التصفح للزوار محدود

ولكنّها تدووور

ميسون قصاص

Well-known member

ولكنّها تدور


للكاتب الراحل : عبد الوهاب مطاوع
عن كتابه : صديقي لا تأكل نفسك





في كتابه (( رسائل إلى ابنتي أنديرا )) روى الزّعيم الهنديّ نهرو نقلًا عن حكيم زار الهند منذ ألف وثلاثمائة سنة ، أنّه شاهد فيها رجلًا يطوف بالقرى مرتديًا حزامًا من النّحاس فوق بطنه وواضعًا فوق رأسه مشعلًا مضيئًا ، فإذا سئل عن سبب تجوّله بهذه الهيئة الغريبة قال : إنّ عقلي عظيم إلى درجة أخشى معها أن تنفجر بطني من المعرفة إذا لم أرتد هذا الحزام ، أمّا المشعل فإنّي أضعه فوق رأسي لأبدّد به ظلام الجهل !!!
ومنذ اكتشفت هذه الشّخصيّة العجيبة وصورتها تقفز إلى خاطري في مواقف ومناسبات عديدة في حياتي ، فكثيرًا ما ألتقي بأشخاص يعتقدون أنّ بطونهم سوف تنفجر من فرط المعرفة ... أو من عظمة شأنهم التي لا يعترف بها أحد لأنهم مغبونون وغير مقدّرين في أوساطهم الجاهلة !
وكثيرًا ما غالبت نفسي لكي أمنعها من الضّحك إذا قفزت هذه الصّورة فجأة إلى خيالي وأنا مشتبك في مناقشة حامية مع واحد من هؤلاء ثمّ كثيرًا أيضًا ما ذكرتني هذه الصّورة بنقائضها من المثقّفين الحقيقيّين والفلاسفة والعلماء الّذين عرفوا الكثير وظلّوا إلى آخر أيّام حياتهم ظمأى إلى المعرفة يتساءلون عن معاني الأشياء .. ويشكّون في صحّة ما عرفوا ويطلبون اليقين بلا جدوى .
فأتذكّر مثلًا سقراط العظيم الّذي يقول : أعرف شيئًا واحدًا هو أنّني لا أعرف شيئًا !.
أو أتذكّر الفيلسوف الشّاكّ أرسليوس الّذي كان يقول : لست أدري ولست أدري أنّني لا أدري !
أو أتذكّر الإمام أبي حنيفة النّعمان الّذي سئل مرّة عن مسألة في الفقه هذا الّذي تفتي به هل هو الحقُّ الّذي لا شكّ فيه ؟ فقال متحيّرًا : لا أدري ، لعلّه الباطل الّذي لا شكّ فيه !!!
أو أتذكّر قول الشّافعيّ الّذي سئل مرّة عن مسألة في الفقه فسكت فقيل له : ألا تجيب يرحمك الله ؟ فقال : والله لا أجيب حتّى أعرف هل الفضل في سكوتي أم في جوابي ؟!
والحقّ أنّي لا أكره شيئًا قدر كراهيتي لأمثال هذا الرّجل الهنديّ ـ الّذي بدأت به مقالتي ـ في كلّ زمان ومكان ... ، فالمغرورون دائمًا هم أعداء أيّ تقدّم وأيّ جديد تأتي به البشريّة ، لسبب بسيط هو أنّهم يعتقدون أنّ ما يعرفونه هم وحدهم هو اليقين وأنّ ما يأتي به الآخرون هو دومًا الباطل ، ويرفضون دائمًا أن يُخضعوا هذا الجديد للامتحان العقليّ فإذا ثبتت صحّته قبلوا به وإذا ثبت بطلانه رفضوه .
والغرور يا صديقي دائمًا قرين التحجّر ورفض الجديد . وأصحاب العقول المتفتّحة العطشى دائمًا للمعرفة هم الّذين يعرضون الأفكار الجديدة الّتي يسمعونها على عقولهم ... ويقبلونها ... ويتبيّنون فيها جوانب الصّحّة وجوانب الخطأ ثمّ يقبلون منها ما تقبله عقولهم ويرفضون ما ترفضه . أمّا الرّفض مع سبق الإصرار والتّرصّد .. وقبل المناقشة والتّفكير فهو دائمًا طبيعة الحمقى والمغرورين الّذين عطّلوا تقدّم البشريّة على مرّ العصور ! .
فأمثال هذا الرّجل الهنديّ هم الّذين كذّبوا الأنبياء بلا استثناء حين جاؤوهم بالهداية وهم الّذين كذّبوا العلماء والمكتشفين ووضعوا في طريقهم العراقيل ، وهم على سبيل المثال الّذين كذّبوا العالم الإيطالي جاليلو حين قال : إنّ الشّمس هي مركز الكون وأنّ الأرض والكواكب الأخرى هي الّتي تدور حولها وليس العكس كما كانوا يعتقدون ، وبدلًا من أن يخضعوا نظرياته للبحث والتّجربة حاكموه وأدانوه وقضوا عليه بأن لا يغادر بيته وأن يقضي فيه ما بقي من حياته لا يزور ولا يُزار ؛ بل وأن يعلن على النّاس أنّ ما جاء به ليس صحيحًا وأنّ الأرض لا تدور حول الشّمس فامتثل لما أُمر به لكنّ المؤرّخين ذكروا إنّه حين سمع الحكم عليه أحنى رأسه ونظر إلى الأرض ثمّ قال هامسًا وبإصرار : ولكنّها تدووور !.
وأمثال هؤلاء هم أيضًا الّذين كذّبوا الرَّحّالة
الإيطاليّ ماركو بولو حين عاد من رحلته إلى الصّين وروى للنّاس عن هذه البلاد العجيبة الّتي عاش فيها 26 سنة فلم يصدّقه أحد لأنّهم كانوا يعتقدون بيقين أنّه لا حياة وراء بحار الجنوب ، فألّف كتابًا عن رحلته استغرق في تأليفه سنة كاملة فلم يقرأه أحد ولم يصدّقوا حرفًا ممّا جاء فيه ، وحين أدركته الوفاة طلب منه رجل الدّين أن ينقذ روحه من العذاب في الدّار الآخرة بأن يتبرّأ من أكاذيب هذا الكتاب، فأجابه هامسًا : لكنّي لم أذكر فيه سوى نصف الحقيقة يا سيّدي ! .
وهكذا في كل ّ العصور كان هناك دائمًا من يعتقدون أنّ ما يعرفونه هم وحدهم هو اليقين الّذي لا شكّ فيه وأنّ ما يعرفه غيرهم هو الباطل الّذي لا شكّ فيه ، والّذي لا يستحقّ حتّى سماعه أو مناقشته ! .
ونحن مطالبون يا صديقي بأن نسمع أوّلًا لكلّ رأي يُعرَض علينا وأن نناقشه ونمتحن أدلّته فإذا ثبتت لنا صحّته أو معقوليّته قبلنا به وإذا ثبت لنا العكس رفضناه .
أمّا أن نرفض كلَّ شيء قبل أن نعرفه ونناقشه اعتقادًا منّا بأنّه ليس لدى الآخرين ما يمكن أن يضيف إلى معارفنا الجديد أو أنّ لدينا نحن فقط اليقين الأكيد فهذا هو الطّريق الّذي سار فيه كلّ المتحجّرين من أعداء الفكر الحرّ في كلّ العصور فإذا وجدت نفسك ذات مرّة ترفض الاستماع للآخرين وتتشبّث برأي لم تمتحن صحّته من قبل وتدافع عنه بقوّة العاطفة والانفعال وحدها لا بقوّة العقل ... فأنزل يدك قليلًا إلى حزامك وتحسّسه بأصابعك لترى أمن جلد هو أم نحاس فقد يذكّرك ذلك فجأة بتلك الهيئة المضحكة الّتي يبدو فيها من يعتقدون خطأ أنّهم وحدهم الّذين يعرفون دائمًا ما لا يعرفه الآخرون !.
 
سررت بموضوعك القيّم أختنا الفاضلة ميسون .
أتمنى أن نقرأ لك مواضيع أخرى ثمينة .
 
شكرا لك اختي ميسون
 
بارك الله بكم أخي الكريم فارس وأخي الفاضل أبا رزان وأختنا تاتي ... وسيكون لدي قريبا عددا من مقالات هذا الأديب الراااائع وأنصحكم والجميييع بالقراءة له فمقالاته ماتعة جامعة ... وسيجد كثيرون منّا ضاّلتهم في كتبه الزاخرة بالثقافة على مستوياتها مختلفة ...
 
شكرا للموضوع القيم ميسون
واسال الله الرحمة للكاتب عبد الوهاب مطاوع
 
شكرا للموضوع القيم ميسون
واسال الله الرحمة للكاتب عبد الوهاب مطاوع

شكر الله لك ولنا ...
ورحم الله أعلامنا ومبدعينا من أبناء أمتنا ... أحياء وأمواتا ...
فإنه ليؤسفني أن أقول أنهم محاربون كجاليلو القائل ولكنها تدور ...
وأمة تحارب مبدعيها أمة تعاني من نقص المناعة ... إيدز من نوع آخر ... والله المستعان
 

عودة
أعلى