجاوز الثلاثين عدداً.
منير مقدسي من عائلة معروفة، يحضّر للدكتوراة في بريطانيا. لكن ليست هذه أهم صفاته؛ فهو خفيف الظل إلى حد العبث أحياناً وكان يقول "أنا مقدسي شطة زيادة لأن أمي من غزة"، أكاديمي جاد حاضر البديهة قوي الحجة، زيادة على أنه يعرف كل شيء عن المسلسلات والمسرحيات والأفلام المصرية تقريباً، بصورة أدهشتني أنا الفلسطيني المقيم في مصر منذ 26 عاماً دون أن أخرج منها إلا في زيارة لمدة يومين إلى رفح الفلسطينية في سبتمبر عام 2005، بعدما أعاد الإسرائيليون انتشارهم خارج غزة ليحاصروها من الخارج بدل التواجد داخلها.
كان زميلنا المصري من محافظة الشرقية، ومنها أحب أصدقائي إلى نفسي. كريم الخلق هادئ الطبع ذكي البديهة، كلما تحدثنا عن مصر يزداد بنا (أي منير وأنا) إعجاباً، يندهش من أن الفلسطينيين يتابعون أدق تفاصيل الحياة المصرية على كل الصعد وعبر كافة الوسائل.
في ليلة السفر كان نقاشنا الأخير، نقاش معتاد بخاتمة غير معتادة، سألت زميلي المصري بابتسامة ودودة: كيف يتصور البعض أن بإمكان مصر مهما فعلت الفكاك من الفلسطينيين؟ فهم المراد فوراً وأجاب مسرعاً "هذا مستحيل". ولولا أنه رأى جوازات سفرنا لربما شك أننا من أحد الأحياء الشعبية القاهرية. وتذكرت لاحقاً ما قاله أحد أساتذتي عندما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية ربيع 2002 "دي مش زي بلدكو، دي بلدكو فعلاً". مات أستاذي وآلمني فراقه لكن كلماته لا زالت ترن في أذني كلما تصاعد الخلاف السياسي بين مصر وفلسطين. وتذكرت أستاذاً آخر قال في ندوة أوائل صيف 2010 "إن مصر وفلسطين توأم لا ينفصل، وما ربطه التاريخ لا تفرّقه السياسة".
منذ اليوم الأول للمؤتمر حملتُ لواء الدفاع عن صورة العرب في تركيا، وكنت أحذّر زملائي من السلوكيات التي تعودنا عليها في بلادنا مثل التحدث بصوت عالٍ أو المبالغة في المزاح التي تجعلنا أناساً غير جادين في أعين الأتراك وغير ذلك من السلوكيات. غير أن جهدي لم يثمر فكان بعض زملائي يأتي السلوك الخاطئ ويقول ساخراً: "أستغفر الله.. إساءة أخرى إلى صورة العرب". وأظن أن الأتراك أيضاً اعتادوا صوتنا المرتفع أثناء الطعام وفي غرف الفندق وفي الحافلة التي تنقلنا إلى المؤتمر، حيث كنا نتعاون لإخراج تقارير صحفية وإعلامية هازلة أو ساخرة نقلّد فيها كبار المراسلين والبعض يقوم بالتصوير الحي لكي نتذكر كيف كنا في تركيا عندما نعود إلى بلادنا.
كان ألطف خطأ في مؤتمر تركيا أنه جرى تعريفي في برنامج المؤتمر بوصفي باحثاً مصرياً حاصلاً على درجة الدكتوراة، فقلت لرئيس جلستي مازحاً: لقد حصلت على الجنسية المصرية والدكتوراة في مؤتمر واحد، ولم تبقَ إلا درجة الأستاذية التي يمكن إحرازها في مؤتمرين آخرين فحسب. وبقيت الكذبة سارية حتى آخر المؤتمر؛ فكل من لا يعرفني يناديني باللقب الجديد، بيد أن أصدقائي المصريين في الفندق وجدوا لقباً آخر، هو "يا كبير" لأنني كنت الأكبر سناً بين مجموعة الموجودين في فندق إيلير بانكسي، ما خلا زميلي المصري في الغرفة.

فلسطينيون وعرب غير منقسمين
ما إن ألقيت كلمتي في المؤتمر حتى أحاطني رجال ونساء لا أعرف أكثرهم إلا واحداً أو اثنين، بعضهم أتى لتقديم تحية أو بدء تعارف أو تبادل عناوين البريد الإلكتروني، وآخرون يريدون إجابة على سؤال، وواحد يريديني أن أعلن انتمائي الفصائلي بوضوح لأنه لم يتمكن من حشري في التصنيف المعتاد "فتحاوي أم حمساوي؟".
على أي حال، كنتُ أتوقع هذا، وحتى قبل أن يبدأ المؤتمر حاولتُ تحضير دفاعي وحججي عن وجود "فلسطين أخرى" غير حمساوية ولا فتحاوية بالضرورة. نعم أنا مقتنع بوجودها، ببساطة لأنني عندما أفكر في القدس لا أتذكر أياً من الفصيلين، وإنما أشاهد التاريخ الممتد قبل أن يولد أي من التنظيمين، وأتساءل هل كان السيد المسيح عليه السلام ينتمي لأحدهما؟ وماذا كانت فلسطين تعني للرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم عندما صلّى إماماً بالأنبياء جميعاً هناك حيث رمزية الجماعة ووحدة الهدف؟ وهل كان أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب يرتدي الزي الأصفر الفتحاوي أم الأخضر الحمساوي عندما دخل بيت المقدس؟ وهل فكّر القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي في الأمة كافة أم في فصائلها وخلافاتها وأحزابها وممانعيها ومعتدليها؟ .. فهل كثير على فلسطين أن تكون أكبر من فتح وحماس معاً؟ ولماذا يصر البعض على منع فلسطين من التواصل مع أمّتها وإنسانيتها دون حواجز أو "محاسيم" كما يسميها الإسرائيليون الغاصبون؟
لا شك أن القدس ترمز للإنسانية في وجعها وألمها وفنّها وحضارتها، فلماذا نصرُّ على أن نضيّق باباً جعله الله واسعاً؟ ولماذا يضطر التاريخ للوقوف فقط عند لحظات الانقسام والشقاق؟ وما هذه المقاربة السياسية الانقسامية السخيفة؟ ولماذا الإصرار على اقتلاع شجرة فلسطين ذات الأصل الثابت التي "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"؟
الغريب أن أحداً من الأتراك لم يفكر في أن يسألني عن انتمائي الفصائلي رغم أنني تحاورت مع كثير من الحضور التركي في المؤتمر، فقلت في نفسي: يبدو أنهم يرون قضية فلسطين بطريقة مختلفة عن العرب. فأنا باحث مستقل لا أنتمي إلى فتح أو حماس رغم تأييدي لضرورة الجمع بين التفاوض الواعي والمقاومة الرشيدة، كلٌ في مقامه دون إفراط أو تفريط!، في معادلة لم يعد كثير من العرب يرغب في الاستماع إليها بعد أن أصبحوا منقسمين ما بين التوجهات الغربية الداعية للاستقرار في المنطقة والتوجهات الحضارية الاستقلالية الداعية إلى تغيير هذا الوضع الراكد وليس المستقر.
استمتعتُ في تركيا بأن الباحث المستقل - مثلي- لا يضطر لأن يدافع عن اتهام موجّه له بالانتماء السياسي، حيث يُنظر لإرائه العلمية بوصفها اجتهاداً وليست رأياً فصائلياً أو أحكاماً يقنية أو حتميات سياسية. وتذكرت حينها مقالة قرأتها للصحفي اللبناني المتميز عبد الوهاب بدرخان رأى فيها أن العرب جميعاً وليس اللبنانيين فقط أصبحوا منقسمين بين 8 آذار و 14 آذار، وكلا الفريقين متربص بالآخر، وهذا ما يفسر انحدار السياسة في بلادنا ونزعة إقصاء الآخر المختلف بدلاً من البحث عن سبل التواصل والتعاون وتجسير الخلاف لمواجهة التحديات المشتركة أمام الجميع.
حضور فلسطين في المؤتمر كان مشرفاً، وكل حديث عن فلسطين في هذه الخاطرة هو حديث عن فلسطين المعنى والرمز، أي عن الأمة وليس عن 27 ألف كم مربع هي مساحة الجغرافيا الفلسطينية الضيقة. فلسطين هنا هي الأمة بأفراحها وأتراحها، بحصارها وحريتها، بقلبها الضاحك وعينها الدامعة، بمميزاتها وعيوبها، بإنسانها الراغب في النهوض وبأطفالها الذين نصرّ على وأدهم قبل أن يولدوا، بنسائها الاستشهاديات وبفلاحاتها البسيطات في حقولهن، بأمهات الأسرى وبالأعضاء في مجلس فلسطين التشريعي المعطّل، بكل شئ مختلف فيها، في معنى يجمع الأشياء ويفرقها وفقاً لإرادة الإنسان، بطريقة فيها من كل شئ شيئاً، وفي مركب يعني الإنسان المستخلَف والمبتلَى والمحاصَر والمجوّع والثائر والواقعي. فلسطين التي يمكن لكل أحد أن يعرفها عندما يرسم الخط الممتد بين أحمد ياسين ومحمود درويش دون تناقض ولا ثنائيات موهومة أو متوهمة، ببساطة لأن "على تلك الأرض ما يستحق الحياة".
أربعة فلسطينيين في المؤتمر.. اثنان يدرسان الدكتوراة في تركيا وآخران من خارجها، أثاروا إعجاب الحضور، لم يختلفوا ولم يتشاجروا رغم تمايز اتجاهاتهم الفكرية، شباب متفاعل يكسب أرضاً لقضيته ولأمته. ربما يمكن للمرء أن يتفاءل بمستقبل فلسطين في غضون عشرين عاماً إذا تقلّصت الخلافات العربية-العربية التي ظهرت في المؤتمر مرتين على الأقل فيما استطعت أن أرصده أنا بأم عيني وأفلسفه على النحو التالي.
الخلاف الأول كان عراقياً-سورياً عندما قال باحث عراقي مشارك في المؤتمر إن الدور التركي الجديد في المنطقة المتصالح مع الجيران، هو دور غير أصيل؛ أي هو دور بالوكالة تحرّكه أطراف غربية بالضرورة. دخل معه في الحوار باحث سوري رافضاً الفكرة بأدب جمٍّ ينم عن شخصية عالِم. لكن أخانا العراقي أصرّ على رأيه وقال إنه يحمل درجة الدكتوراة وبالتالي فلا سبيل لمناقشة صحة فكرته. وقد أحسن الباحث السوري التصرف، فتأخر خطوتين بهدوء وكياسة وترك لي دفة الحوار، وبدا لي أن أسأل الأخ العراقي عن رأيه في السياسة التركية تجاه قضية فلسطين منذ حرب غزة فأقرّ بإيجابيتها وشجاعتها. فتأكدتُ مرة أخرى أن اسم فلسطين ساحر ويمكنه تجميع كلمة الأمة بسرٍّ لا زلتُ أجهله، وهكذا هدأ النقاش، وتم تجاوز الخلاف العراقي - السوري بوساطة رمزية فلسطينية.
مشارِكة عراقية أخرى أبدت إعجابها بمداخلاتي في المؤتمر، وقالت لي بالحرف "إيش قد ما أريدك أنت" بلهجة عراقية محببة. لم أستغرب لأنني تحدثت عن تراجع مكانة إسرائيل الإقليمية وفرص أفضل أمام قضية فلسطين بعد أن "تعولمت" وصار الأتراك والمتضامنون الدوليون يخاطرون بأنفسهم من أجل فلسطين والإنسانية المحاصَرة في غزة. ببساطة قرأتْ تلك الأخت العراقية فيما أقوله مناصرة للمظلومين في فلسطين والعراق وغيرها، وبدا عندها أن المظلومين يمكنهم التفاهم عبر لغة خاصة ربما لا يدركها غيرهم إلا بشق الأنفس. وقد صرتُ بسبب موضوع دراستي العليا أتابع الشأن العراقي جيداً ربما لأن العراق ينافس فلسطين اليوم في المقاومة والبؤس بكل معادلات القوة والضعف التي يعرفها كثير من العرب والمسلمين، وإن تنوعت الصور. وأخشى اليوم فلسطيناً ثالثة في السودان بعد استفتاء التاسع من يناير القادم، وربما تكون هناك فلسطين رابعة وخامسة لأن "الحبل على الجرار" كما يقول أهل الشام.
الخلاف العربي الثاني في المؤتمر ظهر في الجلسة الختامية التي كانت مليئة بالاقتراحات المتفائلة. بيد أن تركيز بعض المنظمين على تخصيص الجامعات المصرية بالذكر في التعاون مع الجامعات التركية أثار اعتراض بعض المشاركين من السودان والجزائر؛ إذ طالبوا بوضع "الجامعات العربية" في التوصيات وليس "الجامعات المصرية".
لم أستغرب حدوث ذلك، فهنا يتنافس العرب على تركيا، وكلٌ يريد أن تكون تركيا العدالة والتنمية في صفه ليستقوي بها على خصومه، وبدا لي أن على الأتراك أن يبدأوا في دراسة الخلافات العربية-العربية إن هم أرادوا فعلاً التواصل مع عالم عربي ممزق، لا يحسن كثيرون فيه فن السياسة وتحالفاتها وتجميع المصالح لمواجهة الخطر المشترك بدلاً من الانقسام المذموم.
طبعاً مرّ ذلك الخلاف، لكني أتوقع أن يعود مجدداً كلما انعقد المؤتمر العربي-التركي، وأتعشم أن تستطيع مصر التي نحبها جميعاً أن تعيد طرح نفسها ومشروعها العربي لتكون رمزاً مجمّعاً للعرب والعروبة، وأن تتمكن من احتواء شقيقاتها العربيات الأصغر منها بصبر لا يليق بأحد مثلما يليق بشعبها الودود؛ فمصر معروفة بحنانها ومشاعرها الفياضة.
أحزان المحرومين من رؤية استانبول
انقضى المؤتمر وحان وقت السفر، الآن ساعود إلى القاهرة، لديّ عدد من الالتزامات العاجلة، لابأس سأكتم رغبة في نفسي بزيارة مساجد مدينة استانبول العريقة ومشاهدة سحر المدينة المطلّة على مضيق البوسفور. وكنت أتمنى أن ينعقد مؤتمرنا فيها بدلاً من انعقاده في أنقرة؛ فاستانبول عنوان للمشتركات العربية-التركية؛ إذ تحوي مكتباتها حوالي ثلاثمائة ألف مخطوطة عربية من أصل حوالي ثلاثة ملايين مخطوطة عربية موجودة في مختلف أنحاء العالم بما فيها الفضاء العربي، أي أن حوالي 10% من التراث العربي المكتوب تحتضنه هذه المدينة وحدها، وهو ما يدل على دورها كمركز معرفي عزّز التبادل الثقافي وأسهم في تفعيل التراث العربي فضلاً عن حمايته وصيانته من الاضمحلال على مدار سنوات العهد العثماني كله.
في نهاية الرحلة فتشتُ في نفسي عن مشاعري فوجدت راحة واطئمناناً نفسياً، أنا راضٍ عن الرحلة، وأتمنى أن أعود لزيارة تركيا مرات أخرى، بينما تحدث مشاركون آخرون أمامي عن السلبيات التي لا بد أن تعتري كل جهد بشري مهما كان متقناً أو مخلصاً؛ فالكمال لله وحده.
أستمر في قراءة مشاعري، أجد شيئاً غريباً .. لقد افتقدت الشعور بالغربة أو الاغتراب في بلاد الأناضول. ما هذا هل رأيت في تركيا شيئاً لم أعرفه في كل سني عمري الماضية التي تزيد على الخامسة والثلاثين بسنتين؟ لماذا لم يطرق شعور الغربة والوحدة بابي في تركيا وهو لا يكاد يفارقني في الوطن العربي الكبير. إجابة بسيطة وسهلة.. لقد رأيتُ شيئاً مهماً جديداً.. شعب يريد أن ينهض ويحسن التخطيط لنهضته ولا يتعلّل بالصعاب ومؤامرت الخارج التي ستبقى موجودة ما بقيت الدنيا.
في المطار كان كل شئ عادياً، إلا طفلة تركية لا يتجاوز عمرها عدد أصابع اليد الواحدة، تأخذ العين بجمالها الطفولي فقلتُ "ما شاء الله" مخافة أن أحسدها، تلعب مع أمها فترى في الطفلة جمال وجه تركيا وترى في حنان الأم رغبة تركيا المتجددة في احتضان الأمة من ذلك الباب الصغير الكائن على مدخل مدينة القدس. تبتعد الأم والطفلة معاً وتغيبان عن ناظري، دقائق فقط وأسمع صراخ الطفلة الهستيري ليخرجني من استغراقي في قراءة أحد الكتب التي اصطحبتها معي في رحلتي. ما هذا؟ هل أصاب الطفلة مكروه أم حدث لأمها شئ؟ أبداً لقد فقدت الطفلة أمها في مكان ما من المطار وعادت إلى جواري تبحث عن أمها، وهي لا تتحدث إلا التركية وليس من سبيل للتواصل. ما هذا ؟ يبدو أن هذه الطفلة ستعيش الآن وضعاً فلسطينياً، ستكون الضعيفة التي يتجاهلها الآخرون إما لأنهم أضعف منها أو لأنهم لا يفهمون ماذا تريد.
يا طفلتي.. أجئتِ تذكريني بمشاعري الفلسطينية ثانية وقد سرني أن أنسى بعضها في بلدكِ، دعوتُ الله من فوري أن تأتي أم الطفلة بسرعة إلى ذات المكان، وللتوّ تجمع عدد من الأتراك يهدئون روع الطفلة، فعرفت أنهم يتضامنون في محنهم، ولم يطل الانتظار حتى اهتدت الأم إلى المكان واحتضنت ابنتها التي أفاضت ضحكاتها على الحضور حتى نسوا أنها كانت تائهة باكية قبل أقل من عشر دقائق، وتمنيتُ ساعتئذٍ أن تهتدي الأمة أيضاً إلى احتضان فلسطين حتى تعود البسمة إلى قلوبنا جميعاً، أطفالاً وأمهات وشباباً وشيوخاً.
الآن أركبُ الطائرة. أغادرُ استانبول ولم أرَ منها شيئاً سوى مطارها الدولي ومنظرها الخلاّب من الجوّ، مدينة تداعب البحر ولا تخشاه، وتثبت حضورها حتى لو ارتفع الموج وازدادت الأعاصير المعاكسة.
كان الجو غائماً وماطراً فحرمتُ من أن أودّع استانبول من الجو، وأسِفتُ على ضياع فرصة مشاهدة منظر البوسفور الرائع، لكن الطيار التركي كان ماهراً وقائداً مستحقاً يعرف وجهته، وتساءلت في نفسي عن عدد مساعديه.. وهل يا ترى أخذ برأيهم أم مارس حقه في القيادة الاستبدادية كما يفعل قادة وطيارون آخرون، أغرقوا مراكبهم وبلادهم رغم الرياح المواتية.
إلى مطار القاهرة ونهاية الرحلة
حطت طائرتنا على أرض مطار القاهرة، وبدأ المسافرون في إنهاء إجراءات الوصول فعادتْ إليّ مشاعري الفلسطينية المعتادة، ياترى كم ساعة سأقف قبل الدخول بسبب هذه الجنسية، أدعوك يارب أن تجعلني أدخل تماماً مثل أي مصري يعود إلى وطنه.
اتصلتُ بوالدتي راجياً أن تدعو لي بالشئ نفسه، وكانت فعلاً ساعة إجابة. لم يحاسبني أحد على فلسطينيتي، بالعكس وجدت ترحاباً، يبدو أنه أصبح لفلسطين مكان في العالم وأنه يتسع بالتدريج مع زيادة اعترافات دول أمريكا اللاتينية بها. يتحدث الضابط المصري بالإنجليزية مع القادمين من رحلات دولية. سألني الضابط بالإنجليزية معتقداً أني غير عربي " من أين جئت؟" فرددت عليه بلغة عربية فصيحة "قادم من تركيا"، وأعطيته وثيقة سفري فابتسم قائلاً: "راجل فلسطيني محترم وبتتكلم عربي كمان؟ تفضل". لا أسئلة سوى عن الأمتعة، كنتُ سعيداً للغاية، يبدو أنني أصبحت مصرياً أخيراً بدليل أني خرجت من المطار مع المصريين تماماً في أقل من 10 دقائق. وعندها تمتمتُ في نفسي "الحمد لله الذي تتم بنعمه الصالحات"، داعياً أن تكون زيارتي القادمة إلى تركيا أسرع مما أتوقع.
أتذكرُ الآن بداية الرحلة وابتسامة موظف الاستقبال في الفندق ومشاعري، وأجزمُ أن الأمور سارت بأفضل مما كنت أرجوه، وأظن أنني لن أنسى رحلتي هذه في بلاد الخير والجمال، ولن أكتب مستقبلاً إلا ما يقرّب العرب من الأتراك، فقد كفانا جفاءً مصطنعاً يباعد الأمة ويضعفها في وقت لم يعد يحتمل فرقة وخصاماً، وأتذكر الآيتين الكريمتين.. "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً".
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطيني مهتم بالشؤون العربية والإقليمية- مصر
 
رد: تركيا بعيون فلسطينية: أوطان ومسافرون ومغتربون

آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ يا أخي فارس ها هي مواقفنا العربية اتجاه كل فلسطيني
صدقاً لهالكلام المكتوب في يوم من الايام خطر على بالي اسافر لدوله عربية ما واعمل هناك أول سؤال نسألت هو هل انتي جنسيتك فلسطينية أو أردنية فكان جوابي فلسطينية للأسف الشديد كان الجواب لا تقبل الجنسيات الفلسطينية للعمل .
يسلمووووووووووووو اخي فارس على مواضيعك التي بجيبها على الجرح
احترااااااااااامي
 
رد: تركيا بعيون فلسطينية: أوطان ومسافرون ومغتربون

آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ يا أخي فارس ها هي مواقفنا العربية اتجاه كل فلسطيني
صدقاً لهالكلام المكتوب في يوم من الايام خطر على بالي اسافر لدوله عربية ما واعمل هناك أول سؤال نسألت هو هل انتي جنسيتك فلسطينية أو أردنية فكان جوابي فلسطينية للأسف الشديد كان الجواب لا تقبل الجنسيات الفلسطينية للعمل .
يسلمووووووووووووو اخي فارس على مواضيعك التي بجيبها على الجرح
احترااااااااااامي
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه . ثم ألف آه الجرح واحد يا ابنة التحدي . من هو الفلسطيني , انه أخي ابن بلاد الشام ,وأخي في كل معايير الدين والأرض واللغة والعادات والتقاليد والهموم والآمال ....
أبكي على حال الحكومات والمواطن العربي , كما أبكي على حال أخوتي من فلسطين ..
عشت لحظات رائعة مع هذا الشاب بكل كلمة كتبها , وبكل موقف صار معه , وبكل رأي طرحه . كان موفقاً لأقصى الحدود في نقل رسائل كثيرة . الى كل مواطن عربي . الى كل الحكومات العربية . الى مواقف تركيا . الى نظرته ورؤيته البعيدة المدى . كان ناجحاً في كل ما كتبه .
شكراً لمتابعتكِ واهتمامكِ وإضافتكِ المؤثرة .
سنرجع يوماً ..... خبرني العندليب
لكِ تقديري واحترامي
e1772d1def3cee63bdbb9bdc3e36776f.jpg
 

عودة
أعلى