التصفح للزوار محدود

أحوال المحتضر ..

الصيفي

Well-known member
أحوال المحتضر



تأليف : محمد عبد العزيز أحمد العلي



دراسة وتحقيق



الناشر : الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .


المقدمـة :



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .


أما بعد .


فإن معرفة الإحتضار ودراسة أحوال المحتضر، الثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة، التي بمعرفتها والإيمان بها يحصل صلاح الباطن المترتب عليه صلاح الظاهر واستقامة السلوك، وقد لحظت خلو المكتبة الإسلامية من كتاب يحقق أحوال المحتضر، فيثبت ما ثبت في النصوص الشرعية، ويترك ما لم يثبت في مصدري التلقي، فلم تفرد ـ حسب علمي ـ أحوال المحتضر، مع أهميتها العقدية والشرعية، في كتابة مستقلة محققة، وإنما وجدت منثورة في بعض الكتب التي تحدثت عن الموت واليوم الآخر، ودون تحقيق وتمحيص، يثبت ما أثبته الشارع من تلك الأحوال، ويستبعد ما يذكره بعض الوعاظ والقصاص من الأمور التي ليس لها سند من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا عقدت العزم على جمع مسائل هذا الأمر العظيم، وتحقيقها، إسهاماً في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة، وزيادة في نشر العلم الشرعي، وعظة وعبرة لأولي الألباب .

وقد بدأت هذا البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره إجمالاً، ثم كتبت تمهيداً عرفت فيه بألفاظ الاحتضار والموت والوفاة، وبينت فيه أن الموت حق لازم لكل مخلوق .

وبعد ذلك قسّمت البحث إلى عشرة مباحث .

تحدثت في المبحث الأول عن سكرات الموت وغمراته، وجعلته في ثلاثة مطالب:

المطلب الأول : في تعريف السكرات والغمرات .

المطلب الثاني : في الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت وأقوال بعض أهل العلم في ذلك .

المطلب الثالث : بيان أن سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات، وأنها تختلف في درجة الإحساس بها.

المبحث الثـاني : تحدثت فيه عن وصف حال توفي الملائكة الكفار .

المبحث الثالث : كتبت فيه عن حضور الملائكة مع ملك الموت لقبض الروح وتبشيرهم المحتضر، وفيه ثلاثة مطالب .

المطلب الأول : ذكرت فيه أن مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح .

المطلب الثاني : بيان بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله ورحمته، وفرحه بذلك .

المطلب الثالث : بيان بشارة الملائكة الكافر بالعذاب .

المبحث الرابع : تحدثت فيه عن انقطاع التوبة بحضور الموت .

المبحث الخامس : بينت فيه أن العبد يطلب الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار .

المبحث السادس : تكلمت فيه عن حضور الشيطان عند العبد لإغوائه عند الاحتضار .

المبحث السابع : ذكرت فيه مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله وقول الخير عنده .
المبحث الثامن : تحدثت فيه عن وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت .

المبحث التاسع : تحدثت فيه عن تخيير الأنبياء بين الحياة والموت .

المبحث العاشر : بينت فيه أن الأعمال بالخواتيم، وفيه ثلاثة مطالب .

المطلب الأول : الأدلة على أن الأعمال بالخواتيم .

المطلب الثاني : حسن الخاتمة وأبرز علاماتها .

المطلب الثالث : سوء الخاتمة وأبرز أسبابها .

ثم ختمت هذا البحث بخاتمة ذكرت فيها خلاصته وأهم فوائده إجمالاً.

أسال الله إخلاص النية وصلاح العمل






المطلب الأول : تعريف السكرات والغمرات ..


المبحث الأول : سكرات الموت وغمراته .

المطلب الأول : تعريف السكرات والغمرات .

أولاً. تعريف السـكرات :

السكرات جمع سَكْرة، مأخوذة من الفعل سَكِرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسُكُراً وسَكْراً وسَكِراً وسَكَرَاناً فهو سَكِرٌ وسَكْرانُ، والأنثى سَكِرَةٌ وسَكْرَى وسَكْرَانةٌ، والجمع سُكَارَى وسَكَارَى وسَكْرَى .

والسَّكْرَانُ : خلاف الصاحي، والسُّكْرُ : نقيض الصَّحْوِ، وقولهم : ذهب بين الصحوة والسكرة إنما هو بين أن يعقل ولا يعقل .
وسكرة الموت : شدّته، وسكرة الميت غشيته التي تدل الإنسان على أنه ميّت1. قال الراغب الأصفهاني ت 502?:
“السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس، والغشي الناشئ عن الألم وهو المراد هنا”2.

فالمراد بالسكرات، إذن، شدائد الموت وأهواله وكربه التي تصيب المحتضر، بسبب نزع الروح .


ثانياً. تعريـف الغمرات .

الغمرات : جمع غَمْرَة، وهي الشدة، وغَمْرةُ كل شيء: مُنْهَمَكه وشدّته، كغمرة الهم والموت ونحوهما، وغَمَراتُ الحرب والموت وغِمَارُها: شدائدها .

وأصل الغَمْر : الماء الكثير، يقال : ماء غَمْر، أي: كثيرٌ مُغرِّق بيّن الغُمورة .



المطلب الأول : تعريف السكرات والغمرات .



وغَمَره الماء يَغْمُرُهُ غَمْراً واغتمره : علاه وغطاه، ومنه قيل للرجل : غَمَرَه القوم يَغْمُرونه إذا علوه شرفاً، وجيش يغتمر كل شيء: يغطيه ويستغرقه1.

قال الطبري ت310?: والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء، فيغطيها”2.

وغمرات الموت سكراته التي تغمر المحتضر، أي تغطي عقله وتستره، فيصاب بالغمرة والإغماء3.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 انظر لسان العرب 2/1013، 1014.
2 جامع البيان في تفسير القرآن 7/182، 183.
3 انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص678.






المطلب الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت .


أولاً : الأدلة من كتاب الله تعالى :

ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، القرآن العظيم، سكرات الموت وشدائده في أكثر من آية، منها:
1- قوله تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ).

قال الطبري في تفسير هذه الآية : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم، والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه2


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 سورة الأنعام، الآية 93
2 جامع البيان في تفسير القرآن 7/182.

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

المطلب الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت .


ثم روى عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) أنه قال : سكرات الموت1.

يقول السعدي ت 1376: ولما ذم الظالمين ذكر ما أعد لهم من العقوبة حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكربه الشنيعة، لـرأيت أمراً هائلاً، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها ( وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ) إلـى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب...2.

2- قولـه تعالى ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً )3.

3- وقولـه تعالى ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )4.

فقولـه تعالى في الآية الأولى ( رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت ) يعني ينظرون إليك يا محمد صلى الله عليه وسلم تدور أعينهم خوفاً من القتل وفراراً منه كالذي يغشى عليه من الموت، أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به وما يعانيه من سكرات وكرب 5.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 المصدر السابق ص183.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص227.
3 سورة الأحزاب، الآيتان 18، 19.
4 سورة محمد، الآيتان 20، 21.
5 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 21/89.







المطلب الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت .



يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ : من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النـزع ، فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره، ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل1.

4- قوله تعالى ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) 2.

والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته وغلبته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى ( بالحق ) أي من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه، بمعنى أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث، والوعد والوعيد، وقيل الحق هو الموت، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت، كما قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ )3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق4.

5- قوله تعالى ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )5 هذا دليل على سكرات الموت6 فإن الله سبحانه وتعالى يقول : مهلاً إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم، أيها الناس، حلاقيكم، ومن حضرهم .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 28/456.
2 سورة ق، الآية 19.
3 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 26/100، 101، وفتح القدير 5/75.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/265.
5 سورة الواقعة، الآية 83- 87.
6 انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/41.





المطلب الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت .



منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، ونحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والرؤية منكم، ورسلنا الذي يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين وغير مجزيين ترجعون تلك النفوس التي بلغت الحلقوم عند سكرات الموت إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين بأنكم غير مربوبين ولا مجزيين، ولن ترجعونها فبطل زعمكم1.
قال ابن كثير ت774هـ في تفسير هذه الآيات :

يقول تعالى ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ ) أي الروح ( الْحُلْقُومَ ) أي الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) ولهذا قال ههنا ( وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ) أي إلى المحتضر، وما يكابده من سكرات الموت ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ) أي بملائكتنا ( وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)2 وقوله تعالى ( فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مدينين3.

6- وقد روى ابن كثير ت774هـ عن جماعة من السلف أن المراد بقوله تعالى ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً )4

: الملائكة حين تنْزع أرواح بني آدم، فمنهم من تؤخذ روحه بعسر، فتغرق في نزعها، ومنهم من تؤخذ روحه بسهولة، وكأنما حلته من نشاط1.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 27/120، 121، ومعالم التزيل 4/290، 291.
2 سورة الأنعام، الآيتان 61، 62.
3 تفسير القرآن العظيم 4/301.
4 سورة النازعات، الآيتان 1 وَ 2.

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

بارك الله فيك
 
رد: أحوال المحتضر ..

اللهم اعنا على سكرات الموت
وارزقنني وجميع المسلمين حسن الخاتمة
جزاك الله عنا خيرا اخي الصيفي
وجعل مانقلت لنا في ميزان اعمالك
 
رد: أحوال المحتضر ..

المطلب الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت .



وقال ابن تيمية ت728هـ : وأما ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ) فهي الملائكة القابضة للأرواح، وهذا يتضمن الجزاء، وهو من أعظم المقسم عليه2.

وقال البغوي ت516هـ ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ) يعني الملائكة تنْزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وقال ابن مسعود: ينْزعها ملك الموت من تحت كل شعرة ومن الأظافر وأصول القدمين، ويرددها في جسده بعدما ينْزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده بعدما ينْزعها، فهذا عمله بالكفار ( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ) هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي تحل حلاً رفيقاً فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي يحل برفق3، وروي في تفسيرها غير ذلك4.

7- قوله تعالى ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) 5. دلت هذه الآية على سكرة الموت؛ فقوله ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ ) أي النفس ( التَّرَاقِيَ ) فحشرج بها عند سكرات الموت، والتراقي جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، فدل ذلك على الإشراف على الموت ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) أي: قال من حضره هل من طبيب يرقيه ويداويه، فيشفيه برقيته أو دوائه ( وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ) أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه مفارق الدنيا، حيث تتابعت عليه الشدائد، فلا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأجتمع فيه الحياة والموت، والتفت ساقاه1.
يقول السعدي في تفسير هذه الآيات : يعظ تعالى عباده بذكر المحتضر حال السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب يظن أن يحصل به الشفاء والراحة؛ ولهذا قال ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) أي: من يرقيه، من الرقية؛ لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية، ولكن القضاء والقدر إذا حتم وجاء فلا مرد له ( وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ) للدنيا ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) أي: أجتمعت الشدائد، والتفت، وعظم الأمر، وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى؛ ليجازيها بأعمالها ويقررها بفعلها، فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها، ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات لا يزال مستمراً على غيه وكفره وعناده2



ثانيا : الأدلة على سكرات الموت من السنة والأثر :


ثبتت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أن للموت سكرات، ومن ذلك :

1- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه رَكْوَة3، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول :لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول : في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده "1.

2- وعن أنس رضي الله عنه قال : لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة : واكرب أباه، فقال لها :" ليس على أبيك كرب بعد اليوم " فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها : يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب2

3- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي3 فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم "3.

4- ما رواه الترمذي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم 5.

قال أبو حامد الغزالي ت505هـ : أعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقاً بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، لا سيما وهو في كل نفس بصدده، وأعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدة ما هم فيه.

فأما القياس : الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم؛ فإن كان من الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده، والنَزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم، فألم النَزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه المنْزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم، فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها1.

أخرج ابن أبي الدنيا عن شداد ابن أوس رضي الله عنه قال : الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر2 فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما أنتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم1.

وأخرج ابن سعد ت 230هـ عن عوانة بن الحكم قال : كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به قال له إبنه عبد الله : يا أبتِ إنك كنت تقول : عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه ؟ فصف لنا الموت قال : يا بنيّ الموت أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاً، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة2.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 انظر تفسير القرآن العظيم 4/468.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 13/320.
3 معالم التنزيل 4/441.
4 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 30/18- 20، ومعالم التنزيل 4/441، 442.
5 سورة القيامة، الآية 26- 30.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 انظر معالم التنزيل 4/424، 425 وجامع البيان في تفسير القرآن 29/121.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص833.
3 الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، والجمع رِكاء، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص375.


_________________


1 أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت ح6510، وفي كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح4449.
2 رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح4446.
3 الذاقنة: الذقن، وقيل طرف الحلقوم، وقيل ما يناله الذقن من الصدر، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص328.
4 رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح 4462.
5 رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت ح979، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/502 ح979.

_________________


1 كتاب الموت: ص65- 67 ونقله ابن الجوزي في: الثبات عند الممات ص61- 63.
(2) النشر: البعث والإحياء، انظر لسان العرب 3/635.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر كتاب الموت ص69.
(2) طبقات ابن سعد 4/260، وانظر سير أعلام النبلاء 3/75، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 8/346.



يتبع بإذن الله
 
رد: أحوال المحتضر ..

اللهم اني اسالك حسن الخاتمه
بارك الله فيك واثابك وجعله في ميزان حسناتك
 
رد: أحوال المحتضر ..

المطلب الثالث : سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات .


كل المخلوقات تجد سكرات الموت ويشهد لهذا عموم قوله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )1، وقوله صلى الله عليه وسلم :" إن للموت سكرات" لكن تختلف المخلوقات في درجة إحساسها بالسكرات .
فالعبد المؤمن تخرج روحه بسهولة ويسر، ودليل ذلك ما ورد في حديث البراء ابن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن وفاة المؤمن:" ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة [ وفي رواية :المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها .... الحديث "

أما الكافر فإن روحه تخرج بشدة وصعوبة يتعذب بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن وفاة الكافر :" ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب قال :" فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب "

هذا بالجملة وإلا فإنه قد تشتد السكرات على بعض الصالحين، لتكفير ذنوبهم، ولرفع درجاتهم، كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم حيث عانى من شدة سكرات الموت، كما في صحيح البخاري في الحديث السابق ذكره .

قال ابن حجر: وفي الحديث " لا إله إلا الله إن للموت سكرات " أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته، وإما تكفير لسيئاته .

وقد ترجم إبن ماجه ت275? في سننه بعنوان : باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النَزْع ، وساق تحته قولـه صلى الله عليه وسلم :" المؤمن يموت بعرق الجبين " كما قد جاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم :" الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة "

وهذا يدل على أن الأصل تخفيف نزع روح المؤمن، إلا أنها قد تشدّد على من أراد الله سبحانه وتعالى من المؤمنين؛ تكفيراً لسيئاتهم، أو رفعاً لدرجاتهم؛ قال القرطبي في معرض حديثه عن سكرات الموت : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء فما لنا عن ذكره مشغولين ؟ وعن الإستعداد له متخلفين؟ قالوا وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته فله فائدتان:

أحدهما : أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار .

الثانية : ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة ؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين ؟ فالجواب: أن أشد الناس بلا ءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، كما قال نبينا عليه السلام ، فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً ولا عذاباً، بل هو كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم، كما إبتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار وعيسى بالصحارى والقفار، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم .

ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين، فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.

فشدة السكرات تخفف من الذنوب، وكل ما يصيب الإنسان من مرض أو شدة أو هم أو غم حتى الشوكة تصيبه فإنها كفارة لذنوبه، ثم إن صبر واحتسب كان له مع التكفير أجر ذلك الصبر الذي قابل به هذه المصيبة التي لحقت به، ولا فرق في ذلك بين ما يكون عند الموت، وما يكون قبله، فالمصائب كفارات لذنوب المؤمن، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه :" ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاحط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيراً يصب منه "



المبحث الثاني : وصف حال توفي الملائكة الكفار .


أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن حال توفي الملائكة الكفارَ، وذلك بأن الملائكة يضربون وجوه الكفار وأدبارهم، ويبشرونهم بعذاب الحريق، قال تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )

قال ابن كثير : يقول تعالى ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون : لهم: ذوقوا عذاب الحريق .

وقال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) أي كيف حال الكفار إذ جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم، وأستخرجتها الملائكة وهم باسطوا أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم أخرجوا أنفسكم .

والخبر الوارد في سورة الأنفال نزل في وصف وفاة الكفار يوم بدر إلا أنه وصف عام لوفاة الكفار في كل وقت، قال ابن كثير في تفسيره للآية السابقة : وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر ، ولهذا لم يخصصه الله تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم )

وفي سورة القتال مثلها، وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم ) أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم ، إذ إستصعبت أنفسهم وأمتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند إحتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول : أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب، ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق .

ويشهد له قوله تعالى ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) ففي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم ويقولون لهم : أين الذين كنتم تشركون بهم في الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله إدعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه الآن من الفزع والموت الواقع بكم، قالوا: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا ضرهم، وأقروا وأعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال .


وكذلك قولـه تعالى ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ )

فالله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية أن المشركين الظالمين لأنفسهم عند إحتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة يظهرون السمع والطاعة قائلين ( مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) فقال الله مكذباً لهم ( بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) أي بئس المقيل والمقام من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله وأتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم .

فقولـه تعالى ( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) أي الإستسلام والخضوع، والمعنى أنهم أظهروا الطاعة والإنقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق، فالمشركون في الدنيا يشاقون الرسل ويخالفونهم ويعادونهم، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وخضعوا وأنقادوا، وذلك عندما يعاينون الموت أو يوم القيامة، ولكن لا ينفعهم ذلك، لأن الإنقياد عند معاينة الموت لا ينفع .

وقد توعد الله تعالى في كتابه العزيز من تركوا الهجرة مع قدرتهم عليها حتى ماتوا بأن الملائكة الذين يقبضون أرواحهم يوبخونهم توبيخاً عظيماً، قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً )

قال الطبري في تفسير هذه الآية : إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة ظالمي أنفسهم، يعني مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه، قالت الملائكة لهم ( فِيمَ كُنْتُمْ ) في أي شيء كنتم من دينكم ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ) يعني قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم : كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله، في أرضنا وبلادنا ، معذرة ضعيفة وحجة واهية ( قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) يقول : فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذُكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم، التي إعتذروا بها، التي بينها في قوله، خبراً عنهم ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ) وقال السعدي : قوله ( فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) فيه ذكر بيان السبب الموجب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع إجتماع شروطه، وأنتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع، وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر .



المطلب الأول : مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح بأمر الله تعالى .


إذا حان أجل العبد وأراد الله تعالى قبض روحه أرسل إليه ملك الموت ومعه ملائكة يعاونونه على قبض روح ذلك العبد، قال تعالى ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) فقولـه ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) أي أحتضر وحان أجله ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) أي ملائكة موكلون بذلك.

روى ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وغير واحد قولهم : إن لملك الموت أعواناً من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم .

يقول الطبري : يقول تعالى ذكره إن ربكم يحفظكم ، إلى أن يحضركم الموت، وينْزل بكم أمر الله وإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ورسلنا المرسلون به وهم لا يفرطون في ذلك، فيضيعونه ، فإن قال قائل : أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت فكيف قيل ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) والرسل جملة، وهو واحد، أو ليس قد قال ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) قيل جائز أن يكون الله تعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون التوفي مُضافاً، وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت، إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتل من قتل أعوان السلطان، وجلد من جلدوه بأمر السلطان إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده .

فالمتأمل في نصوص القرآن الكريم يدرك أن الله سبحانه وتعالى أسند التوفي للملائكة كما في قوله تعالى ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) وقوله ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) وقوله ( توفته رسلنا ) وغيرها من الآيات، وأسنده في آية أخرى لملك الموت، قال تعالى ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) وأسنده سبحانه في آية أخرى إليه جل وعلا، قال تعالى ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ولا معارضة بين الآيات المذكورة، فإسناد التوفي إليه سبحانه وتعالى ، لأنه لا يموت أحدٌ إلا بمشيئته وإذنه كما قال تعالى ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) وإسناده لملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وإسناده للملائكة، لأن لملك الموت أعواناًُ من الملائكة ينْزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت .

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

اللهم ارزقنا حسن الخاتمة
جزاك الله خيرا واثابك اخي الكريم
 
رد: أحوال المحتضر ..


المطلب الثاني : بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله وفرحه بذلك .


يشهد لحضور الملائكة وتبشيرهم قوله صلى الله عليه وسلم :" إن العبد المؤمن إذا كان في إنقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوهم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وإن العبد الكافر إذا كان في إنقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب "

فالملائكة تبشّر المؤمن بمغفرة الله ورضوانه، وتبشر الكافر والفاجر بسخط الله وغضبه، وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تتنْزل على المؤمنين بعدم الخوف والحزن، والبشرى بالجنة، قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ إسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) أي إن الذين أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم تتنّزل عليهم الملائكة عند الموت والاحتضار قائلين لهم ( أَلَّا تَخَافُوا ) مما تقدمون عليه من عمل الآخرة ( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين، فإنا نخلفكم فيه ( وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، ذكر هذا ابن كثير ثم روى عن زيد بن أسلم قوله بأن البشرى تكون عند الموت وفي القبر وحين البعث، ثم علّق ابن كثير على رأي زيد بقوله : وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع .

وقولـه تعالى ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ )أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الإحتضار نحن كنا أولياءكم : أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم .

وذكر الطبري في تفسيره أن تنَزل الملائكة عليهم، في الآية، معناه أن الملائكة تتهبط عليهم عند نزول الموت بهم قائلة لهم : لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد ذكروا أن هذا التنَزل عند الموت .

وقال الله تعالى سبحانه وتعالى في بشارة المؤمنين ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فالله جل وعلا يخبر في هذه الآيات عن أوليائه بأنه لا خوف عليهم فيما يستقبلونه أمامهم من الأهوال والمخاوف، ولا هم يحزنون على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا الأعمال الصالحة؛ لذلك كانت لهم البشارة، في الدنيا بالثناء الحسن والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، ولطف الله بهم وتيسيرهم لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفهم عن مساوئها، ولهم البشارة في الآخرة، وأولها البشارة عند قبض أرواحهم، وفي القبر، ثم دخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم .

قال الطبري : إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، ومنها بشرى الله إياه وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فالجنة، وأما قوله ( لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّه ) فإن معناه أن الله لا خلف لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يمضي لخلقه مواعيده، وينجزها لهم .

وقال ابن تيمية : وقد فَسّر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين :

أحدهما : ثناء المثنين عليه .

الثاني : الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له، فقيل : يا رسول الله الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه ؟ قال :" تلك عاجل بشرى المؤمن .

وقال البراء بن عازب : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) فقال :" هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له .

وأخبر الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين عند الإحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس، وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم، وتبشرهم بالجنة، حيث قال تعالى ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )

قال الشنقيطي ت1393هـ : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة : أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين : أي طاهرين من الشرك والمعاصي على أصح التفسيرات ، ويبشرونهم بالجنة، ويسلّمون عليهم، والبشارة عند الموت وعند الجنة من باب واحد، لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة، ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ويقولون لهم سلام عليكم أدخلوا الجنة أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلّم عليهم، ولم تبشرهم .

وقال تعالى ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ )

ففي هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات والشهوات، بالهداية إلى اليقين وتقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على التوحيد، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، ويضل الله الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة .

قال البغوي ت516هـ : قوله تعالى ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) كلمة التوحيد، وهي قول : لا إله إلا الله ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني قبل الموت ( وفي الآخرة ) يعني في القبر، هذا قول أكثر المفسرين، وقيل : في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر، وفي الآخرة عند البعث، والأول أصح .

وروى النسائي ت303هـ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكه الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون : أخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض !، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان ؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال : أما أتاكم ؟ قالوا: ذُهب به إلى أمة الهاوية ،وإن الكافر إذا إحتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون : أخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون : ما أنتن هذه الريح ! حتى يأتون به أرواح الكفار .

وفي سنن ابن ماجه ت 275هـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عـن النّبي صلى الله عليه وسلم قال :" الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان،فلا يزال يقال لها حتى تخرج،ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها، فيقال: من هذا ؟ فيقولون : فلان،فيقال : مرحباً بالنفس الطيبة،كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل ،وإذا كان الرجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فلا يفتح لها، فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان، فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أرجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر .

والمؤمن إذا بشر حين الإحتضار برحمة الله ورضوانه سرّ بذلك وفرح فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، أما الكافر فإنه إذا بُشّر بغضب الله وسخطه تألم وحزن، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة : أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت، قال : ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه .

فالعبد إذا أحب لقاء الله سعى إلى ذلك بالإخلاص له بالعبادة، والمتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحب الله لقاءه، وبُشر برحمة الله والجنة حين إحتضاره، فيفرح ويحب لقاء الله ويحب الله لقاءه، ففي هذا الحديث صفة حال الطائفتين، المؤمنة والكافرة، في أنفسهم عند ربهم، فمن أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه، وكذا الكراهة، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلاً على أنه بشر بالخير، وإذا ظهرت عليه علامات الحزن والضيق كان دليلاً على أنه بشر بالعذاب .

وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت، لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخيره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة، وأما عند الإحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبة .

وقد جاء في رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت : في حديث " من أحب لقاء الله " قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا طمح البصر، وحشرج الصدر، وأقشعر الجلد، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن المؤمن ينْزل به الموت، ويعاين ما يعاين، فودّ لو خرجت والله يحب لقاءه . فإذا كان عدواً لله نزل به الموت وعاين ما عاين، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً، والله يبغض لقاءه .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين يذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق " وفي ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر كما ذكره ابن المنير ونقله عنه ابن حجر .




المطلب الثالث : بشارة الملائكة الكافر بالعذاب .



جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تبشر الكافر بالعذاب، قال تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي أن الملائكة يبسطون أيدهم بالضرب والعذاب للظالمين حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم ( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) وذلك أن الكافر إذا إحتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي اليوم تهانون غاية الإهانة بسبب تكذيبكم على الله وإستكباركم على إتباع آياته والانقياد لرسله .

يقول الطبري في تفسير هذه الآية : وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته؛ فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله، وقيلكم عليه الباطل وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، وأستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته، عذاب الهون وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم حتى يعرفوا صغار أنفسهم وذلتها .

ويقول ابن القيم : فقول الملائكة ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) المراد به عذاب البرزخ، الذي أوله يوم القبض والموت .

وأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم حين الإحتضار، في سورة أخرى، بقوله تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فالله جل وعلا يخاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً له :" ولو تعاين يا محمد حين يتوفى الملائكة أرواح الكفار فتنْزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم، ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم، هذا العذاب لكم بما قدمت أيديكم، أي بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، وأجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، فذوقوا اليوم العذاب، وفي معادكم عذاب الحريق .

يقول ابن القيم : فهذه الإذاقة هي في البرزخ وأولها حين الوفاة؛ فإنه معطوف على قوله ( يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) وهو من القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره، وكلاهما واقع وقت الوفاة .

والأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بشارة الملائكة الكفار بالعذاب، وحزنهم بذلك كثيرة، سبق ذكر كثير منها في المبحث السابق .

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

جزاك الله خيرا
 
رد: أحوال المحتضر ..

المبحث الرابع : إنقطاع التوبة بحضور الموت .

أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون فإنه تعالى يقبل توبتهم، حيث قال سبحانه ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) وغيرها من الآيات الكثيرة، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه :" لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم " وعن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " وغيرها من الأحاديث الشريفة، فالنصوص الشرعية التي تحث على التوبة كثيرة جداً، إلا أنها غير مقبولة عند الله تعالى إلا حين تتوفر شروطها التي ذكرها العلماء استقراءً من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن تلك الشروط :

1- أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم .

2- الإقلاع عن المعصية .

3- الندم على فعلها .

4- العزم على عدم العودة إليها .

5- إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقاً للآخرين .

6- أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت .


والذي يعنينا من هذه الشروط في هذا المبحث هو أن التوبة لا بد أن تكون قبل حضور الموت لقوله تعالى ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً )

يقول الطبري : مالتوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والإستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال إشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال : إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب .

فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين : يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص .

وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ففرعون كفر بالله تعالى وكذّب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأساء إلى نفسه أيام حياته وفي صحته بتماديه في طغيانه ومعصية ربه، فلما حل به سخط الله ونزل عليه عقابه، فزع إليه مستجيراً به من عذابه الواقع به، وناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت قائلاً ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) له المنقادين بالذلة والعبودية، فقال سبحانه وتعالى معرفاً فرعون قبح صنيعه في حياته ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) آلآن تقر بالعبودية وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر .

قال السعدي: حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ ) وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو ( وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له ( آلْآنَ ) تؤمن، وتقر برسول الله ( وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أدركه الغرق قال ( قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال الله ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، ومثله قوله تعالى ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره ،وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل .

قال القرطبي : قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل،وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب .

وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان
مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب .

يقول الطبري: لم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل؛ لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا؛ إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته . ويشهد لهذا الشرط المهم من شروط قبول التوبة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ ،وقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ) قال بعض العلماء بأن المراد: إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، فلن تقبل توبتهم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية السابقة ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) وتقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا إتحد الحكم والسبب كما هنا .
وروى الطبري ت310? بسنده عن الحسن البصري ت110? قوله في هذه الآية هم اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت .

وقال ابن تيمية: قال الأكثرون: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفراً بعد كفر، فقوله ( ثُمَّ ازْدَادُوا ) بمنْزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، وأستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلاً عن هدمه .

أما ما ثبت أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال:" أي عم، قل : لا إله إلا الله كلمةًَ أحاجُّ لك بها عند الله ... " الحديث، فقد قال ابن حجر بأنه صلى الله عليه وسلم لقن عمّه الشهادة قبل أن يدخل في الغرغرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" أحاج لك بها عند الله " كأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه؛ لوقوعه عند الموت؛ أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ ( الشهادة ) فيحتمل أنه يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه، وهذا يدل على أن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل، كما يدل هذا الحديث على أن الكافر إذا شهد شهادة الحق قبل المعاينة وتحقق الموت نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله .

ونقل ابن حجر عن الكرماني قوله بأن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة على عمه كان عند حضور علامات الوفاة، وإلا فلو كان إنتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم، ثم قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون إنتهى إلى تلك الحالة، لكن رجاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال:"أجادل لك بها وأشفع لك " ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن إمتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال : هو على ملة عبد المطلب " ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه ، يشير في هذا إلى ما ثبت أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمّك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك ! قال صلى الله عليه وسلم :" هو في ضحضاح ٍمن نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "

وقال ابن بطال ت449: فإن قال قائل : فأي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة ؟ فالجوا بـ : أنه يحتمل وجوهاً من التأويل :

أحدها: أن يكون ظن صلى الله عليه وسلم أن عمّه إعتقد أن من آمن في مثل حاله لا ينفعه إيمانه؛ إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه عليه السلام أن من قال: لا إله إلا الله عند موته أنه يدخل في جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها .

ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قال فيه : هو على ملة عبد المطلب، عند خروج نفسه، فرجا له عليه السلام إن قال : لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله في أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصاً لأبي طالب وحده؛ لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبي عليه السلام وصدق معجزاته، ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبي، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باؤوا بإثمهم على تكذيب النبي عليه السلام، فرجا له عليه السلام المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله :" أحاج لك بها عند الله " لئلا يتردد في الإيمان، ولا يتوقف عليه؛ لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه في أنه كان مضلاًَ لغيره .

وقيل : إن قوله أحاج لك بها عند الله" كقوله : أشهد لك بها عند الله " لأن الشهادة المرجحة له في طلب حقه؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في هذا الباب بلفظ : الشهادة " لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله :" أحاج لك بها عند الله " في قصة أبي طالب في كتاب مبعث النبي عليه السلام، لاحتمالها التأويل .

ونص بعض أهل العلم على أن الخبر الذي فيه حضور أبي طالب الوفاة مطابق لقوله تعالى ( حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) وبالتالي فإن الأوضح أن يقال بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، وأستدل من قال بهذا القول بأمرين :


الأول : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" كلمة أحاج لك بها عند الله " ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: تخرجك من النار .

الثاني : أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب .

هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال ( إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة .

فإن قيل : هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات .

فإنه يقال : نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه .

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

يارب احسن فينا
وهون علينا الموت وما بعده يااااااااااااااااااارب ياااااااااااااااااااااااااااااارب
 
رد: أحوال المحتضر ..

المبحث الخامس : سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار .


الكافرون والمفرّطون في أمر الله تعالى يسألون الله عز وجل حال الاحتضار الرجعة إلى الحياة الدنيا؛ ليصلحوا ما كان أفسدوه في مدة حياتهم، قال تعالى عنهم ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فالكافرون يسألون الرجعة عند الاحتضار؛ ليسلموا، والعصاة ليتوبوا ويعملوا صالحاً، فلا يجابون إلى ذلك، كما قال تعالى ( كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) و ( كَلَّا ) حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله ( إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولو رُدّ لما عمل صالحاً ولكن يكذب في مقالته .

يقول الطبري في تفسيره للآية السابقة : يقول تعالى ذكره حتى إذا جاء أحد هؤلاء المشركين الموت، وعاين نزول أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين، مما يقدم عليه من عذاب الله تندماً على ما فات، وتلهفاً على ما فرط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسألته للإقالة ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) إلى الدنيا فرّدوني إليها ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ) يقول : كي أعمل صالحاً ( فِيمَا تَرَكْتُ ) قبل اليوم، من العمل، فضيّعته، وفرطت فيه .

ويقول السعدي : يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها وأقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ) من العمل، وفرطت في جنب الله ( كَلَّا ) أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ( إِنَّهَا ) أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ( كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) أي مجرد قول اللسان لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادق في ذلك؛ فإنه لو رُدّ لعاد لما نُهِي عنه .

ويدل على سؤال الرجعة وتمنيها حين الإحتضار قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) فكل مفرّط يندم عند الإحتضار، ويتحسر على ما فرّط في وقت الإمكان، ويسأل الرجعة إلى الدنيا، ولو لمدة يسيرة، ليستعتب ويستدرك ما فاته وما فرّط فيه، ويتصدق ويكون من الصالحين، لكن هيهات فهذا السؤال والتمني قد فات وقته ولا يمكن تداركه؛ ولهذا قال تعالى ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي لا يؤخر أحداً بعد حلول أجله، وهو سبحانه أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه .

قال أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية : يقول تعالى ذكره ( وَأَنْفِقُوا) أيها المؤمنون بالله ورسوله، من الأموال التي رزقناكم ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ ) إذا نزل به الموت : يا رب هلا أخرتني، فتمهل لي في الأجل ( إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) يقول فأزكي مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول بطاعتك وأؤدي فرائضك، وقيل : عني بقوله ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) وأحج بيتك الحرام .

وفي موضع آخر من كتاب الله تعالى يخبر جل وعلا عن حال الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب وحلول الأجل أنهم يسألون الرجعة وتأخير الأجل؛ نادمين على ما فعلوا، قال تعالى مخبراً عنهم ( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) وهذا كله أمل في التخلص من العذاب الأليم وإلا فهم كاذبون في وعودهم؛ ولهذا يوبخون بأن يقال لهم ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ) فهم يوبخون بتذكيرهم بكذبهم حين أقسموا أنهم لن يزولوا عن الدنيا إلى الآخرة، وهم يرون ويعلمون ما أحل بالأمم المكذبة قبلهم وما نزل بهم من العقوبات ولكنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا، بل أعرضوا واستمروا على باطلهم وظلمهم حتى وصلوا إلى اليوم الذي لا ينفع فيه إعتذار ولا تقبل فيه توبة،
قال الشنقيطي ت1393هـ : قوله تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وما تضمنته الآية الكريمة من أن الكافر والمفرّط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة؛ ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط، وأنهما لا يجابان إلى ذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو ( كلا )، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) وقوله تعالى ( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم؛ فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة، ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ) الظاهر أن لعل فيه للتعليل أي ارجعون لأجل أن أعمل صالحاً، وقيل : هي للترجي والتوقع؛ لأنه غير جازم بأنه إذا رُدّ للدنيا عمل صالحاً، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج، الذي كان قد فرّط فيه، والصلوات والزكاة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى، وقوله ( كلّا ) كلمة زجر، وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح .

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

المبحث السادس : حضور الشيطان حين الإحتضار .


روى مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة "

فقوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث : إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، فيه تحذير للعباد من الشيطان، وتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته وجميع أحواله؛ ليتأهبوا ويحترزوا منه، ولا يغتروا بما يزينه لهم .

وقد إستدل بعض العلماء بهذا الحديث على حضور الشيطان عند المحتضر؛ لإغوائه وأفتتانه، كما إستدلوا أيضاً بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو :" اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال "

قال ابن دقيق العيد ت 702هـ : فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الإفتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عنـد الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هـذا مـا قبل ذلك، ويـجوز أن يراد بها فتنة القبر .

كما قد إستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث الإستعاذة من فتنة المحيا والممات على حضور الشيطان عند المحتضر لإغوائه، وأنه قد يعرض الأديان على بعض العباد، حيث قال رحمه الله: أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمراً عاماً لكل أحد، ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا، منها ما في الحديث الصحيح : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :" الأعمال بخواتيمها " وقال صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " وقال في موضع آخر : وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض .

وذكر ابن حجر : أن الأكثر والأغلب في سوء الخاتمة أنه لا يقع إلا لمن في طويته فساد أو إرتياب، ويكثر وقوعه للمصرّ على الكبائر والمجترئ على العظائم، إذ يهجم عليه الموت بغته فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته .

ويدل على حضور الشيطان عند المحتضر قوله تعالى ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) فالمعنى : أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمرٍ من أموري كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات .

وتحدث أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي عن حضور الشيطان عند المحتضر تحت عنوان " الفصل الثاني والعشرون في إجتهاد الشيطان على المؤمن عند الموت " وأستشهد بما رواه النسائي وأبو داود بسنديهما عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اللهم إني أعوذ بك من التردّي،والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً "

فقولـه صلى الله عليه وسلم : وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت " قال الخطابي ت388هـ في شرحه: هو أن يستولي عليه عند مفارقة الدنيا، فيضله، ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له، ويلقى الله وهو ساخط عليه .

ويقول ابن الجوزي ت597هـ : وقد يتعرّض إبليس للمريض فيؤذيه في دينه ودنياه، وقد يستولي على الإنسان فيضله في إعتقاده، وربما حال بينه وبين التوبة، وربما جاء الإعتراض على المقدر؛ فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدرية للحرب، وحين يحمى الوطيس فينبغي أن يتجلد، ويستعين بالله على العدو .

وقد رُوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال : حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً فقلت له يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال : إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فتني، وأنا أقول : لا بعد، لا بعد، حتى أموت .

وقال القرطبي : سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول : حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد أحتُضر، فقيل له : قل : لا إله إلا الله، فكان يقول : لا، لا، فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال : أتاني شيطانان، عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما : مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول : مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا ، لا .

وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت، وهو يقول لأعوانه دونكم هذا فإن فاتكم اليوم لم تلحقوه .​

يتبع بإذن الله تعالى
 
رد: أحوال المحتضر ..

المبحث السابع : مشروعية تلقين المحتضر : لا إله إلا الله، وقول الخير عنده .



يشرع تلقين المحتضر لا إله إلا الله، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "

قال النووي: معناه من حضره الموت، والمراد: ذكروه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه، والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين .

وقال القرطبي : أي قولوا ذلك، وذكروهم به عند الموت، وسماهم موتى، لأن الموت قد حضرهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : تلقين الميت سنة مأمور بها .

وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه " وقال صلى الله عليه وسلم :" خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله "


وقد ذكر النووي كراهة العلماء للإكثار على المحتضر بالتلقين والموالاة، لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه؛ فيكره ذلك أو يتكلم بما لا يليق؛ ولهذا قالوا إذا نطق بالشهادة مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيعاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه .

وقال الترمذي ت279هـ : وقد كان يستحب أن يلقن المريض عند موته قول : لا إله إلا الله، وقال بعض أهل العلم : إذا قال ذلك مرة فما لم يتكلّم بعد ذلك فلا ينبغي أن يلقن، ولا يكثر عليه هذا، وروى عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله، وأكثر عليه، فقال عبد الله : إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام، وإنما معنى قول عبد الله إنما أراد ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من كان آخر قوله : لا إله إلا الله دخل الجنة "

وقال القرطبي : قال علماؤنا : تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون؛ وذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم :" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "

ولينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان؛ فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته، فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة واحدة فلا تعاد عليه لئلا يضجر، وقد كره أهل العلم الإكثار من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه، لأنه قد يتبرم من الإلحاح والإعادة، فيثقلها الشيطان عليه، فيكون سبباً لسوء الخاتمة .

وقد ذكر بعض أهل العلم أن المراد بتلقين المحتضر الشهادة : ذكرها عنده وتسميعها إياه، دون أمره بقولها، والحق أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم :" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " يدل على أن المراد أمره بأن يقولها، لا مجرد ذكر الشهادة عنده وتسميعها إياه، كما يشهد لذلك ما رواه أنس رضي الله عنه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال : يا خال، قل: لا إله إلا الله، فقال : أخالٌ أم عم ؟ فقال : بل خال، فقال : فخير لي أن أقول : لا إله إلا الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم "

قال القرطبي : لا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من التيقظ .

وقال ابن عثيمين ت 1421هـ :أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول: قل، لأنه ربما مع الضجر يقول : لا ، لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث، أي في قصة تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، قال :" قل، والجواب: أن أبا طالب كان كافراً فإذا قيل له : قل، وأبى فهو باق ٍعلى كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم، فهو على خطر؛ لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه .

وقد يرد إشكال عدم ذكر مشروعية تلقين المحتضر شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجواب على ذلك ما ذكره ابن حجر بقوله : والمراد بقول لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة، ثم نقل قول ابن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعاً .

وقد روى ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب مؤمن إلا غفر الله لها .

ويشهد له ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صادقاً من قلبه دخل الجنة "

وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ،غير شاك فيهما إلا دخل الجنة "

فدلت هذه النصوص على أن تلقين المحتضر : لا إله إلا الله، ونطقه بها متضمن لإيمانه بأن محمداً رسول الله .

قال ابن القيم: لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها، عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقلبت بعد إعراضها، وذلت بعد عزّها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها، واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه فاستسلم وحده ظاهراً وباطناً، واستوى سره وعلانيته فقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شهوته وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه؛ لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة، وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفرّ إلى الله من الناس، وأنس به دون ما سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي فإن قيل : هل يُعرض الإسلام على الصبي والكافر ؟

فيقال : عنون البخاري ت256هـ بهذا العنوان " هل يُعرض على الصبي الإسلام " للباب التاسع والسبعين من كتاب الجنائز، كما عنون بـ " كيف يعرض الإسلام على الصبي " للباب الثامن والسبعين بعد المائة من كتاب الجهاد، ثـم أورد فيـهما مـا رواه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد، وقد قارب الحلم :" أتشهد أني رسول الله ؟ "

وأورد في كتاب الجنائز ما رواه بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له :" أسلم " فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار، وفي رواية " الحمد الله الذي أنقذه بي من النار "

قال ابن حجر : وفي الحديث جواز إستخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، وإستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحّته منه ما عرضه عليه، وفي قوله " أنقذه بي من النار " دلالة على أنه صح إسلامه .

كما دل الحديث على جواز حضور المسلم وفاة الكافر؛ ليعرض الإسلام عليه، رجاء أن يسلم .

وعلى من يحضر المحتضر ألا يقول إلا خيراً، فعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون "

قال النووي في شرحه هذا الحديث : فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له، وطلب اللّطف به، والتخفيف عنه، ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم .

وعنها رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال:" إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال:" اللهم أغفر لأبي سلمة، وأرفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، وأغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه " قال النووي في هذا الحديث: دليل على إستحباب إغماض الميت، وأجمع المسلمون على ذلك، قالوا والحكمة فيه ألا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه، وفيه إستحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وذريته بأمور الآخرة والدنيا .

وقال القرطبي : قال علماؤنا: قوله صلى الله عليه وسلم : إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً " أمر ندب وتعليم بما يقال عند المريض أو الميت، وإخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك؛ ولهذا أستحب العلماء أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكروه، ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت ومن يصاب به ومن يخلفه .


يتبع بإذن الله تعالى
 

عودة
أعلى